المحتويات
مقدمة
أولًا: روسيا والغرب علاقة صراعية مفتوحة
ثانيًا: العلاقات الروسية الأميركية في عهد أوباما
ثالثًا: أميركا- روسيا- الصين مثلث الصراع المستقبلي
رابعًا: سورية ساحة اختبار قاسية
خاتمة
مقدمة
شكّل انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 نهاية للحرب الباردة، التي غطّت المرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية بين عالمين متناقضين سياسيًا وأيديولوجيًا وإنتاجيًا، عالم الغرب تقوده الولايات المتحدة، وعالم الشرق يقوده الاتحاد السوفياتي، ولكل منهما ذراعه العسكرية الرادعة، (حلف الناتو) الغربي، يدانيه كفاءة (حلف وارسو) الاشتراكي. وقد سُخِّرت في هذه الحرب المديدة جميع وسائل التأثير الإعلامي والدعائي والاقتصادي والاستخباري وسباق التسلح؛ هذا الاستقطاب ألقى بظلاله على العالم قاطبة. لقد كانت حربًا باردة في المراكز وحامية في الأطراف، كلّفت البشرية ملايين الضحايا والخراب والخسائر الاقتصادية، وعطّلت التنمية في دوله النامية، وعمّمت حروب قص الأجنحة بين القطبين من شبه الجزيرة الكورية إلى كوبا وأميركا اللاتينية والكونغو وفيتنام وأنغولا وأفغانستان، وكذلك الشرق الأوسط والقرن الإفريقي.
مع رحيل بريجنيف، بدأت تظهر إلى العلن، بعد عقود من التكتم والتضليل الإعلامي، مظاهر تداعي الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية؛ وبعد اثنين من الأمناء العامّين للحزب الشيوعي السوفياتي اللذين رحلا سريعًا، تسلّم مقاليد السلطة في الكرملين ميخائيل غورباتشوف عام 1985 الذي أمّن، من خلال مشروعه، البريسترويكا والغلاسنوست، انتقالًا شاملًا سلسًا وغريبًا في عالم الاستبداد، حيث انهار الاتحاد السوفياتي وتفككت دوله، دون أن تُطلق رصاصة واحدة من قبل الجيش الأحمر أمام هذا الحدث الجلل، وانهار معه حلف وارسو ومنظومة الدول الاشتراكية في أوروبا الشرقية، وفُتحت على مصراعيها حروب التفكيك والتطهير العرقي في دول يوغسلافيا السابقة ومنطقة البلقان، الخاصرة الجنوبية الرخوة لأوروبا.
انهارت القطبية الثنائية التي حكمت العالم، وانتصرت الرأسمالية الغربية، التي استطاعت أن تُجدّد نفسها وتتكيّف مع متغيرات العالم والعولمة، وتسيّدت الولايات المتحدة العالم وتفرّدت بالهيمنة عليه، وأعلنت عن هذه الهيمنة في حرب تحرير الكويت في استعراض واسع للقوة والسيطرة، عندما جرّت وراءها أربعًا وثلاثين دولة ضمن نمط جديد من الاستراتيجيات في التحالفات الموضعية زمانًا ومكانًا، التي تبتغي شرعية سياسية للحدث أكثر منها حاجة عسكرية.
ورثت روسيا الاتحادية الاتحادَ السوفياتي والتزاماته السابقة، بما فيها العضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي، بضغط من الولايات المتحدة، وبشكل يُخالف قانون المنظمة الدولية، من دون أن يُعرف حتى الآن ما هي الحكمة من تصرّف الولايات المتحدة وحساباتها في هذه الواقعة، وربما كان لهذه الحسابات علاقة بالصين دائمة العضوية الأخرى والعدو المستقبلي المحتمل.
كانت سنوات بوريس يلتسين، الذي تسلّم رئاسة الاتحاد الروسي من غورباتشوف، سنين شقاء وأزمات اقتصادية حادة وفسادًا واسعًا وانتشارًا للمافيات وتراجعًا على جميع المستويات؛ وترافقت مع حروب يوغسلافيا والشيشان التي بيّنت أن روسيا رجل مريض لا يقوى على الحركة، ويستجدي الغربَ المساعدة، إذ راودت الروس أحلام بأن يُلحقهم الغرب في ركابه، كما فعل مع دول أوروبا الشرقية؛ وتطلعوا إلى الساحة الأوراسية للتعاون والتنسيق إن لم يكن التحالف؛ كما أملوا بأن يتفكك حلف الأطلسي بما أن حلف وارسو لم يعد موجودًا؛ إلا أن الأطلسي ازداد توسعًا وقوة وراح يضم دول أوروبا الشرقية واحدة تلو الأخرى، بل ورفض أن يضمّ الاتحاد الروسي إليه، وكان أقصى ما أُعطي للروس مندوب للاتصال يداوم في بروكسل مقرّ الحلف.
في هذه الأجواء جاء فلاديمير بوتين، ضابط الـ (كي جي بي) السابق، إلى السلطة، عبر صفقة مع بوريس يلتسين تتضمّن حماية الأخير وأزلامه من الملاحقة القانونية بتهم الفساد، ومحمولًا على حزب (روسيا بيتنا) ذي التوجه القومي المفعم بروح الماضي القيصري لروسيا؛ وقدّم نفسه على أنه يريد إعادة روسيا إلى سابق عهدها من القوة، ولاعبًا أساسيًا في الساحة الدولية، ودغدغ أحلام ومشاعر القوميين الروس الذين تتحكم بهم خيبة أمل تجاه الغرب الذي خذلهم؛ لذلك أنهى حرب الشيشان بعد أن محا غروزني ببراميله المتفجرة، واحتل قسمًا من الأراضي الجورجية، واتبعها باحتلال القرم، وتدخّل بقواته في شرق أوكرانيا، ثم تدخّل في سورية، متنقّلًا من حرب إلى حرب، وعنوان حروبه جميعها مناكفة الغرب الذي يزحف بحلفه إلى حدائقه الخلفية، ويخنقه بالعقوبات الاقتصادية القاسية. فما هي الاستراتيجية التي يتحرك وفقها هذا الرجل الذي يحكم روسيا بقبضة حديدية؟ وهل لديه القناعة والقدرة على إعادة روسيا قطبًا مقرِّرًا في الصراعات الدولية الكبرى على النفوذ والهيمنة؟ أم أنه، وهو رجل المخابرات الماكر والحذر، يُحاول من خلال الحرب أو التهديد بها استنادًا إلى ترسانته النووية والعسكرية، تقطيع خيوط الشرنقة التي يحبكها الغرب حول روسيا وفضائها الجيوسياسي، ودفعه للجلوس إلى طاولة المساومات والاعتراف بمصالح روسيا الحيوية؟ وإذا كان الأمر كذلك ما هي حظوظ بوتين من النجاح في عالم يصعب التكهّن بمتغيراته واتجاهات صراعات القوة والنفوذ التي تحرّكه؟
أولًا: روسيا والغرب علاقة صراعية مفتوحة
كان تاريخ العلاقات بين روسيا القيصرية والغرب، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، تاريخ صراع، إذ كثيرًا ما تطلّعت روسيا إلى الهيمنة على الساحة الأوراسية في مواجهة الإمبراطوريات القائمة أو الصاعدة، ومنها الإمبراطورية العثمانية، التي كانت تستحوذ على قسم من هذه الساحة في جنوبها الشرقي، لكن المساعي الروسية لم تصِب كثيرًا من النجاح، اللهم إلا بعض المكاسب على حساب العثمانيين خلال مرحلة أُفولهم البطيئة بسبب التوازنات الدولية القائمة آنذاك.
في مطلع القرن العشرين، ومع ظهور الاتحاد السوفياتي، انهمكت روسيا بترميم أوضاعها الداخلية البائسة على أكثر من صعيد، لكن بعد الحرب العالمية الثانية، واجتياح الجيوش السوفياتية لدول أوروبا الشرقية، وسيطرتها على القسم الأكبر من السهل الأوراسي الممتدّ من بولونيا شمالًا باتجاه الجنوب، برزت روسيا قوةً عظمى مقرّرة في الصراعات الدولية من ضمن المنتصرين على دول المحور في الحرب الكونية الثانية، وأقامت سور برلين الذي شكّل عنوانًا لانطلاقة الحرب الباردة، وتحفَز الغرب على ضفتيّ الأطلسي في وجه الصعود السوفياتي المسلّح بأيديولوجيا مناقضة للرأسمالية الكونية، وبقوة عسكرية كبيرة؛ وبات هذا الغرب يعدّ الاتحاد السوفياتي أكبر خطر وجودي يهدّده، فاستنفر جميع إمكاناته العسكرية والاقتصادية والعلمية والإعلامية لمواجهته في ساحات متعددة ومتنقلة دفعت شعوب العالم الثالث ثمنها غاليًا، كما دفعت شعوب الاتحاد السوفياتي وشعوب منظومته الاشتراكية أثمانًا باهظة لتمويل هذه الحرب على حساب عيشها وفرص تطورها.
أخيرًا انتهت هذه الحرب بهزيمة الاتحاد السوفياتي عام 1991، وخرج الغرب منتصرًا في هذه المواجهة المديدة والمكلفة؛ إلا أن الغرب، والولايات المتحدة على وجه الخصوص، لم يمدّ يده لمساعدة عدو الأمس في مواجهة تداعيات ذلك الانهيار، بل ترك الاتحاد الروسي يتخبّط في أزماته الناشئة، إن لم يكن طرفًا في تفعيلها؛ في حين استوعبت أوروبا الغربية دولَ أوروبا الشرقية التي خرجت من قبضة الشيوعية وأدرجتها في منظومتها الاقتصادية، وتحملّت تكاليف إعادة هيكلة اقتصاداتها المتخلفة، حيث تحملّت ألمانيا القسط الأكبر من هذه التكلفة، كما أنها صاحبة أكبر استثمارات غربية في روسيا حتى الآن.
لم تعد روسيا في الاستراتيجية الغربية العدو رقم واحد، بل عُدّت عدوًا محتملًا، الأمر الذي يعني أن روسيا ستبقى تحت المجهر الغربي، وأن العلاقات بين روسيا والغرب متقلّبة وعرضة للتوتر عند كل منعطف في السياسات الدولية. إلا أن ثمة تباينًا ملحوظًا ضمن الاستراتيجية الغربية في الموقف من روسيا بين شقّيها الأوروبي والأميركي، ففي حين تحرص الرؤية الأميركية على إبقاء حالة الضغط على روسيا قائمة، سواءً جاء صاخبًا هذا الفعل أم ناعمًا، ترى الدول الأوروبية الفاعلة، بخاصة الألمان والفرنسيون، أنه لا يجب أن تُحشر روسيا في الزاوية، كما لا ينبغي استفزاز عدوانيتها التي يمكن أن تكون مؤذية، فهي تُفضّل تغليب الفعل الدبلوماسي على العسكري دون أن تستبعده.
ثانيًا: العلاقات الروسية الأميركية في عهد أوباما
شكّلت السنوات الثماني التي أدار فيها باراك أوباما السياسة الأميركية فترة مهمة، حيث استبعد القوة من السياسة الأميركية، ولجم سياسات حلفائه أيضًا، انسجامًا مع رؤيته لفكرة القيادة من الخلف والصبر الاستراتيجي؛ ويمكن لهذه الفترة أن تُلقي الضوء على الآلية والمنعرجات التي مرّت بها العلاقات الروسية الأميركية، وتساعد على تلمّس الخيوط العامة لتطور الإستراتيجية الروسية في عهد بوتين.
على الجانب الأميركي، ترافق مجيء أوباما إلى البيت الأبيض عام 2008 مع الأزمة المالية الخطيرة التي ضربت الاقتصاد الأميركي على خلفية أزمة الرهن العقاري، وشكّلت عاملًا مهمًا في صوغ رؤية أوباما لإدارة السياسة الأميركية التي اتّسمت بتجنب التدخل الفعال في الشؤون الدولية، يُضاف إليها عامل آخر لا يقلّ أهمية عن الأول، ألا وهو محاولة استيعاب تداعيات سياسة التوسع الاستراتيجي والحروب التي خاضتها إدارة سلفه جورج دبليو بوش في أفغانستان والعراق، وكانت سببًا في الأزمة المالية.
هذا الإحجام الأميركي الظاهري عن الشرق الأوسط، ترافق في فترة أوباما الثانية مع ثورات الربيع العربي التي خضّت بعنف الواقع الجيوسياسي القائم، وفتحت المنطقة على التدخلات الدولية والإقليمية، التي جاءت في جزءٍ كبيرٍ منها بطلب أو تسهيل الأنظمة الاستبدادية الحاكمة.
كما أطلق أوباما باكرًا مفهوم (محور أسيا)، وعزّز التحالفات الأميركية مع كوريا الجنوبية واليابان واستراليا وماليزيا واندونيسيا، وكثّف التعاون مع الهند، وأنهى حالة العداء مع بورما على الرغم من بشاعة انتهاكاتها لحقوق الإنسان، ووسّع العلاقات مع فيتنام، كما زاد من الوجود العسكري في بحر الصين الجنوبي؛ ومع ذلك كلّه بقي هذا المفهوم نظريًا لا أكثر طوال فترة أوباما، لكنه دفع كثيرًا من منظريّ ومتابعي الاستراتيجيات الدولية للاستخلاص بأن “الدور الأميركي ومصير السياسات الدولية سيتحدّد في جنوب شرق آسيا”.
استحوذ الملفّ النووي الإيراني على جلّ اهتمام الرئيس الأميركي، وتغاضى، من أجل الوصول إلى توقيع الاتفاق بشأنه عام 2015، عن التدخلات الإيرانية في المنطقة العربية، وعن كلّ الخراب والاضطراب الذي سبّبته أذرعها الميليشياوية الطائفية المنتشرة في لبنان وسورية والعراق واليمن والبحرين.
لكن، مُقابل هذه التراجعات التي اتُّهم بها أوباما، فقد تمكّن من تحويل كييف من حليف لموسكو إلى عدو شرس لها، وحشد المزيد من القوات في دول أوروبا الشرقية، وكان تدخله في ليبيا حاسمًا. والسؤال الذي يطرح نفسه بصدد سياسات أوباما الانكفائية وتخفيفه التوترات الدولية، هو هل كان يعمل على وضع الأسس الاستراتيجية لتأهيل القيادة الأميركية للنظام الدولي؟ وهل أصاب بعضًا من النجاح في ذلك؟ أم أن الضرر الذي ألحقته سياساته بسمعة وهيبة الولايات المتحدة أكبر من أن تغطيه الخطط النظرية؟ هذا ما سوف تُظهره السنوات المقبلة ومآلات الصراعات التي أبقتها تلك السياسات مفتوحة.
على الجانب الروسي: بعد الحرب الجورجية عام 2008، ووصول ديمتري ميدفيديف إلى الكرملين في تبادل للأدوار بينه وبين بوتين الذي بقي مُتحكّمًا بالسياسة الروسية، وفي ظلّ تداعيات الأزمة المالية، اختارت روسيا نهجًا يسمح بالتقارب مع الغرب، ولعلّ أبرز ما حققته في نهجها الجديد هو توقيع اتفاقية (سالت2) لضبط التسلّح الاستراتيجي، وتعليق (الأطلسي) خطتَه في نشر الدرع الصاروخي في شرقي أوروبا، مع تعهدّها بضبط اللاعب الإيراني، فوافقت على القرار الأممي رقم 1929 لعام 2010 على خلفية ملفّ إيران النووي، وساعدت في أن يكون الانسحاب الأميركي من العراق محسوبًا ومنظمًا. لكن هذا الاسترخاء في العلاقات الروسية- الأميركية لم يمنع موسكو من أن تُغلق القاعدة الأميركية في قرغيزستان، التي أدّت دورًا استراتيجيًا في الحرب الأميركية على أفغانستان عام 2001.
لم تدم طويلًا سنوات التهدئة مع الغرب. فبعد التدخل الغربي في ليبيا، والذي عدّته موسكو خديعة، لم تغفرها لواشنطن، قرّر بوتين إعادة النظر في مُجمل الاستراتيجية الروسية في العلاقة مع الغرب، وربما اختار سورية مسرحًا لإطلاق استراتيجيته الجديدة، الأمر الذي استدعى الالتفات نحو الصين؛ وكانت باكورة هذا الالتفات الفيتو المزدوج الروسي- الصيني في شباط/ فبراير 2012 ضدّ مشروع قرار عربي مدعوم من الغرب لإنهاء الحرب في سورية بغطاء أممي. كما اختار الكرملين الشراكة مع طهران في سورية بدءًا من معركة القصير عام 2013، اعتقادًا منه بأن الصراع في سورية يحمل مخاطر على المصالح الاستراتيجية لروسيا، ليس لأنه يُهدّد قاعدتها في طرطوس، آخر موطئ قدم لها في المتوسط، بل أيضًا لاعتقاده بأن إيران المنخرطة في الصراع السوري، ولا تحوز على ثقة كبيرة من بوتين، ستكون أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن تتوصّل إلى تقاسم نفوذ مع أميركا في الشرق الأوسط، وإما أن ترتمي ضعيفة في الحضن الأميركي، في حال مارست عليها واشنطن ضغطًا شديدًا، ستستفيد منه منافستاها الإقليميتان تركيا والسعودية، وتخسر معه روسيا استثمارها في إيران.
في الرؤية الاستراتيجية التي أخذ بها بوتين لإدارة صراعاته مع الغرب تحت عنوان العودة الروسية إلى الساحة الدولية، والتي اتخذت شكلًا صاخبًا، اعتمد القوة العارية في سورية، وفي أوكرانيا إلى حدٍ ما؛ وتبنّى نمط الحرب الهجينة التي أقلقت الغرب؛ وهي عبارة عن توليفة من التهديدات التي تستخدم الوسائل العسكرية وغير العسكرية، وبصورة خاصة حرب المعلومات التي هي، في الحقيقة، ضدّ المعلومات. فلقد أخذت تكثر الشكاوى الغربية من قيام “الهكرز” الروسي، بتوجيه من الكرملين مباشرة، بشنّ هجمات إلكترونية ضد الأحزاب السياسية بغاية سرقة معلومات قبيل الانتخابات بحسب وكالة الأنباء الألمانية (د ب آ)؛ والاتهامات التي برزت في الانتخابات الأميركية الأخيرة، وأثارت حالة من البلبلة حول شرعية ترامب، تشكّل واحدًا من الأمثلة على ذلك. وتؤشر المعطيات المتوافرة حول تنامي استخدام هذا النوع من الحروب، من قبل روسيا والصين على وجه الخصوص، إلى اتجاهات الحروب المقبلة، حيث أن الحروب الإلكترونية لا تقلّ خطرًا عن أشكال الحروب التي تُدار بوسائل عسكرية.
إذا ثبت صحة ما أُشيع عن إفشال الولايات المتحدة التجربةَ الكورية الشمالية الصاروخية الأخيرة ذات الطابع الاستفزازي بواسطة هذا النوع من الحرب الإلكترونية، ففي هذه الحالة، تكون الصراعات الاستراتيجية بين الدول الكبرى التي تمتلك مثل هذه التقنيات، خاصة في أميركا وروسيا والصين، قد دخلت في طور جديد من القلق الاستراتيجي الذي قد يتسبّب بكوارث عالمية، لأنه سيجعل من الردع النووي، الذي يُشكّل صمّامًا لضبط الصراعات بين الدول النووية، شيئًا من ذكريات الماضي، ولأنه سيجعل أيضًا احتمال القدرة على تدمير أسلحة العدو على أرضه بشكل عشوائي أمرًا واردًا ومرعبًا.
ثالثًا: أميركا- روسيا- الصين مثلث الصراع المستقبلي
أتاحت سياسة إعادة التموضع التي اعتمدها أوباما خلال فترتيّ حكمه، لفلاديمير بوتين وتشي جيننغ، العمل على تحسين موقعي بلديهما على الساحة الدولية، ففي حين عادت روسيا بشكل صاخب عبر البوابة السورية؛ اختارت الصين، لإبراز صعودها على سلّم القوة الدولية، طرحَ سلسلة من المشاريع الإقليمية والدولية، منها مشروع الحزام للربط البري عبر آسيا والشرق الأوسط وصولًا إلى أوروبا (إحياء طريق الحرير)، تعويضًا لها-وهي القوة البرية- عن ضعف قواها البحرية، حيث تسيطر الأساطيل الأميركية على أعالي البحار في العالم؛ وكما هو معروف، فإن الصين تعتمد الاقتصاد والمساعدات والقروض المالية التي تقدمها بسخاء، خاصة في القارة الإفريقية، رافعةً لترسيخ سيطرتها ودورها العالميين اللذين ما زالا متواضعين على كل حال، كذلك فإن القادة الصينيين يدركون تمام الإدراك التناقضات التاريخية التي تطبع علاقتهم بالجار الروسي الذي يصفونه بـ “الأرض الجائعة” كناية عن النزوع الإمبراطوري عند الروس، وهذا يفسّر التعاون الصيني الأوكراني الذي يلامس جوانب حسّاسة بالنسبة إلى الكرملين، حيث تستثمر الصين في البنية التحتية للصناعات العسكرية الأوكرانية ذات الطابع الاستراتيجي؛ كما أن الصين، إلى جانب كازاخستان وروسيا البيضاء، غذّت الحرب الأوكرانية خوفًا من عدوانية روسيا وانبعاثها الإمبراطوري.
عمومًا، تعي الصين- كقوة صاعدة- موقعها الفعلي بدقة على سلّم القوة العالمي، لذلك فهي لا تستعجل الخوض في صراعات لها طابع استراتيجي، وتعتمد القوة الاقتصادية مدخلًا إلى النفوذ حتى الآن، لكنها تحاول الوجود في جميع ساحات الصراع الساخنة أو المرشحة للسخونة، ومنها الشرق الأوسط، حيث ترغب بأداء دور مستقل عن الدور الروسي؛ وهي لن تكون مرتاحة لتقاسم نفوذ بين الروس والأميركيين في منطقة الهلال الخصيب يستبعدها عن المنطقة ويعرقل وصولها الحرّ إلى أوروبا.
من جهة روسيا، يبدو أن فهمها للعلاقات القائمة على المسرح الدولي، يدفعها للاعتقاد بأن المحادثات مع واشنطن يجب أن تنطلق من الإقرار بالمتغيرات على المسرح الدولي، ما يعني استعادة روسيا لمكانة القوة العظمى في العالم، ومن ثمّ، فإن أي تسوية لمشكلة إقليمية أو دولية لا تراعي هذا التطور، لن يُكتب لها النجاح؛ ويبدو أن هناك صعوبة في التأكد من يقينية هذا الاعتقاد عند الروس، ومن مدى قدرتهم على إقناع واشنطن به. يتبيّن هذا من حديث لافروف أمام اجتماع للدبلوماسيين الروس بعد يومين من زيارة تيلرسون لموسكو في 12 نيسان/ أبريل الماضي عبّر فيه بلهجة انتصارية عن أن “مشكلة الغرب عمومًا، وواشنطن خصوصًا، تكمن في النزوع نحو إنكار الواقع، لأن الطرف الآخر لا يريد أن يقتنع بأنه خسر قيادة العالم”، وتابع “عليهم في الغرب أن يقتنعوا بالأمر الواقع الجديد على الرغم من مرارته، لقد اعتادوا لقرون أن يحتفظوا بمواقع القيادة ولا يريدون الاعتراف بأن العالم تغيّر وبات متعدّد الأقطاب”. إن ما يختزنه كلام لافروف هذا من مرارة يثلم تلك اليقينية الروسية ويجعلها أقرب إلى الادعاء.
يرى كثير من الاستراتيجيين والمحللين أن بؤر التوتر المرشحة لمزيد من السخونة تتركّز حول بحر الصين الجنوبي وأفغانستان والهلال الخصيب والبحر الأسود وأوكرانيا والقطب الشمالي والقوقاز، وأن واشنطن في عهد الإدارة الجديدة، قد تكون مضطرة إلى رسم استراتيجية شاملة للساحة الأوراسية وجنوب شرق أسيا والشرق الأوسط وتوفير لوازم احتمال أن تكون مضطرة إلى خوض أكثر من حرب في الوقت ذاته، وإذا كانت أميركا ستتبع نصيحة بريجنسكي بأن تفعل كلّ ما يلزم لمنع تلاقي روسيا والصين في أي مواجهة مع أي منهما، فإنها لم تحرز نجاحًا كبيرًا حتى الآن. فروسيا لن تتحالف مع الأميركان في مواجهتهم مع الصين، وأقصى ما وعدت به موسكو على هذا الصعيد هو المساهمة في الضغوط الاقتصادية على بكين، أما الصين وهي الأكثر قبولًا لعقد تسويات، فمن المحتمل أن تستجيب للجهد الأميركي بتهدئة التوتر في بحر الصين الجنوبي في مقابل أن تساعد في ضبط المتمرّد الكوري الشمالي، على صعوبة ذلك؛ وإذا سارت الأمور في هذا الاتجاه، فإن واشنطن تُعدّ العدّة لمواجهة الروس في الساحة الأوراسية، اعتمادًا على القاعدة الإستراتيجية القائلة: إن من يريد التحكّم في الساحة الأوراسية عليه التحكّم في القوس الجغرافي الممتدّ من جبال زاغروس وحتى شمال الشاطئ الشرقي للمتوسط، وعليه، يمكن أن نفهم همّة الولايات المتحدة لإقامة سلسلة من القواعد الجوية في هذا القوس، أربع منها في كردستان العراق وواحدة غرب الأنبار وأربع أخرى في شمال شرقي سورية، يضاف إليها قاعدة أنجرليك التركية الضخمة. أما بخصوص ما يُقال عن ميل أميركي بقبول تقاسم نفوذ في الشرق الأوسط، وهذا احتمال بعيد، فإنه سيبقى مؤجّلًا حتى تتضح مآلات الصراع مع كل من روسيا والصين حول أوروبا وآسيا.
رابعًا: سورية ساحة اختبار قاسية
لعلّ أهمّ الدوافع التي حذت بروسيا للتدخل العسكري الكثيف في سورية بدءًا من 30 أيلول/ سبتمبر 2015، كان المساومة والحصول من الأميركيين على صفقة شاملة لحلّ أزمات المنطقة من سورية والعراق واليمن وليبيا، وصولًا إلى البحرين ولبنان والقضية الأوكرانية، والملفّات العالقة مع الغرب. لكن إدارة أوباما رفضت هذا العرض، ربما لأن أوباما كان يفضل صفقة مع إيران حول دورها في المنطقة بالتوازي مع مفاوضات النووي، وأفشلتها إيران بسبب تمسّكها بالأسد وحلفائها في لبنان واليمن، لكن الأصحّ أن الإدارة الأميركية السابقة كانت ترفض ربط الملفّات الذي تسعى إليه موسكو. وعلى افتراض قبول موسكو بصفقة حول سورية، فإن بوتين، وفي ضوء السياسات الهجومية للإدارة الأميركية الجديدة، سيؤجّلها إلى ما بعد معاودته إشعال الحرب الأوكرانية ووضع يده على كييف انسجامًا مع متطلّبات العودة الروسية كلاعب أساسي في السياسات الدولية.
جاءت الضربة الصاروخية الأميركية، وغير المتوقعة، لمطار الشعيرات السوري، ردًّا على هجوم خان شيخون الكيماوي، وحملت من الرسائل السياسية إلى الروس والإيرانيين والنظام السوري ما يُفيد بتغيير قواعد اللعبة، وأن التراخي الأميركي الذي طبع عهد أوباما لم يعد قائمًا، وأن الحضور الأميركي في ملفّات سورية والمنطقة سوف يزداد اتساعًا. وعلى الرغم من أن الإدارة الجمهورية في عهد ترامب حدّدت أولوياتها بمواجهة (داعش) والنفوذ الإيراني ونظام الأسد، إلا أن الارتباك الذي أحدثته لم يقتصر على الأطراف الثلاثة المعنية، بل طال موسكو بشكل أكبر، وازداد المأزق الروسي عمقًا، فروسيا لم تستطع أن تعترض الصواريخ الأميركية، وعدم فعلها ذلك هزّ من هيبتها التي بنتها في سورية على جماجم المدنيين السوريين لحماية حليفهم. فقد أعلن النائب الأول لرئيس اللجنة الدولية في مجلس الاتحاد الروسي، فلاديمير جباروف، “أن روسيا لا تنوي استخدام القوات الجوية الفضائية ضد الصواريخ الأميركية، في حال نفّذت واشنطن ضربات صاروخية جديدة ضد النظام السوري” و “إن موسكو لا يمكنها أن تتورّط في مواجهة مسلحة تُهدد بحرب واسعة النطاق”، في الوقت ذاته الذي قال فيه ماكماستر، رئيس مكتب الأمن القومي الأميركي، “إن ترامب عندما قرّر الخيار الثالث من الخيارات التي قُدّمت له كردّ على خان شيخون، كان يعني ضمنًا أن خيار قطع الرأس يبقى على الطاولة”. وبعيدًا من الصخب الإعلامي الروسي حول القدرات الروسية وتصميمها على المواجهة، يبدو أن الحقيقة هي أقرب إلى ما قاله إيغور سوتياجين من المعهد البريطاني للخدمات المتحدة “إن بوتين يُثير الرهانات دائمًا، لكنه يراوغ. فهو يعلم جيدًا أنه لا يستطيع أن يفعل أي شيء عسكري في مواجهة أميركا”، الأمر الذي تُراهن عليه مجموعة الصقور من النخبة العسكرية الأميركية في الإدارة الجديدة، والتي ترى أيضًا أن روسيا ستأخذ المعادلة العسكرية كأداة تفاوضية في الحسبان.
لقد رفضت موسكو عرض قمة السبعة (G7) التي عُقدت في روما يوم 12 نيسان/ أبريل 2017، والذي حمله الرئيس الإيطالي، بإعادة روسيا إلى المجموعة بما يتضمّنه من إمكانية رفع العقوبات الاقتصادية عنها بشكل تدريجي إذا قبلت تسوية في سورية، وطبّقت اتفاق مينسك حول أوكرانيا؛ وهذا يؤشّر إلى ضيق وصعوبة الخيارات أمام موسكو، وخاصة أن بوتين لا يقبل التخلّي عن الأسد متذرّعًا بقاعدة رفض تغيير النظم الحاكمة بقرارات خارجية، لأن هذا الأمر قد يطاله في النهاية، ولأنه لا يستطيع أن يتخلّى عن حليفته إيران من دون مقابل، في الوقت الذي لا يبدو فيه أن الإدارة الأميركية مستعدّة له في ضوء استراتيجيتها الهجومية المعلنة. وعليه، فإن الصراع الإستراتيجي الذي يشهده العالم ما بعد أوباما، سيكون أشدّ ضراوة مما سبق أن شهدته المنافسات الجيوسياسة فيما بين الدول الكبرى طوال المرحلة التي أعقبت الحرب الباردة.
يقول ميخائيل غورباتشوف بعد زيارة تيلرسون الأخيرة إلى موسكو إنه “يرصد مؤشرات اندلاع الحرب الباردة الجديدة”، ويرى في تكثيف الحشود العسكرية في أوروبا، وتدهور العلاقات بين الدول، وتنامي سياسات الأحلاف “إشارات سلبية إلى دخول العالم في نفق مواجهة، لقد باتت قوات الخصمين الرئيسيين روسيا والولايات المتحدة تقف أنفًا لأنف”.
لم تقبل موسكو بما تسرّب من أنباء عن العرض- الصفقة الذي قدّمه تليرسون في زيارته الأخيرة “باحترام مصالح روسيا” بدل الإقرار بشراكة كاملة في كل الملفّات الإقليمية والدولية، وهو ما لا تبدو واشنطن مستعدة له. وعليه، فإن السؤال الذي يطرح نفسه ما هي الخيارات أمام موسكو التي تُمسك بمجموعة من المفاتيح ومنها سورية؟ لعلّ الجواب المتوافر حتى الآن هو ما صرّح به ديمتري بيسكوف، الناطق باسم الكرملين، بأن بوتين “صبور بما فيه الكفاية، لذلك هو مستعد للانتظار حتى اتضاح الرؤية الأميركية الجديدة، لا صفقة في سورية وحدها ولا اتفاق جزئيًا، إما شريك كامل وإما أن ننتظر”. يُستشفّ من هذا الجواب، وغيره من المؤشّرات ذات الصلة، أن سورية أصبحت، عند هذا المنعطف والتغيير في السياسات الأميركية في عهد ترامب، ساحة اختبار صعب أمام بوتين، ومن غير المؤكد أن صبره سيفيده في تحقيق الأهداف التي يتطلّع إليها. وفي الوقت ذاته ستكون ساحة اختبار قاسية للأطراف الإقليمية المتدخلة.
خاتمة
عندما اختار بوتين، في سياق ردّه على الغرب، أن تكون سورية بوابته للعودة إلى الساحة الدولية، مستغلًا إعادة التموضع الأميركي، كان، في العمق، يخوض في مواجهة الغرب حربًا دفاعية بأسلوب هجومي، حاول خلالها تمتين علاقته بإيران، وإقامة تحالف مع تركيا ما زال هشًا بعد استدارة أردوغان 2016، مع احترام المصالح الإسرائيلية إلى حدّ بعيد.
لقد أخذت روسيا فرصتها كاملة في عهد أوباما، لكنها عجزت عن تقديم نفسها قوةً كبرى تحترم الالتزامات التي يُرتّبها عليها مثل هذا الموقع؛ فلجأت إلى ممارسة العنف العاري والتضليل، وإلى استخدام حقّ النقض (الفيتو) في مجلس الأمن، ثماني مرّات حتى الآن، بشكل غير مسؤول آل إلى تعطيل المجتمع الدولي، ولم تحترم حق المدنيين العزّل في الحياة والأمان. لقد بدت قوة همجية تعمل بأساليب تقليدية في عالم جديد، وأضاعت فرصة الفوز بصفقة في عهد أوباما، ليس من السهل أن تحظى بها في عهد ترامب.
ويُشير كثير من المعطيات إلى أن روسيا ليست في وارد أن تخوض مواجهة عسكرية كبرى في سورية، وليس لديها القدرة على مثل هذا الأمر، ولا الإرادة أيضًا. وهي تُدرك أن مصالحها الحقيقية، ومصادر الخطر الحقيقي على أمنها القومي، موجودة هناك في أوروبا، وليس في سورية. كما أنها ليست في وارد المغامرة من أجل “حليفها” الأسد في نهاية المطاف. ويبدو أن الإستراتيجية التي اعتمدها بوتين في سياق مواجهته الغرب، ستكون سورية أولى محطات فشلها. لقد حاول تقطيع الشرنقة، لكن يبدو أن خيوطها أمتن من أسنانه.