تفاقمت الخلافات الأميركية- الروسية حول سورية، ويبدو أن الولايات المتحدة ستبدأ مرحلة جديدة لتحجيم الدور الروسي في سورية، فهل يمكن أن تقبل روسيا هذا التحدي؟
شهدت الساحة السورية تطورات متسارعة وخطِرة منذ التاسع عشر من أيلول/ سبتمبر الماضي وحتى اليوم، قد تبدو للمراقبين أنها تطورات غير مترابطة في بعض الأحيان، لكنها في الواقع غير ذلك، ويمكن تلخيصها بقصّة متسلسلة، متّصلة بدقة. فمنذ أن انهارت الهدنة في ذلك التاريخ، والتي سعى الروس والأميركيون إلى تثبيتها وفق اتّفاق أوسع لم تُعلن كل بنوده، تبادل الطرفان، الأميركي والروسي، الاتهامات عن المتسبب بانهيارها، تلاها بأيام قصف طائرات التحالف الدولي معسكرًا لقوات النظام في دير الزور شرق سورية، ادّعى الأميركيون أنه جرى بالخطأ، وتلا هذا “الخطأ” قصف الطيران الروسي قافلة أممية تحمل مساعدات إنسانية إلى مدينة حلب.
لم تكتفِ روسيا بهذا “الانتقام”، بل بدأت هجومًا جوّيًا عنيفًا غير مسبوق على المدينة، استخدمت فيه أسلحة تقليدية وأخرى مُحرّمة دوليًا، وبدأت قوات النظام المدعومة بميليشيات إيرانية ولبنانية تستعدّ للتقدم إلى داخل المدينة، ما دفع دولًا أوربية لمناقشة هذا التصعيد الاستثنائي في مجلس الأمن، حيث ارتفعت وتيرة التصريحات النارية بين المسؤولين الروس والأميركيين وخرجت عن سياق الدبلوماسية وأوحت بخطر مقبل.
اعتقد كثيرون- وهم هنا تحضرهم سياسة أوباما تجاه القضية السورية- أن التراشق الكلامي والسّجال الأميركي – الروسي هو (بروباغندا) وغطاء لتوافق ضمني، وأن الخلاف هامشي يتعلق بأحد بنود الاتفاق الذي ينص على “بذل جهود مشتركة في حلب بما يخدم تطبيع الوضع في سورية”، فـ “التطبيع” بحسب فهم الروس هو سحق المعارضة المسلحة، فيما هو بحسب فهم الأميركيين تجميد القتال والضغط على النظام من أجل إخضاعه للتفاوض.
أعلنت موسكو أنها لا تنوي التراجع عن مواقفها واستراتيجياتها في سورية، وقال وزير خارجيتها، سيرغي لافروف، إن بلاده تُصرّ على تنفيذ الاتفاق الأميركي- الروسي حول سورية، ولكن مع مواصلتها عملياتها العسكرية. لكن هذا الإصرار دفع واشنطن إلى الإعلان عن أنها قد توقف التعاون مع الروس وتبدأ بدراسة خيارات وبدائل جديدة، أو ما تُسمّيه “الخطة ب”، وحذّرت من أن تكثيف القصف الروسي سيدفع الدول الداعمة للمعارضة السورية إلى ضخ المزيد من الأسلحة، وألمح جون كيربي، الناطق باسم الخارجية الأميركية، إلى أن المدن الروسية “يمكن أن تتعرض لهجمات إرهابية”، و”أن موسكو ستخسر مزيدًا من الأرواح والطائرات” في سورية، وشدّد على أن التلويح بقطع التعاون مع روسيا “ليس تهديدًا أجوف”، وأعلن وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، عن إحباطه لأن جهوده الدبلوماسية لإنهاء النزاع في سورية لم يتمّ دعمها بعمل عسكري تشنّه الولايات المتحدة، فسارعت روسيا إلى التحذير من تداعيات “مزلزلة” لأي استهداف مباشر لنظام بشار الأسد أو قواته.
يبدو أن روسيا لا تستبعد احتمال تدخل أميركي قوي في سورية، عبر مدّ المعارضة بأسلحة نوعية، ربما، وخاصة مضادّات الطيران، وهو ما دفعها إلى، بل جعلها تتعمّد تسريب معلومات إلى الإعلام حول تعزيز قواتها الجوية في سورية، وتّهدد بـ “تداعيات مُزلزلة” في الشرق الأوسط كله، وهذا الوعيد لم يمنعها من تأكيد رغبتها في العودة إلى المشاورات مع الأميركيين، مع استعدادها لتعديل نصّ الاتفاق؛ لكن لقاء وزيري خارجية البلدين، بعد ذلك، في جنيف كان سلبيًا، وشابه توتر واستياء أميركي بسبب إصرار الروس على الاستمرار بتكثيف القصف وعرقلة المساعدات الإنسانية، وقال نائب وزير الخارجية الأميركي إن وكالات الأمن القومي الأميركية بدأت تبحث عن خيارات في شأن سورية، بعضها مألوف وبعضها جديد، وتحدث عن “خطة بديلة” بعد إخفاق الدبلوماسية.
لم يأخذ الروس على محمل الجدّ تهديد وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، بوقف المساعي الدبلوماسية مع روسيا في ما يتعلق بالقضية السورية، وارتكزوا على تقدير بأن الرئيس الأميركي باراك أوباما لن يتخذ أي خطوة تتعدى “تشديد اللهجة” ضد الروس، خاصة أنه لم يبقَ له سوى عدة أسابيع في البيت الأبيض.
سوء الفهم الروسي للولايات المتحدة، وعدم تقدير جدّية التحذيرات الأميركية، أدى إلى إعلان الأخيرة في 13 الجاري، وبشكل حاسم، عن أنها قررت وقف المباحثات مع روسيا في ما يتعلق بسورية، واتهمت موسكو بعدم الوفاء بالتزاماتها، وعادت إلى تأكيد أن الاستقرار في سورية لن يتحقق من دون محاسبة النظام.
تعتقد روسيا أنها يمكن أن تتفادى السيناريو الأسوأ بالمواجهة مع أميركا، من دون أن تتجاوب مع مطالبها، أي من دون أن توقف العنف، وتستمر برفض التغيير السياسي، وهي تراهن على قوة وجودها وحليفيها إيران والنظام على الأرض، وربما تراهن أيضًا على دور تركي في تبريد الغضب الأميركي، وتخفيف دعمها للمعارضة، مقابل سكوتها عن التمدد التركي في شمال سورية، الأمر الذي قد يعجّل في سقوط حلب، ويفرض واقعًا يحتّم عودة الخيارات الدبلوماسية، وإبعاد شبح التصادم؛ وإذا كان الاعتقاد الروسي هذا حقيقيًا أو واردًا، فإنه، على الأرجح، سوء تقدير سياسي روسي.
لكن هناك من يرى أن روسيا “علقت” في سورية، ولم تعد تعرف كيف تخرج ولا كيف تستمر، فهي لا تملك سوى سلاح الطيران ومستشارين على الأرض، لكنها تتورّط، على ما يبدو، شيئًا فشيئًا، بإنزال قوات برية، ويُعتقد أنها لا تستطيع فرض كل شيء على النظام، خاصة أن إيران جاهزة من وراء الكواليس لتحريضه من أجل تخريب كل ما لا ينفعها.
في المقابل، هناك خلافات أميركية داخلية حول التصعيد العسكري بين الإدارة والبنتاغون الذي انتقد الاتفاق الذي وقّعه كيري مع الروس والذي يقضي بتشكيل “غرفة عمليات مشتركة” وتبادل المعلومات لمكافحة الإرهاب، وهذا الأمر لا يريده الجيش الأميركي، كما لا تريد وكالة المخابرات المركزية (الـ CIA) تبادلًا للمعلومات الاستخبارية مع الجيش الروسي الذي قد يخدعها ويغدر بها. وتقول بعض التقارير إن هذا الخلاف دفع البنتاغون إلى تنفيذ غارة على قوات النظام في دير الزور، ليؤكد بطريقة غير مباشرة عدم موافقته على هذا الاتفاق.
تمادت الولايات المتحدة في السلبية والمماطلة والخذلان في ما يتعلق بالقضية السورية، وراهنت على إمكانية إبقاء اللعب الروسي تحت السقف الذي تُحدّده، لكن بوتين الذي يعتقد أنه حوّل روسيا إلى دولة عظمى بدأ يلعب خارج السقف، كلاعب أول لا مُنازع له في الساحة السورية.
هذا، فيما تسعى الأطراف الأوربية إلى اقتراح وقفٍ لإطلاق النار في سورية، أو منع الطيران من التحليق فوق حلب (التي تحوّلت وفق الأمين العام للأمم المتحدة إلى “مسلخ”)، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى المحاصرين، وهو الأمر الذي لن يمرّ من طرف روسيا التي تستخدمه كورقة قوة لها في الوقت الراهن.
لم تعد المعارضة السورية تثق بواشنطن التي اعتمدت سياسة إدارة الأزمة من الخلف بدعوى الخشية من التورط فيها، وفسحت المجال، بتردّدها وتذبذب مواقفها، لتصبح روسيا صاحبة اليد الطولى في هذا الصراع، وهي ما زالت تعتقد بأنه ليس في جعبة البيت الأبيض سوى التهويل والتهديد اللفظي.
لكن آخرين يعتقدون أن الخلاف هذه المرة جدّي، وهو لا يتعلق بأوباما، وإنما بالمؤسسة العسكرية الأميركية التي تصرف على الدفاع، وعلى مشاريعها العسكرية في العالم، أكثر بثماني مرات من روسيا، وبست مرات من الصين، ويقولون إن هذه المؤسسة قررت أن تدخل تحدي (كسر العظم) مع روسيا، ولن يؤثر اقتراب تغيير الرئيس على قرارها.
يخشى البعض أن تقبل موسكو مثل هذا التحدي، وتستمر بإرسال المزيد من الطيران الحربي إلى سورية، وتقوم بتكثيف الضربات الجوية في حال بدأت “صواريخ المعارضة” تطارد طائراتها، فهذا قد يفتح أبواب جهنم على السوريين. صحيح أن روسيا ستتضرر كثيرًا، وستخطو أولى خطواتها في المستنقع السوري، لكن الخاسر الأكبر هم السوريون قبل الروس.
في الغالب، دخلت العلاقات الروسية- الأميركية في سورية مرحلة التدهور الحقيقي، فتعليق واشنطن اتصالاتها مع روسيا وتكليف وكالات الأمن القومي الأميركية باعتماد خيارات جديدة تجاه القضية سورية، واستمرار روسيا في دعمها اللامحدود للنظام السوري، وفرض نفسها بالقوة كلاعب دولي إســـتراتيجي، قد يهدّد المنطقة كلها بـ “تداعيات مُزلزلة”، كما قال الروس، لكنها ستكون “مُزلزلة” للروس و”مُدمرة” لسورية، ومجرّد “مُقلقة” للولايات المتحدة التي تلعب اللعبة السورية بـ (الكونترول).
من المستبعد أن تتدخل الولايات المتحدة عسكريًا بشكل مباشر في سورية، ومن غير المُرجّح اتخاذ إجراءات تنطوي على مخاطرة، كتنفيذ غارات جوية على أهداف سورية أو إرسال مقاتلات أميركية لمرافقة قوافل المساعدات على سبيل المثال، لكنها قد تبدأ بضخ المزيد من الأسلحة الحديثة والمضادات الجوية، ربما، للمعارضة، مباشرة أو عبر دول صديقة أو وسطاء، لاعتقادها بأن هذا سوف يزيد من مأزق روسيا، ويوصلها إلى مرحلة تجد فيها نفسها مضطرة إلى مراجعة شاملة لمواقفها، وإلى تغيير المسار.
لكن، قد لا ينفع هذا الأمر مع روسيا، فلا التكلفة ستزيد كثيرًا في متاعب اقتصادها المُرهق، خاصة أنها ترسل صواريخ قديمة مُخزّنة في مستودعاتها، ولا هي قد تكون في وارد الاستسلام في منتصف الطريق؛ كما أنها ليست على استعداد للتخلي عن الورقة السورية التي تعتبرها مدخلًا أو جسرًا لتحقيق مصالح لها في ملفات أخرى، كأوكرانيا والبلقان والدرع الصاروخي والعقوبات الأوربية وغيرها، كما أن تركيبة الرئيس بوتين لا تسمح له بالتراجع والميلان مع الريح، خصوصًا مع اعتقاده بأنه قيصر روسيا الذي سيعيد لها أمجادها.
وسط صراع، أو خلاف الدولتين الكبيرتين، تحتضر الدبلوماسية، وتتواصل مأساة السوريين، ويستمر الروس في التعامل مع سورية على مبدأ غروزني، كأرض محروقة لن تنجح معها أي هدنة، وتتواصل ضربات النظام العشوائية المُدمّرة، كما تتواصل ضربات التحالف الدولي، وتتمدد التنظيمات الإرهابية، وتستمر انتهاكات القوات الكردية الانفصالية، وتكبر الخطط التركية الهادفة إلى ضمان أمن تركيا، بينما لا أحد يكترث بإخراج سورية من الوضـــع الكارثي الذي تعيشـــه.
في جميع الأحوال، يصعب التقدير فيما إذا كانت الدبلوماسية بين الروس والأميركيين قد نُحيّت تمامًا، وفيما إذا كان باب التسويات والحلول السياسية قد أُغلق نهائيًا. وعليه، فمن المرجّح أن تطرح التطورات الخطِرة أحد احتمالين، أولهما: أن تتراجع روسيا جزئيًا ضمن حلّ يُحافظ على تثبيت الوضع الراهن في حلب، ويفتح طرق الإمداد الإغاثي الأممي، ويُبقي على الحلّ السياسي مشرّعًا، وهذا هو الاحتمال الأكثر ورودًا؛ وثانيهما أن تتصاعد الأزمة، وأن ترفع الولايات المتحدة القيود عن دعم وإمداد المعارضة بما يضمن استمرارها وإيلام الطرف الآخر، لأن سقوط حلب في يد الحلف الروسي سيجعل الحديث عن حلول سياسية نافلًا، وهذا ما لا يبدو أن حلفاء المعارضة سوف يسمحون به.