المحتويات
أوّلًأ: تاريخية العلاقة الروسية-السورية
ثانيًا: مواقف روسيا تجاه القضية السورية
ثالثًا: ماذا تريد روسيا من تدخلها في سورية
رابعًا: انعكاس تدخّل روسيا على علاقاتها الإقليمية
خامسًا: الاتفاق الروسي-الأميركي وهدنة حلب
سادسًا: دولتان عُظميان على الأرض السورية
سابعًا: مآل التدخل الروسي في سورية
مقدّمة
شكّل التدخل الروسي المباشر في الصراع الدائر في سورية وعليها، منعطفًا خطرًا في مساره، وزاد الوضع تعقيدًا، أربك الحلول السياسية المطروحة، وأمدّ في عمر الصراع وفاقم من مأساة السوريين من خلال القصف الهمجي الذي يقوم به الطيران الروسي مستهدفًا المدنيين والتشكيلات المعارضة المسلحة على امتداد الأرض السورية، كما أنه كشف النقاب عن صراع النفوذ الدولي والإقليمي وحروب الوكالة الدموية. فما الذي دفع روسيا نحو هذا التدخل؟ وما قدرتها على تحمل نتائجه السياسية والاقتصادية؟ وما مآلاته؟
أوّلًأ: تاريخية العلاقة الروسية-السورية
تعود العلاقة السورية مع الاتحاد السوفياتي السابق، ووريثته روسيا، إلى عقد الخمسينيات من القرن الماضي عندما كانت الحرب الباردة في ذروتها. فسورية التي رفضت حلف بغداد ومشروع الهلال الخصيب الهادفين إلى الحدّ من التمدّد السوفياتي، وقاومتهما، كانت في حاجة إلى تسليح جيشها، وهي، ربما، ورثت أيضًا العلاقة المصرية-السوفياتية بعد انهيار الوحدة. كما شهدت هذه العلاقة تطورًا نوعيًا مطلع ثمانينيات القرن الماضي عندما وقّع الطرفان “اتفاقية الصداقة والتعاون” في تشرين الأول/ أكتوبر عام 1980. ولقد استمرت هذه العلاقة، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، مع وريثته روسيا التي لم يعكّرها الخلاف معها حول الديون السوفياتية المستحقة على سورية، والتي وجدت لها حلولًا صامتة.
حرص النظام السوري على ديمومة وتعميق العلاقة مع الروس، ليس بدافع الحاجة إلى الأسلحة الروسية فحسب، حيث يتبنى الجيش السوري العقيدة الروسية في التنظيم والتدريب والقتال، بل لأسباب سياسية واقتصادية، وخاصة أنه المستفيد الأكبر من هذه العلاقة في تجلياتها كلها؛ ولديه الحرص ذاته على أن تكون علاقته مع أميركا جيدة على الدوام، بغض النظر عن خطابه الإعلامي تجاهها؛ وبات الآن مفهومًا بشكل أدق مغزى المقولة التي تردّدت طوال العقود السابقة بأن النظام السوري يُغازل موسكو ويُعاشر واشنطن، فقد انكشف الدور الوظيفي المنوط به من أطراف دولية فاعلة ومنها روسيا، وهذا يستدعي أن تكون علاقته جيدة ومحسوبة مع جميع الأطراف المعنية.
في المقابل، تحرص موسكو على علاقتها بالنظام السوري، حيث تعدّه النظام الأكثر وفاءً لها في الشرق الأوسط، فهو لم يفعل، على سبيل المقارنة، ما فعله السادات عندما طرد الخبراء السوفيات عشية حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، بل، على العكس من ذلك، عمل على تأمين مصالحها على الدوام، حتى لو كانت غير مغرية لها بالمعنى الإستراتيجي، حتى 30 أيلول/ سبتمبر 2015 على الأقل.
ثانيًا: مواقف روسيا تجاه القضية السورية
يمكن متابعة المواقف الروسية تجاه القضية السورية في مرحلتين متمايزتين شكلًا، متكاملتين مضمونًا، يفصل بينهما التدخل العسكري الروسي المباشر في 30 أيلول/ سبتمبر 2015، مرحلة ما قبل التدخل ومرحلة ما بعده، سواءً من حيث الأسلوب والأدوات أم من حيث النتائج.
أ- مرحلة ما قبل التدخل العسكري المباشر
لم تخفِ موسكو منذ انطلاقة الثورة السورية في 18 آذار/ مارس 2011 موقفها الصريح والحازم إلى جانب النظام الذي أمدّته -وما زالت- بجميع أنواع العتاد الذي يحتاجه في حربه على الشعب السوري، عدا عن الخبراء والمعلومات الاستخبارية؛ لكن يبقى أن أهم صنوف الدعم في هذه المرحلة كان الغطاء السياسي الفاعل والحماية من الملاحقة القانونية في المحافل الدولية، وبخاصة في مجلس الأمن الذي عطلته عبر استخدامها حق الفيتو ثلاث مرات، أحدها مزدوج مع شريكتها الصين، كما منعت المجلس، وهو المنوط به حفظ السلم والأمن الدوليين، مراتٍ عديدةٍ حتى من مجرد إصدار بيان رئاسي لإدانة إحدى الجرائم التي ارتكبها النظام بحق المدنيين العزل على كثرتها، كما أنقذت النظام، وأمّنت إفلاته من العقاب، عندما استخدم الكيماوي في آب/ أغسطس 2013 في الغوطتين الشرقية والغربية بريف دمشق، السلاح الذي قتل المئات من المدنيين، أغلبهم من الأطفال، بغاز السارين السام، من خلال رعاية الروس لاتفاق (صفقة) مع الأميركيين للاكتفاء بنزع السلاح الكيماوي من مستودعات النظام، في سابقة يرى كثير من المتابعين أنها ستؤثر على صدقية المجتمع الدولي ومنظمة حظر السلاح الكيماوي والدولتين الراعيتين، خاصة أنها فصلت بين الجريمة وأداتها ومنفذّها، واكتفت بسحب الأداة من يد الجاني. وعلى هذا الصعيد أيضًا عطّلت موسكو جميع القرارات المفصلية التي صدرت عن مجلس الأمن الدولي على مدى سنوات الصراع، على الرغم من أنها كانت شريكًا في صوغها وإصدارها، بدءًا ببيان جنيف1 لعام 2012، والقرار 2118 لعام 2013، والقرار 2254 لعام 2016، وكذلك بياني فيينا1 وفيينا2 لعامي 2015 و2016، على التوالي؛ وكل ذلك للمداورة على مصير الأسد، واستبعاده من النقاش والحلول، وليس أدل على هذه الحقيقة مما جاء في خطاب لافروف أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 26 أيلول/ سبتمبر 2016 من أن “مطالبة المعارضة برحيل الأسد تُشكّل خرقًا لقرارات مجلس الأمن الدولي”.
جانب آخر مارسته موسكو في تغطيتها السياسية ودعمها للنظام، لا يقل خطورة عما فعلته على الصعد الأخرى، ولو أنه كان بائسًا في نتائجه من الناحية العملية حتى الآن، ألا وهو محاولتها شقّ صفّ المعارضة السورية، والتشويش على عملها السياسي-على ضعفه- عندما عملت وأطّرت معارضة تقبل برؤيتها للحل السياسي المتعارض مع القرارات الدولية وبيان جنيف1، هذه الرؤية التي تُقزّم هذا الحل إلى مجرد تأليف حكومة موسعة بقيادة الأسد مع بعض الإصلاحات الشكلية.
وجدت موسكو، وبحكم فقر الحقل السياسي السوري الذي صحّرته عقود الاستبداد المديدة، من يرى فيها صديقًا ومُنقذًا تحت غطاء “أيديولوجي يساري”، يستر خوفًا أو مواقف أقلوية أو طائفية مُبطّنة. فكانت هناك مؤتمرات موسكو1 وموسكو2 والآستانه1، قبل أن ينتقل مقرّ هذه المؤتمرات والنقاشات إلى قاعدة “حميميم” الجوية في محافظة اللاذقية توفيرًا للجهد على “معارضتها السورية”، ولتأكيد ممارسة هذا الدور على الأراضي السورية إيحاءً، أو تصريحًا، بترسيخ نفوذها في الواقع السوري.
ما زالت “معارضة موسكو” أو “معارضة حميميم” تأمل أن يحجز لها حليفها أو وليّ أمرها الروسي مكانًا في مستقبل سورية إلى جانب الأسد، وهو أمر يعادل تواطؤها وسكوتها عن الدم السوري المسفوح على يد النظام وحلفائه، ومنهم روسيا، دون أن تُساورها أي شكوك أو هواجس بأن هذا “الحليف” يخدعها، لذلك تراها منهمكة بكل ثقة في إعداد مشاريع دستور وفدرالية وجندرة وتصويب لخطط دي مستورا كلما زلّ قلمه بتعديل ما لمسار الحل بما يخالف الرؤية الروسية. ولا تشذّ كثيرًا عن هذا التوجه “هيئة التنسيق الوطنية” التي تدّعي تمثيلها “معارضة الداخل”، خاصة عندما حضرت مؤتمر الرياض، وانضمت إلى هيئة التفاوض التي انبثقت منه، في خطوة أحاطتها شكوك وتساؤلات حول مراميها والدور المنتظر منها عندما يحين وقته؛ أي، بكلام آخر، هل أُريدَ لهذه الهيئة أن تكون كعب أخيل في هيئة التفاوض؟ تساؤل تؤكده كل يوم ممارساتها وخطابها الذي ما زال، بطريقة أو أخرى، أمينًا للحل الموسكوفي.
كثرٌ هم الذين يتساءلون ماذا عن الموقف الأميركي من هذه اللاعقلانية الروسية في مجلس الأمن وتعطيلها الدور الأممي؟ تساؤل تجيب عنه الإستراتيجية الأميركية لإدارة الملف السوري، المعلن منها أو المستور، التي تقوم على صيغة لا غالب ولا مغلوب في هذا الصراع، الأمر الذي يستلزم إضعاف جميع الأطراف المنخرطة فيه كي تقبل راضية أو مكرهة بهذا الحل. ومادام جهد الروس، أو غيرهم، يصبّ، في المآل الأخير، وبغضّ النظر عن النوايا، في خدمة هذا الهدف، فما الضير بأن تتحمل موسكو العبء الأخلاقي والسياسي لـ “الحماقات” التي ترتكبها بحق السوريين، سواءً في مجلس الأمن والمحافل الدولية الأخرى، أم في الميدان؟!
ب- مرحلة ما بعد التدخل
هدفت موسكو، من خلال توفيرها الدعم اللوجستي غير المحدود، والغطاء السياسي الفاعل، وحماية النظام من الملاحقة القانونية الدولية، وأخيرًا تدخلها العسكري المباشر، إلى إتاحة الفرص، الواحدة تلو الأخرى، كي يحسم النظام الصراع بقواه الخاصة، أو بمساعدة إيران وميليشياتها التي تدخلت منذ الأشهر الأولى لانطلاقة الثورة. لكن، في ربيع 2015، حدث تطوّر ميداني كبير لمصلحة قوى المعارضة المسلحة، عندما اجتاحت محافظة إدلب كاملة، وهدّدت حصون النظام في اللاذقية، تطوّر رعب إيران والنظام الذي اعترف رئيسه في حينه بهزيمة جيشه في إدلب، وبأنه يعاني نقصًا في الموارد البشرية، وبالتالي، فهو سيكتفي بالدفاع عما سماه “سورية المفيدة”، وأطلق مقولته الشهيرة “سورية لمن يدافع عنها”.
عند هذا التحول الكبير في مجرى الصراع الذي آذن بقرب انهيار النظام، سارع قاسم سليماني إلى موسكو طالبًا تدخلها المباشر، ورتب معها عملية التدخل ومستلزماتها السياسية والمالية وتوزيع الأدوار والنفوذ، حيث سجّل -ولا شك- تراجعًا مُسلمًا به للنفوذ الإيراني لمصلحة روسيا.
يُضاف إلى ما سبق من العوامل التي دفعت في اتجاه التدخل الروسي المباشر، عامل مهمّ في السيكولوجيا الروسية المسكونة بالإرث القيصري: الثأر، أو رد الصاع للغرب، إن جاز التعبير، الذي غدر بروسيا في ليبيا بعد أن استدرجها للموافقة على قرار أممي بالتدخل العسكري لحماية المدنيين الليبيين في بنغازي، وانتهى عمليًا بتصفية نظام القذافي حليفها القديم، واستأثر بكامل الكعكة الليبية، وحرمها من مصالحها ونفوذها الكبيرين هناك.
أعلنت روسيا عن تدخلها رسميًا في الثلاثين من أيلول/ سبتمبر 2015، وحدّدت هذا التدخل بمدى زمني قدره ثلاثة أشهر، مُدّدت لاحقًا لثلاثة أشهر أخرى. وعلى الرغم من الإعلان عن انسحابها في 15 آذار/ مارس 2016، بعد أن “حقق التدخل أهدافه” كما ادّعت وزارة الدفاع الروسية، إلا أنه تبين لاحقًا توسّع هذا التدخل كمًا ونوعًا، والذي أُردِفَ بقوات برية تأخذ شكل ميليشيا كُشف عن وجودها مؤخرًا شرقي حلب.
لكن، تبيّن أن الوجود ذا السقف الزمني المحدّد، هو أمر وهمي، إذ كشف الروس عن اتفاقية سرّية “مشؤومة” موقعة بين بوتين والأسد في 26 آب/ أغسطس 2015، أي قبل شهر من بدء التدخل الروسي العسكري، تمنح روسيا الحق في نشر قواتها في القواعد العسكرية والمدن السورية، وتحمي عناصرها من المحاكمة في حالة القيام بجرائم حرب، وتعفيهم من أي مسؤولية عن أفعالهم، وتمنحهم حصانة كاملة من أي ملاحقات قانونية، تحسّبًا من مطالبة أي حكومة في المستقبل بملاحقتهم عن جرائم الحرب التي قد يرتكبونها، كما تضمن بقاءهم مدة غير محدودة، لا يخضعون خلالها لأي ضوابط من جانب السلطات السورية، كما تمنع السوريين من دخول القواعد العسكرية الروسية من دون إذن من روسيا، وكل ذلك مقابل حمايتهم حكم الأسد.
مارست روسيا في تدخلها قصفًا جويًا همجيًا، يطابق خيارها الشيشاني، فدمرت مدنًا وحواضر لن يكون آخرها حلب، وقتلت حتى الآن بشكل متعمد مئات المدنيين العزل، وأثّرت بشكل فاعل على ميزان القوى لمصلحة النظام؛ غير أن الخطورة الأكبر التي ترتبت على هذا التدخل، هي في كونها نقلت الصراع في سورية من طابعه المحلي والإقليمي إلى حدّ ما، إلى بعده الدولي، فتحوّل من صراع بين شعب ينشد الحرية والكرامة والعدالة في مواجهة نظام يريد تأبيد طابعه الاستبدادي ودوره الوظيفي، إلى صراع نفوذ على سورية بين الدول الفاعلة، صراع لم يعد ممكنًا حله إلا بربطه بجملة من الصراعات والمصالح المتصادمة على مستوى الإقليم وفي العالم، ما يجعل هذا الحل عسيرًا وبعيدًا.
ثالثًا: ماذا تريد روسيا من تدخلها في سورية
تُحاجج روسيا في تبرير مواقفها وتدخلها في سورية، بأنها تلتزم القانون الدولي الذي يؤكد احترام سيادة الدول، ويمنع التدخل في شؤونها الداخلية، ولا يُجيز تغيير الأنظمة بالقوة؛ وتستحضر العراق وليبيا كمثالين على فشل سياسة التدخل التي ينتهجها الغرب في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة. وهي حجج واهية تكذبها وقائع التدخل الروسي وارتكاباته اليومية في سورية.
لا تنبع هواجس موسكو من هذه الناحية من حرصها على القانون الدولي، بل من خشيتها من أن يصل هذا التدخل إلى فضائها السوفياتي القديم في جمهوريات آسيا الوسطى، سواءً جاء عبر الثورات الملونة، أم عبر تمدّد الأطلسي، الوئيد والثابت، نحو حدودها الغربية والجنوبية الغربية. يؤكد هذا الأمر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في مقابلة مع برنامج 60 دقيقة الإخباري في أيلول/ سبتمبر 2015، حين يقول: “من غير المقبول إطلاقًا أن تُحلّ قضايا السياسة الداخلية لجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق من خلال ثورات ملونة، أو من خلال انقلاب عسكري، أو من خلال إطاحة السلطة بطريقة غير دستورية “، وحين اتهم كلينتون بأنها تقف وراء اشتعال التظاهرات في أوكرانيا احتجاجًا على نتائج الانتخابات عام 2011 عندما شككت في نتائجها ورأت أنها “لم تكن حرة ولا نزيهة”؛ تاليًا، أُسقط الرئيس الأوكراني، فيكتور بانكوفيتش، عام 2014 وسط جدل واسع في أوكرانيا على خلفية الركود الاقتصادي الذي تعانيه البلاد. فهل يصحّ الاستنتاج، والحالة هذه، أن الحرب العدوانية التي تشنها موسكو على سورية هي حرب دفاعية ذات طابع هجومي؟ الوقائع تقول نعم. ذلك أنه من غير المعهود في السياسة الروسية الحديثة اعتماد سياسة التدخل العسكري والاحتلال التي وصمت الحقبة السوفياتية، بعيدًا من اعتماد دبلوماسية الحوار والخيارات المفتوحة، حيث يُشكّل التدخل الروسي في سورية ثاني خروج للسياسة الروسية عن إطارها المعتاد، بعد احتلالها شبه جزيرة القرم، وتدخّلها إلى جانب انفصاليي إقليم بانيباس شرقي أوكرانيا، إذا قلنا إن التدخل الروسي في جورجيا اكتنفته ملابسات مختلفة.
لعل أهم ما تهدف إليه روسيا، من وراء تدخلها في سورية، إجبار الغرب وأميركا على إنهاء العزلة والعقوبات التي أنهكت الاقتصاد الروسي، تلك التي فرضت عليها من جرّاء ضمها شبه جزيرة القرم في آذار/ مارس 2014، ودعمها الانفصاليين في شرقي أوكرانيا، ذلك أن أميركا والغرب يُحمّلان روسيا مسؤولية حلّ الأزمة في أوكرانيا، كما ترفض أميركا الإلحاح الروسي على ربط الملفين السوري والأوكراني، وتصر الجهتان (أميركا والاتحاد الأوروبي) على ضرورة أن تمتثل روسيا لخارطة طريق مينسك2، وأن تتيح للقوات الأوكرانية بسط سيطرتها على حدودها الخارجية كشرط لا غنى عنه لرفع العقوبات عنها.
تهدف روسيا أيضًا من وراء تدخلها في سورية، ومجمل حراكها السياسي والعسكري على الساحة الدولية في السنوات الأخيرة، إلى إعادة صوغ العلاقة الدبلوماسية مع الولايات المتحدة الأميركية، وأن تُعامل على قدم المساواة معها في العلاقات الدولية. وعلى الرغم من أن أوباما وصف روسيا سابقًا بأنها “دولة إقليمية”، إلا أن طموحًا من هذا القبيل يُساور قادة الكرملين بشكل جدّي، وهو اعتقاد تعزّز بعدما استطاع بوتين إقناع أوباما بتجاوز خطوطه الحمراء في مسألة السلاح الكيماوي السوري، والاكتفاء بسحب هذا السلاح من الأسد بعد أن استخدمه في آب/ أغسطس 2013، خاصة أن روسيا ترى أن إدارة أوباما تُمارس سياسة انسحابية وغير مستعدة لتدخّل فعال في سورية. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق، هو هل تُعطي إمكانات روسيا بمختلف تجلياتها، واقعية لمثل هذه الطموحات، بحيث تُجبر أميركا والأنداد الدوليين الآخرين على الإقرار لها بهذا الدور؟
ثمة أهداف أخرى للتدخل الروسي منها ادعاء روسيا أنها جاءت لمحاربة “الإرهابيين” في سورية، وبعضهم من الجمهوريات السوفياتية السابقة، وقتلهم بعيدًا من الأراضي الروسية قطعًا لطريقهم نحوها؛ وفي الحقيقة، فإن روسيا تحاول أن تستثمر في الحرب الدولية على الإرهاب بما أنها بضاعة السياسة الدولية الرائجة في هذه المرحلة، وكثيرًا ما أبدت استعدادها للمشاركة في الحلف الدولي لمحاربة الإرهاب الذي تقوده الولايات المتحدة، إلا أنها ما زالت تُقابل بالرفض لأن أميركا لا تريد لروسيا أن تستفيد من هذا الاستثمار لتغطية تدخلاتها العسكرية القائمة أو المستقبلية، ولا أن تستفيد من المعلومات الاستخبارية التي يحوزها هذا التحالف، لكنها لا تُمانع بأن تساهم روسيا في ضرب مواقع “داعش” بشكل منفرد ومن خارج هذا التحالف؛ كما تحاول روسيا إقناع أميركا بقبول مشاركة النظام السوري في الجهد الدولي لمحاربة الإرهاب بوصفه “ضحية لهذا الإرهاب”.
من جهة أخرى، ترى روسيا أن الصراع في سورية يُشكّل ساحة قليلة التكلفة لتجريب أسلحتها الجديدة على هامش هذه الحرب وتسويقها، وميدان تدريب مجاني لجيشها الذي أطلقت عملية تحديثه وتطوير أساليب قتاله منذ العام 2008 ما دامت إيران تتحمل تكاليف هذا التدخل.
ومما لا شك فيه أن لروسيا مصالح اقتصادية ولوجستية في سورية (مطار حميميم وميناء طرطوس)، كما أن علاقتها التاريخية بالنظام السوري تجعل هذا التدخل ليس مستغربًا. ومن جانب آخر، إذا كان صحيحًا أن الصراع في سورية شكّل مناسبة للحراك السياسي والعسكري لروسيا، وأتاح لها إمكانية العودة إلى الشرق الأوسط بعد أن انكفأت عنه منذ نهاية عقد الثمانينيات، لكن، هل تعادل كل هذه الدوافع وزر المغامرة الروسية وتبعاتها السياسية والأخلاقية وآثارها على مستقبل العلاقات مع شعوب المنطقة؟ المنطق يقول لا، وبالتالي، فإن دوافع التدخل الروسي تتكثّف، في التحليل الأخير، بمحاولة روسيا مبادلة تدخلها، والإسهام في إنهاء هذا الصراع، بملفات أخرى شائكة مع الغرب، ترهقها وتضعفها على المستوى الإستراتيجي؛ وعليه فالفاتورة التي تريدها موسكو، إن اضطرّ الغرب لدفعها، ستُصرف خارج سورية.
رابعًا: انعكاس تدخّل روسيا على علاقاتها الإقليمية
– حتّم تدخل روسيا في سورية إعادة ترتيب علاقاتها مع الدول الإقليمية المعنية بالصراع الدائر فيها، لأنه من الطبيعي أن يتسبب بتوترات مع البعض، ويدفع إلى تحالفات أو تفاهمات مع البعض الآخر؛ ولعل أسهل تلك الترتيبات كان مع “إسرائيل”، حيث تعهدت روسيا بضمان أمن حدودها من الجانب السوري، ووجد هذا ترجمته العملية، بالتعاون مع الأردن، بخمود الجبهة الجنوبية التي كانت ناشطة آنئذِ؛ كما اتفقت معها على تبادل المعلومات وتنسيق حركة الطيران فوق الأجواء السورية. ولا يُستبعد أن تكون هناك تفاهمات غير معلنة تتعلق بالحل السياسي وطبيعة النظام المقبل وعلاقته بـ “إسرائيل”، وبعملية السلام في الشرق الأوسط بما يراعي المصالح الإسرائيلية، لأن روسيا مهتمة برضا “إسرائيل” وعدم إزعاجها.
– أما من جهة العلاقة مع تركيا التي شهدت توترًا بلغ ذروته عندما أسقطت تركيا طائرة حربية روسية اخترقت مجالها الجوي، فهناك خلاف حاد بين الموقفين الروسي والتركي من الصراع في سورية، وكل منهما تراه من منظور مختلف، بحسب ما تقتضيه المصالح والأدوار والسياسات تجاه سورية والمنطقة، إلا أن الطرفين، وفي ذروة التوتر، كانا حريصين على ألا تنزلق العلاقة إلى مواجهة عسكرية بينهما؛ لكن الاستدارة التي قام بها الرئيس التركي والتجاوب الروسي السريع مع اعتذاره عن إسقاط الطائرة، أعاد العلاقات بينهما إلى سابق عهدها، أقلّه في الجانب الاقتصادي الذي تضرر منه الطرفان. فقد جرى تحويل شكل العلاقات بينهما، هذا التحويل الذي يقوم على الفصل بين السياسي والاقتصادي. وترى موسكو أن من إيجابيات هذا الاتفاق، أنه يضيِّق فجوة التباينات بينهما في الملف السوري. وذهبت صحيفة (سبوتنيك) الروسية إلى الإشارة إلى “استعداد موسكو وطهران للمساعدة في رأب الصدع بين أنقرة ونظام الأسد تحت مسمى مكافحة الإرهاب”، وقد ظهرت ثمار هذه المصالحة في سكوت روسيا عن توغل القوات التركية في الأراضي السورية ضمن عملية درع الفرات، ولعل التحفظ الوحيد والخجول الذي أبدته موسكو كان على لسان الناطقة باسم خارجيتها، ماريا زاخاروفا، في 24 آب/ أغسطس 2016 عندما أعربت عن قلقها “من اشتعال الصراع بين الأكراد والعرب بسبب التوغل التركي”. فما الذي قدمته تركيا؟ وماذا طلبت موسكو؟ أسئلة ستتضح معالم أجوبتها مستقبلًا.
– أما من جهة إيران، فإن طابع العلاقة معها أكثر تعقيدًا، نظرًا إلى أنها تعمل على مشروع قومي توسعي يتلبّس إهابًا مذهبيًا، ولكونها مصرّة على المضي به بغضّ النظر عن تكاليفه البشرية والمادية؛ كما أنها ترى في وجودها المباشر على الأرض، والمحافظة على سلطة الأسد، ضمانتين أساسيتين لمشروعها.
تتشارك طهران وموسكو الرأي حول ضرورة بقاء الأسد، لكنهما تختلفان حول قضايا عدّة قد يكون أولها مبدأ المحافظة على وحدة الأراضي السورية، إضافة إلى موضوعة خلافية أخرى هي أن موسكو لا تشجع على انتشار الميلشيات الإيرانية أو السورية التي ترعاها إيران، أو تلك التي شكّلها النظام، لأنها ترى أنها عقبة أمام إعادة بناء الجيش السوري الذي بات ضعيفًا، ويشكو من نقص الموارد البشرية وانخفاض الروح المعنوية؛ ومن غير المعروف فيما إذا ظلت موسكو على موقفها هذا بعد أن عاينت هشاشة هذا الجيش، وغرقه في الفساد والتعفيش.
وعلى الرغم من أن إيران لعبت دورًا في استدعاء روسيا، إلا أنها طالما اشتكت من ضعف التغطية الجوية لقواتها وميليشياتها في عدة جبهات هُزمت فيها.
يبدو أن العلاقة الروسية-الإيرانية تشكو من ضعف ثقة عميق ومسكوت عنه، ظهر جليًا إبان مشكلة قاعدة همدان الجوية التي سمحت إيران باستخدامها ثم تراجعت عن هذا الأمر، فهل تخشى إيران تخليًا روسيًا عنها فيما إذا اضطرت موسكو إلى الخيار بينها وبين “إسرائيل”، أو أن تتجاهل مصالحها في سورية إذا ما تيسرت لها صفقة ما مع الغرب؟ بالمقابل، هل تخشى موسكو من أن تختار إيران العلاقة مع أمريكا فيما لو أتيحت لها فرصة الاختيار؟ أم أن الموضوع يعود إلى توزيع النفوذ وسلطة القرار على الأرض السورية الذي تبوأته روسيا ولا شك على حساب إيران؟
– لا يحتاج تحري توتّر العلاقات العميق بين موسكو والرياض إلى جهد كبير، لكن السعودية تتعمد الصمت تجاهه، وهذا على العموم من طبيعة السياسة السعودية، وقد استحكم هذا التوتر منذ الأشهر الأولى للثورة السورية، مع انحياز موسكو الشديد لمصلحة النظام، خاصة عندما باشرت بتعطيل عمل مجلس الأمن الدولي عن لعب دوره تجاه ما يحصل في سورية بفعل الفيتو الروسي المتكرر؛ وازداد هذا التوتر بعد التدخل العسكري الروسي، على الرغم من أن السعودية لم تعترض رسميًا عليه.
حاولت السعودية وحلفاؤها الخليجيون، في أكثر من محطة، التأثير في الموقف الروسي وتخفيف انحيازه لمصلحة الأسد، لكن دون جدوى، وضربت موسكو صفحًا عن جميع المشاريع المشتركة والاستثمارات التي وعدت بها الدولُ الخليجية ترغيبًا لروسيا في علاقات مثمرة مع الخليج، لأنها لا تشتري سمكًا في البحر.
من جهتها، عرضت موسكو بذل مساعيها لدى طهران لتحسين العلاقات الإيرانية السعودية ولم تُفلح، ذلك أن إيران ليست في وارد التخلي عن مشروعها التوسعي في دول المنطقة، كما أن السعودية غير مستعدة لغضّ النظر عن الخطر الإيراني بعد أن تلقّت طعنة في خاصرتها الجنوبية.
يُمكن الاستنتاج أن موسكو لم تدخل في تقويم موضوعي لعلاقاتها بالدول الإقليمية المعنية بالملف السوري، ومدى الضرر الذي لحق بهذه العلاقات على أثر تدخلها في سورية، فهي ترى أن علاقاتها جيدة مع “إسرائيل” وتركيا ونظام الأسد و”حزب الاتحاد الديمقراطي” الكردي، ومعقولة وقابلة للتعايش مع طهران، تاركة عقابيل علاقتها بالسعودية للزمن.
خامسًا: الاتفاق الروسي-الأميركي وهدنة حلب
بعد جهد كبير وزيارات مكوكية، بدأت في الخامس عشر من تموز/ يوليو الماضي، توصل وزيرا خارجية كل من الولايات المتحدة الأميركية جون كيري ونظيره الروسي لافروف، إلى اتفاق هدنة في حلب تسري بدءًا من 12 أيلول/ سبتمبر 2016، ولم يُنشر نص الاتفاق كاملًا في حينه، وعلى الرغم من أن الهدنة كما سابقتها في شباط/ فبراير 2016، عانت من الخروقات التي جاء أغلبها من جانب النظام وروسيا منذ اليوم الأول، إلا أن روسيا سارعت إلى طلب عقد جلسة لمجلس الأمن الدولي لدعم الاتفاق بقرار أممي، وهدّدت بنشر تفاصيله. من جهتها أفشلت أميركا الجلسة.
لاحقًا، وبعد أن نُشرت تفاصيل الاتفاق عبر وكالة (الأسوشيتد برس)، ولم ينشر الروس خلافًا لما أوردته الوكالة حتى الآن، يبدو أن الزوبعة التي أثاروها للإيحاء بأن الاتفاق تضمن بنودًا سرية يُمكن أن تُربك الإدارة الأميركية أو تُحرجها، تُخفي وراءها أهدافًا، وربما قلقًا أيضًا، تُفسّرها العربدة الروسية وحرقها مدينة حلب بمن فيها من المدنيين، على الرغم من الإدانات التي ردّدها كثير من مسؤولي الدول المعنية، ومن الحراك الدبلوماسي الكثيف على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، والعزلة الدولية التي تحاصر الدبلوماسية الروسية نتيجة الجرائم الفظيعة التي يرتكبها الطيران الروسي. فكيف يمكن تفسير هذا السلوك من دولة مسؤولة في المجتمع الدولي؟
وفقًا للنص المنشور، يبدو أن هناك نقطتين يعدّهما الروس مكسبًا سياسيًا كبيرًا، أرادوا تحصينهما بقرار أممي، تتعلق أولهما بعدم تطرق الاتفاق إلى مصير الأسد، إذ لطالما ردد المسؤولون الأميركيون أن لا مكان للأسد في مستقبل سورية، وأن الأسد فقد شرعيته؛ وربما أن الروس استخلصوا تراجعًا في الخطاب الأميركي في هذا الخصوص، علمًا أن هذه الإدارة تعيش أيامها الأخيرة، ولم تعد معنية بمصير الأسد، وهي في صدد ترحيل الملف برمته إلى الإدارة المقبلة.
النقطة الثانية، وهي هنا الأهم بالنسبة إلى الروس، تتعلق بما نصّ عليه الاتفاق بتشكيل خلية تنفيذية قوامها ضباط من الطرفين لتبادل المعلومات الاستخبارية حول المواقع التي توجد فيها تشكيلات المعارضة العسكرية، والفصل بين الفصائل التي يتفق الطرفان على أنها إرهابية، والمقصود هنا على وجه الخصوص جبهة فتح الشام (النُصرة سابقًا) عن تلك المعتدلة. فالروس يعدّون تشكيل هذه الخلية على درجه كبيرة من الأهمية، وتوفر لهم كنزًا ثمينًا من المعلومات التي تُمكّنهم لاحقًا من إبادة المعارضة المسلحة المتطرفة منها أو المعتدلة على حدٍ سواء. ولربما عدّوا أيضًا أن هذا العمل المشترك مع الأميركان سوف يشكل مدخلًا لإشراكهم في التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب. إلا أن الرفض الحازم والعلني لأي مشاركة معلوماتية مع الروس من جانب البنتاغون ووكالة الاستخبارات الأميركية، وهما الجهتان الأكثر نفوذًا في المؤسسات الأميركية فيما يتعلق بالقرارات الإستراتيجية، وضع نهاية لهذه الخلية وبخّر الطموح الروسي، وجاء اشتراط هاتين المؤسستين ثبات الهدنة لسبعة أيام متتالية، ثم القصف الأميركي لقوات النظام في جبل ثردة في دير الزور، وكان بين الضحايا سبعة من الجنود الروس، والردّ الروسي بقصف قافلة المساعدات الأممية في أورم الكبرى، إعلانًا عمليًا عن نهاية الهدنة.
ردّد محللون روس على مقربة من مراكز القرار في تفسيرهم لفشل الاتفاق، أن أميركا “لا تريد من الهدنة تفعيل الحل السياسي، بل تخفيف حدة الصراع، وما دام الأمر كذلك، فإن روسيا غير معنية بتثبيت الهدنة”. إذًا، فروسيا كانت تريد استعجال الحل السياسي في عهد هذه الإدارة التي تعدّها متساهلة، قبل أن تأتي إدارة غير معروفة التوجهات؛ في حين قرّرت إدارة أوباما ترحيل الحل إلى الإدارة الجديدة، ولا تريد تحميلها وزر توافقات قد تربكها، لكن، لا بأس لديها من تبريد الصراع إن أمكن. فمن الذي استدرج الآخر إلى ملعبه؟ في الحصيلة، يبدو كأن الطرفين مكتفيان بتسجيل النقاط في هذا الوقت المستقطع والدامي من الصراع على حساب الدم السوري، ليس أدلّ على ذلك من فشل مجلس الأمن الدولي بجلسته المنعقدة في 25 أيلول/ سبتمبر 2016 بإصدار قرار يوقف القصف الهمجي على حلب، والذي بدا مكتفيًا باستعراض سيل الإدانات والاتهامات المتبادلة حول من يتحمل المسؤولية عن انهيار الهدنة؟!
سادسًا: دولتان عُظميان على الأرض السورية
شاءت أحوال تدويل القضية السورية بعد أن دفع النظام نحو هذا التدويل طلبًا في تأمين حلفاء وداعمين له في خياره العسكري والأمني، وطول أمد الصراع، بأن تتواجه روسيا والولايات المتحدة بشكل محسوب وحذر في الصراع السوري، ولكل منهما رؤيته وأهدافه وإستراتيجيته في هذا الشأن؛ لكن، من المستبعد أن تنزلق العلاقة بينهما إلى التصادم، حتى وإن حصلت أخطاء وأحداث تشي بهذا الاحتمال. فأين تلتقي الإستراتجيتان وأين تتفارقان؟
– يُعلن الطرفان عن وحدانية الحل السياسي للصراع، واستبعاد الحسم العسكري. وفي الوقت الذي تلتزم فيه أميركا هذا الموقف، وتضبط إيقاع الصراع بجميع إمكاناتها غير عابئة بالكلفة الإنسانية الهائلة له، تمارس روسيا ما يعاكس خطابها المُعلن، وتستخدم عنفًا مفرطًا لهزيمة المعارضة وكسر إرادة السوريين.
– يتفق الطرفان على منع وصول الإسلاميين إلى السلطة، ولا يريان فيهم بديلًا مقبولًا عن هذا النظام تحت أي ظرف، في وقت بات واضحًا ومعلنًا فيه، أن مشكلة أميركا هنا، هي مشكلة بديل -يُرضيها- غير متوفر. ولا شك في أن هذا الموقف الأميركي أطال أمد الصراع، وفاقم المأساة السورية.
– لا ترى روسيا بديلًا للأسد، وتفعل ما في وسعها لتكريسه خيارًا وحيدًا. وهي، ناورت على القرارات الأممية، وعطّلت الحل السياسي حتى الآن، لتمرير هذه الرؤية؛ في حين أن الولايات المتحدة، ومنذ مذكرة كولن باول الشهيرة عام 2003، لم تعمل على تغيير نظام الأسد، ولم تُعلن يومًا عن مثل هذا التوجّه، بل كانت تطالب بتغيير سلوكه. لكن، لا يبدو أن أميركا مهتمة ببقاء الأسد بحد ذاته، بقدر اهتمامها بضمان أن تبقى سورية “دولة صديقة” تؤدي دورها ضمن الإستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط.
– يُردّد المسؤولون والساسة الأميركيون دائمًا، أن جهدهم الأساسي ينصبّ على محاربة “تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش) في سورية والمنطقة ليس إلا، وأميركا لا تمانع بأي جهد يُبذل في هذا الاتجاه من أي طرف جاء، ما دام لا يرتب عليها التزامات سياسية أو إستراتيجية لجهة النفوذ، لذلك لم تعترض على تدخّل روسيا العسكري الذي برّرته بمحاربة الإرهاب، لكنها مانعت دخولها في التحالف الدولي الذي تقوده لهذه الغاية، علمًا بأن الولايات المتحدة مسكونة بقدرتها على قلب المعادلات التي تُزعجها كلما اقتضت الضرورة ذلك.
من جهتها، تدخّلت موسكو لجملة من الأهداف، ربما منها مماحكة واشنطن وجسّ نبضها واستعداداتها للدخول في بازار (سوق) تبادل الخدمات والمصالح ومشاركة النفوذ، بناءً على توهّمها سياسة انسحابية لأميركا في الشرق الأوسط، أكثر منه طلبًا لنديّة على المسرح الدولي، لا تملك مقوماتها.
سابعًا: مآل التدخل الروسي في سورية
بعد عام على التدخل الروسي، ومن مقاربة النتائج التي حققها قياسًا على الأهداف التي دفعت له، تتزايد مشروعية السؤال حول مآلات هذا التدخل. صحيح أن روسيا استطاعت أن توقف النظام على قدميه بعد أن تهاوى في إدلب، وصحيح أيضًا أن التدخل أضعف المعارضة المسلحة لدرجة لا يمكن تقديرها بدقة قبل أن تتضح ملامح نهاية الصراع؛ لكنها تلقت هزائم لا تليق بها كدولة كبرى في ريف حماه الشمالي ربيع هذا العام، وفي معركة الكليات في حلب بعد إطباق الحصار في الكاستيلو، ولم تحقق انقلابًا إستراتيجيًا في ميزان القوى، إلا إذا تحقق لها ذلك في معركة حلب المحتدمة الآن، وفشلت في تصنيع معارضة سياسية تقبل بالحل السياسي الذي ما زالت عاجزة عن تمريره، وقد لحق بسمعتها ضرر كبير لما ارتكبته من جرائم، يزيد في عزلتها الدبلوماسية. ويبقى الأهم أن روسيا الحريصة على عدم التورط في المستنقع السوري، تبدو الوقائع وكأنها تُسرّع خطاها نحوه موضوعيًا، حيث لم تعد إمكانية التراجع عنه متاحة أمامها.
أما على صعيد الأهداف ذات البعد الدولي لهذا التدخل، فلا يبدو أن أميركا والاتحاد الأوروبي قابلين أو مضطرين إلى حلحلة الملفّات العالقة معها، ولا حتى بعضها.
جملة الوقائع المحيطة بالتدخل الروسي في عامه الأول، تُشير إلى تحوّله إلى ورطة مُكلفة، فهل باتت موسكو على قناعة بأنها تعاني في سورية مأزقًا حقيقيًا؟ مستوى العنف الذي تمارسه، والقوة التي تستخدمها، في حلب وجبهات أخرى، في مواجهة لا تتطلب هذا المستوى من القوة أو نوعية السلاح، إضافة إلى الإرباك في خطابها السياسي، يدفع إلى القول: نعم إن روسيا في مأزق.