غالبًا ما تخرج الشعوب من فترات الحروب والنزاعات والثورات، بحالة من الخراب والدمار الشامل على مختلف الصعد، ليجد المجتمع نفسه، بعد التخلص من النظام القديم، في مواجهة تحدٍ كبير، هو بناء نظام سياسي جديد يتلاءم مع تطلعات الناس، وأساس هذا البناء هو النظام القانوني الذي يُفترض به أن يوفر البيئة، والشرعية، والآليات القانونية، لبناء النظام السياسي المنشود.
والدستور، وهو رأس أي نظام قانوني ومظلته، يضع أسس النظام السياسي الجديد، ويحدد شكله وطبيعته، ويحدِّد السلطات العامة، ووظائفها، وكيفية توليها وممارستها وانتقالها، وعلاقاتها البينية. كما يحدِّد، ويحمي، الحقوق الأساسية للمواطنين والحريات العامة، ويتيح للشعب محاسبة حكامه، ويوفر له الآليات اللازمة لتغييرهم، من دون عنف، عندما يتطلب الأمر.
نحتاج -إذن- إلى صوغ دستور ديمقراطي، يحظى بإجماع مختلف قوى وفئات المجتمع، ويكون قادرًا على البقاء فترة طويلة نسبيًّا، لكن ظروف المجتمع الخارج من الأزمة لا تسمح بذلك؛ فآثار المرحلة الماضية تلقي بظلالها القاتمة على المشهد، فحجم الانتهاكات الحاصلة مرعب، والثقة شبه معدومة بين فئات المجتمع، وفلول النظام القديم تبذل وسعها لاسترجاع نفوذها، والقوى المنتصرة، في الثورة أو في الحرب، تسعى لفرض رؤيتها وشروطها، والتدخّلات الخارجية على أشُدِّها.
في مناخات صعبة ومعيقة كهذه، لا بدّ من إيجاد حلول يقبلها الجميع، سواء في اختيار فريق المشرِّعين الدستوريين (الهيئة التأسيسية)؛ حيث لا بدّ من تمثيل جميع الفئات من دون استثناء، أم في صيغة مسودة الدستور؛ حيث لا بدّ من صيغة مقبولة من الجميع، وتتيح فرص التعايش والتعاون وانتقال السلطة بسلاسة، وحتى تكون كذلك، يُفترض بها أن تعبر عن رأي الأغلبية، من دون أن تهدر حق الأقلية، (أغلبية وأقلية بالمعنى السياسي).
لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد، إذ لا يكفي، لطمأنة الأقلية، وجود صيغة دستورية تحقق التوافق والرضا، فلا شيء يمنع من قيام الأغلبية في لحظة ما، باستغلال أغلبيتها، وإجراء تعديلات على الدستور، تهدر حقوق الأقلية مجددًا، فالخوف من طغيان الأغلبية يتعلّق بالحاضر وبالمستقبل.
لا بدّ -إذن- من وجود ضمانات، في صلب الدستور، بأن لا تُجرِي الأغلبية، في لحظة ما، تعديلات من شأنها النيل من حقوق الأقلية، أي: لا بد من حائل يحول دون طغيان الأغلبية (مهما ثقل وزنها) على حقوق الأقلية (مهما خفّ وزنها)؛ لذلك، فإن التفويض الذي سيُمنح لمن سيُناط بهم وضع الدستور، لا يجب أن يكون تفويضًا مطلقًا، بل تحدُّه قيود محددة، تُلزمهم بأن يضمّنوا مسوّدة دستورهم مبادئ محددة، لا تسمح لأي أغلبية قادمة باستبعادها من الدستور لاحقًا. كما لا يجوز لها إحلال أحكام جديدة تخالفها، وهذه المبادئ هي ما اصطُلح على تسميته “مبادئ فوق دستورية”.
لا تتوقف الحاجة إلى المبادئ فوق الدستورية، على منع طغيان الأغلبية، وضمان حقوق الأقلية، وإن كان هذا الجانب هو الأعقد، بل يُناط بها -أيضًا- مهمة عدم إتاحة الفرصة للنظام القديم؛ كي يتسلل، ويعود عبر ثغرات، قد تولّدها العملية الدستورية نفسها. يُناط بها، إضافة إلى ذلك، مهمة ضمان وحراسة حقوق الإنسان والحريات العامة، والمحافظة على وحدة البلاد.
يمكنكم قراءة البحث كاملًا بالضغط على علامة التحميل