المحتويات
أولًا: من التظاهرات السلمية إلى التسلّح
ثانيًا: دور غرفة العمليات المشتركة
ثالثًا: اتفاق خفض التصعيد في الجنوب
رابعًا: الهجوم العسكري والدبلوماسي
خامسًا: التفاوض تحت القصف ومصير الفصائل
سادسًا: الحراك الدبلوماسي قبل قمة هلسنكي
مقدمة
افتقدت الثورة السورية الشعبية ضد الاستبداد، بحكم عفويتها، إلى قيادة سياسية توجّه مسارها في كل مرحلة من مراحل تحولاتها، ما جعلها فريسةً للتدخلات الخارجية التي لم تكن معنيةً بأهداف الثورة ومطالبها المحقّة، فقد عمل التدخُّل الخارجي على خطّين؛ سياسي أنتج هيئاتٍ تابعة، وعسكري تمثّل بتسليح فصائل “الجيش الحر” وتمويلها وأسلمتها، ما قيّد من وصولها إلى شرائح اجتماعية جديدة وأبعد المتردّدين عن الخوض في غمارها.
كل ذلك وضع الثورة بين مطرقة النظام وحلفائه من جهة، وبين سندان أجندات الدول المتحكّمة بالتمويل والتسليح من جهة أخرى، وأعاد مجرياتها التحررية الأولى إلى حالة الكمون، ليحلّ محلّها الصراع الإقليمي والدولي وتشابكاته المحلية المعقّدة، وما نجم عنه من آثار مدمّرة، وارتباط أي حلّ سياسي بتوافقات دولية وإقليمية طال أمد انتظارها.
أولًا: من التظاهرات السلمية إلى التسلّح
ما يميّز مدينة درعا ومحافظتها أنها كانت مهدًا للثورة السورية الشعبية منذ الثامن عشر من آذار/ مارس 2011، حيث انطلقت الانتفاضة متأثرة بمقدمات خارجية تمثّلت باندلاع ثورات الربيع العربي في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن، على التوالي، وقد سبقت تظاهرات درعا البلد بشهر، في السابع عشر من شهر شباط/ فبراير 2011، مظاهرة شعبية عفوية في منطقة الحريقة بدمشق، احتجاجًا على إهانة الشرطة لأحد المواطنين، والتي رفعت شعار: “الشعب السوري ما بينذلّ”.
بين هذين الحدثين، شهدت دمشق عدة اعتصامات قام بها ناشطون تضامنًا مع تظاهرات دول الربيع العربي، ومسيرة قاموا بها في دمشق القديمة في الخامس عشر من شهر آذار/ مارس، ووقفة احتجاجية أمام وزارة الداخلية للمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين في السادس عشر من الشهر نفسه.
تعامل النظام مع الأطفال الذين كتبوا شعاراتٍ على جدران مدرستهم، تحاكي ما كانوا يسمعونه عن الثورات الجارية في بلدان عربية أخرى، بعنجهية أمنية اعتاد عليها في التعامل مع أبسط الاحتجاجات. كذلك، أهان محافظ المدينة، فيصل كلثوم، والمسؤول الأمني عاطف نجيب، وفد العشائر الذي قابلاه من أجل إطلاق سراح هؤلاء الأطفال بطريقة أصابت كرامة أعضاء الوفد في الصميم.
عمل النظام السوري منذ الأسبوع الأول للاحتجاجات على اعتماد الخيار الأمني وخلط الأوراق والكلام عن المندسين والمسلحين، وتوفير الأسلحة للتشجيع على المواجهة المسلحة، وتوّج ذلك باقتحام المسجد العمري في 24 آذار/ مارس 2011، وعرض أسلحة وأموالًا داخله، ومع سقوط الضحايا في اقتحام المسجد والتظاهرات، تصاعدت الاحتجاجات وامتدت إلى ريف المحافظة، وأشعل المتظاهرون النار في رموز تُمثّل النظام، وحطّموا تمثال الأسد الأب في ساحة التحرير.
بعد ذلك ظهرت الانشقاقات في صفوف الجيش، الذي حلّ مكان الأجهزة الأمنية في محاولة قمع التظاهرات، وتصاعدت مشاعر الغضب، ما مهّد لانشقاقات أكبر، إلى أن تشكّلت “حركة الضباط الأحرار” و”الجيش السوري الحر”، الذي احتوى من بدايته عناصر مدنية مسلحة كانت تشارك في حماية التظاهرات.
في خريف عام 2011 وأوائل عام 2012، كان العمل المسلح قد انتظم في عدة كتائب، خاض أفرادها مواجهات مسلحة مع قوى الجيش والأمن. وفي منتصف عام 2012 دخلت السلفية الجهادية على الخط، من خلال تشكيل كتيبة “شهداء اليرموك” بقيادة أبو على البريدي، المقاتل السابق في العراق. ومع انخراط المزيد من السلفيين الجهاديين وتشكيلهم لمجموعات مسلحة خاصة بهم، تطوّر افتراقٌ في الرؤية وأسلوب العمل، وأنشأ الجهاديون محاكمهم الشرعية بالتّضاد مع المجالس العسكرية المشكّلة حديثًا من قبل “الجيش الحر”.
ومع حلول عام 2014، كان المشهد العسكري لفصائل درعا مؤلّفًا من ثلاث مجموعات؛ “الجيش الحر”، و”جبهة النصرة”، و”تنظيم الدولة الإسلامية – داعش”، وتنافست هذه المجموعات الثلاث وتحاربت، وإن كان التعاون بين فصائل “الجيش الحر” و”النصرة” قد استمر حتى اعتقال العقيد أحمد النعمة قائد المجلس العسكري في درعا في 3 أيار/ مايو 2014. وفي ربيع 2015 أعلنت فصائل الجبهة الجنوبية القطيعة مع كلٍّ من “جبهة النصرة” و”داعش”، وتركّز وجود “جبهة النصرة” في شرق محافظة درعا، بينما تجمّعت الفصائل المبايعة لـ “داعش” في حوض اليرموك، وهي: “لواء شهداء اليرموك” و”حركة المثنى الإسلامية” و”جيش المجاهدين”، والتي شكّلت لاحقًا “جيش خالد بن الوليد”.
ثانيًا: دور غرفة العمليات المشتركة
في خريف عام 2013، تشكلت غرفة العمليات المشتركة (الموك) واتّخذت من العاصمة الأردنية عمّان مقرًّا لها. ضمّت الغرفة كلًا من الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا، إضافة إلى الأردن والسعودية والإمارات وكتائب “الجيش الحر”.
التزمت غرفة العمليات المشتركة تزويد الكتائب المنضوية في إطارها بالذخائر وبعض الأسلحة الفعالة المضادّة للدروع، كصواريخ (التاو) أميركية الصنع، علاوة على التدريب العسكري والمرتّبات الشهرية والسلال الغذائية. مقابل ذلك، كان على كتائب “الجيش الحر” التزام الخطوط العامة لصورة الدولة السورية المقبلة، كدولة مدنية، مع نبذ الطائفية ومحاربة الإرهاب وحماية الأقليات، علاوة على عدم الاقتراب من حدود الجولان المحتل وحمايتها من أي تسلُّل إلى الداخل الإسرائيلي.
اللافت للنظر هنا أن تقوم دول خارجية، عربية وأجنبية، بتذكير السوريين، الذين انتفضوا في وجه الاستبداد، بأهداف ثورتهم الوطنية والشعارات التي رفعوها في البدايات، ما يعكس حجم التدخّل السّلبي واللّعب بمجريات الثورة، وبخاصة تزايد نفوذ تيارات الأسلمة والجهاد العابر للحدود.
من خلال غرفة (الموك)، تم تعزيز الكتائب المعتدلة في الجنوب وتنظيم عملياتها العسكرية، وذلك كنوع من الردّ على الدعم الروسي – الإيراني للنظام. وبالفعل، شهدت الجبهة الجنوبية انضباطًا ملحوظًا، وحال الدعم المقدَّم لها دون تمدّد “جبهة النصرة” والكتائب الموالية لتنظيم “داعش” في حوض اليرموك وقرب حدود الجولان المحتلّ إلى مناطق أخرى في محافظتي درعا والقنيطرة. كما لم يُسمح للكتائب التابعة لغرفة (الموك) بتجاوز مثلث الموت الرابط بين محافظات ريف دمشق ودرعا والقنيطرة والتقدّم نحو العاصمة دمشق؛ فعلى بالرغم من إعلان بعض الفصائل العسكرية في الجنوب النفير العام لنصرة الغوطة الشرقية في أثناء الهجوم الأخير عليها، أواخر شهر شباط/ فبراير 2018، فإنها لم تقم بأي شيءٍ يُذكر بهذا الخصوص، وبقيت تصريحاتها مجرّد فقاعات إعلامية.
ثالثًا: اتفاق خفض التصعيد في الجنوب
في السابع من أيار/ مايو 2017، عُقد اتفاقٌ لوقف إطلاق النار في الجنوب السوري بين ثلاث دول هي: روسيا (كضامن للنظام) والولايات المتحدة والأردن (كضامنين للمعارضة المسلحة)، وكانت “إسرائيل” حاضرة “من وراء الستارة”. ثم تحوّل وقف إطلاق النار في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017 إلى اتفاق خفض التصعيد برعاية الأطراف الثلاثة ذاتها.
مثل اتفاقيات خفض التصعيد الأخرى في سورية (في إدلب والغوطة الشرقية وشمال حمص)، نصّ الاتفاق على تجميد العمليات العسكرية وتوفير الشروط الملائمة لوصول المساعدات الإنسانية وعودة اللاجئين وإصلاح البنية التحتية. جاء اتفاق وقف التصعيد في الجنوب بعد اتفاق الرئيسين الأميركي، دونالد ترامب، والروسي، فلاديمير بوتين، في قمة منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادي (أبيك) في فييتنام في العاشر من الشهر ذاته.
يمكن اعتبار اتفاق خفض التصعيد، الذي يشمل ثلاث محافظات في الجنوب السوري -السويداء ودرعا والقنيطرة-، امتدادًا وتعديلًا لعمل غرفة العمليات المشتركة (الموك)، لكن مع دخول روسيا على الخطّ وخروج الإمارات والسعودية، اللتين كانتا تضطلعان بمعظم عمليات تمويل الفصائل المسلحة التابعة للغرفة في الجنوب، فقد أصبح وجود هاتين الدولتين الخليجيتين، بعد القرار الأميركي برفع الدعم والتمويل عن الفصائل، أمرًا لا طائل منه.
علاوة على قرار الولايات المتحدة بوقف الدعم عن فصائل الجنوب (موقّتًا)، بحجة إعادة ترتيبها، تمّ إبلاغ هذه الفصائل بأن قتال قوات النظام لم يعد مطروحًا، وأن الجهد يجب أن يتوجّه إلى محاربة “تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش). وفي أوائل شهر تموز/ يوليو 2018، أعلن وزير الدفاع الأميركي، آشتون كارتر، عن إعادة تفعيل غرفة العمليات المشتركة من أجل فتح جبهة جديدة في الجنوب ضد الفصائل المبايعة لتنظيم “داعش” في الريف الغربي لمحافظة درعا.
رابعًا: الهجوم العسكري والدبلوماسي
لم تمضِ عدة أسابيع على انتهاء فصل المعارك والمصالحات في جنوب دمشق حتى بدأت التحضيرات للقيام بعملية عسكرية في درعا، وألقت طائرات النظام منشورات على مناطق الجنوب تطلب فيها من (المسلحين) “إلقاء السلاح أو مواجهة مصيرهم المحتوم”. ترافق ذلك مع استعراضات عسكرية للنظام وحلفائه من جهة، والفصائل المسلحة في الجنوب من جهةٍ أخرى.
في 25 أيار/ مايو 2018، جاء الرد الأميركي سريعًا على لسان الناطقة باسم وزارة الخارجية الأميركية، هيذر ناورت، بأن بلادها “ستتّخذ إجراءاتٍ حازمة ومناسبة ردًّا على انتهاكات نظام الأسد، بوصفها ضامنةً لمنطقة خفض التصعيد في الجنوب، مع روسيا والأردن”. مع ذلك، سرعان ما بدأ القصف على منطقة اللّجاة شرق محافظة درعا، ثم امتدّ إلى مناطق أخرى من محافظتي درعا والقنيطرة، كنوع من الضغط العسكري لفرض الشروط على فصائل الجنوب التي تفاوض الروس في العاصمة الأردنية عمّان.
صدرت كذلك تصريحات روسية أُعلِن فيها عن انتهاء العمل باتفاق خفض التصعيد في الجنوب، وذلك قبيل زيارة مستشار الأمن القومي الأميركي، جون بولتون، إلى موسكو في السابع والعشرين من شهر حزيران/ يونيو 2018 للتحضير للقمة الأميركية – الروسية في هلسنكي في 16 تموز/ يوليو 2018. وفي الثامن عشر من شهر حزيران/ يونيو 2018، تقدمت قوات النظام وحلفائه من محافظة السويداء على الحدود السورية – الأردنية باتجاه معبر “نصيب” واحتلت عدة بلدات شرق درعا.
في هذه الأثناء، تسّربت الأنباء حول مباحثات روسية – أميركية – أردنية لعقد ما سمي بـ “صفقة الجنوب”، والتي من ضمنها تمكين قوات النظام من الوصول إلى الحدود الأردنية (بما في ذلك السيطرة على معبر نصيب) وحدود الجولان المحتل، على أن يتم البتّ في هذه الصفقة في قمة هلسنكي. كما تتضمن الصفقة، بحسب بعض التسريبات الصحفية، إعادة الشرعية لنظام الأسد وضمان أمن “إسرائيل” والتحضير للانسحاب الأميركي من سورية، وذلك مقابل إبعاد الميليشيات التي تقودها إيران من الجنوب (أو من كل سورية)، وهو مطلب إسرائيلي كما هو معروف.
لكنّ تحوّل موقف الإدارة الأميركية من التهديد من مغبّة الهجوم على الجنوب، كما ورد على لسان المتحدثة باسم وزارة الخارجية أعلاه، إلى إرسال رسالة إلى الفصائل المسلحة في الجنوب، أواخر شهر حزيران/ يونيو الماضي، بأن الولايات المتحدة لن تتدخل عسكريًا إذا هاجم النظام المعارضة المسلحة في درعا، لهو مؤشّر مهمّ على وجود تفاهم أميركي – روسي – إسرائيلي – أردني حول الجنوب، ستتّضح مدرجاته مع مرور الوقت.
في الواقع، ما يجري على الأرض يتماشى وهذه التسريبات، ومنها عودة قوات النظام إلى معبر “نصيب” على الحدود مع الأردن، ثم انتشارها على الحدود الأردنية حتى وادي اليرموك، حيث باتت تحتشد هناك في مواجهة “داعش”. وفي 16 تموز/ يوليو 2018، تابعت قوات النظام هجومها على محافظة القنيطرة واحتلّت “تل الحارة” الاستراتيجي.
لقد أصبح من شبه المؤكّد، في ضوء التصريحات الإسرائيلية المطمئنة للنظام وروسيا ونتائج قمة هلسنكي، أن تنتشر قوات النظام على خط الهدنة في الجولان، ويعود الوضع إلى ما كان عليه قبل عام 2011. بهذا تضمن “إسرائيل” ما تقول إنه “حدودها” التي بقيت آمنة منذ اتفاق الهدنة في الجولان عام 1974، ومن يمكن أن يكون أفضل وأكثر موثوقيةً من قوات النظام السوري ليقوم بهذه المهمة؟
خامسًا: التفاوض تحت القصف ومصير الفصائل
تحت الضغط العسكري للنظام وحلفائه الروس، عُقدت خمس جولات من المفاوضات في العاصمة الأردنية. سبقت الجولة الأخيرة غارات روسية عنيفة على مواقع المسلحين وسقط ضحايا مدنيون أيضًا، ما دفع الفصائل المعنيّة إلى قبول معظم الشروط الروسية للحلّ أو إجراء تعديلات بسيطة عليها لا تمسّ الجوهر. ففي السادس من شهر تموز/ يوليو 2018 توصّلت روسيا إلى اتفاق مع فصائل الجنوب يتضمّن ما يلي:
- وقف إطلاق النار وتسليم الفصائل لسلاحها الثقيل والمتوسط؛
- يحق لجميع المسلحين تسوية أوضاعهم بضمانات روسية، ومن لا يرغب يمكنه المغادرة مع عائلته إلى إدلب؛
- تسليم خط الجبهة مع “داعش” للجيش السوري؛
- عودة جميع المهجّرين من مدنهم وبلداتهم بضمانات روسية؛
- تسليم جميع نقاط المراقبة على طول الحدود السورية الأردنية إلى الحكومة السورية؛
- تعود مؤسسات الدولة للعمل بعد خروج غير الراغبين بتسوية أوضاعهم؛
- إعطاء المنشقين والمتخلفين عن خدمة العلم فترة 6 أشهر للالتحاق بالجيش.
لا تختلف شروط المصالحة هذه عمّا جرى في أكثر من منطقة في سورية، وتتشابه أكثر مع شروط المصالحة في منطقة خفض التصعيد في ريف حمص الشمالي. ويبدو أنّ بنود الاتفاق تتحقق تباعًا، على الرغم من الأخبار التي تحدثت عن خروقات قام بها النظام، منها القيام بحملات اعتقال في بعض البلدات والتلكّؤ في الانسحاب من بعضها الآخر.
كان من المفترض أن تكون الجبهة الجنوبية قادرة على الصمود مدة أطول، لولا رفع الغطاء الأميركي، الذي جعل من ذلك أمرًا في غاية الصعوبة. كما أنّ انهيارات قادة بعض فصائل شرق درعا أدت إلى تضعضع باقي الفصائل، وتضاؤل الأمل بإمكانية الصمود أمام الهجمات الجوية الروسية المدمّرة. من جهة ثانية، عمل اقتناع الفصائل بعدم جدوى القتال، على المدى المتوسط والبعيد، على تجنيب درعا المزيد من الموت والدمار.
منذ تشكيل غرفة (الموك)، كانت الفصائل المسلحة تؤدي مجرّد دور، بوعي أو من دونه، بانتظار تفاهماتٍ إقليمية ودولية حول المنطقة الجنوبية الغربية من سورية. ينحصر مصير هذه الفصائل الآن بين خيارين؛ الاندماج في إطار القوى العسكرية والشرطيّة لمنظومة الدولة الحالية والمساعدة في قتال “داعش” في حوض اليرموك -ربما من خلال الانضمام إلى الفيلق الخامس الذي يشرف عليه الروس- أو الترحيل إلى إدلب. ومع أنّه من المبكِّر الحديث عمّا سيحدث في إدلب، فمن المرجّح أن يترافق تنظيم الوجود المسلح فيها مع تحجيم أو إنهاء دور المليشيات التي تقودها إيران، في إطار الحلّ السياسي أو كمقدمة له.
إنّ إنهاء الوجود المسلح في سورية ليست رغبة روسيا فحسب، فمن الواضح أن الولايات المتحدة الأميركية ليس لها رأي آخر، وهي التي حاولت تدريب فصائل من “الجيش الحر” في الشمال لقتال “داعش” وفشلت، لكنها نجحت في ذلك مع “قوات سورية الديمقراطية” (قسد). كما نجحت أيضًا في تجميد الجبهة الجنوبية عبر غرفة (الموك)، منذ عام 2013، وتركت الفصائل المسلحة المتعاونة معها لمصيرها في الآونة الأخيرة، ولم يختلف ذلك كثيرًا عمّا حدث لباقي الفصائل في مناطق أخرى من سورية.
الخطوة الأقرب في مسعى تنظيم عمل الفصائل هي المحادثات التي تجري حاليًا بين الروس والأميركيين على إغلاق قاعدة (التّنف) لقوات التحالف، وما تسرّب للصحافة من أنّ الأميركيين طلبوا من الفصائل الموجودة هناك المغادرة إلى المناطق التي تسيطر عليها “قوات سورية الديمقراطية” (قسد).
لا شك في أن هناك ارتياحًا أردنيًا تجاه ما يحصل على حدوده الشمالية. وكانت جمانة غنيمات، وزيرة الدولة لشؤون الإعلام والمتحدثة باسم الحكومة، قد صرّحت لوكالة الأنباء الأردنية (بترا)، في 30 حزيران/ يونيو 2018، بأن “الأردن يرحب بأي اتفاق للهدنة والتهدئة، حفاظًا على أرواح المدنيين وخصوصًا الأطفال والنساء”.
بعد بدء الهجوم، أغلق الأردن حدوده أمام عشرات آلاف النازحين، وسارعت الهيئات المدنية الأردنية إلى تقديم المعونات للاجئين المتجمعين على حدوده، والذين بدأوا بالعودة إلى قراهم ومدنهم بعد توقيع الاتفاق آنف الذكر. وهكذا، تجنّب الأردن موجة نزوح جديدة، كثيرًا ما عبّر مسؤولوه بأنهم غير قادرين على تحمّلها. كما يأمل الأردن بعودة معظم سكان المخيمات إلى الجنوب السوري تباعًا، عند توافر الظروف الملائمة.
من جهة أخرى، سيؤمّن فتح معبر (نصيب) عبور البضائع والمسافرين، وعودة تجارة الترانزيت بين لبنان وسورية والأردن، وتركيا في وقتٍ لاحق، كما سيخفّ الخطر الأمني على الأردن واحتمال عبور الإرهابيين إلى أراضيه.
أمّا المشروع الإسرائيلي حول إنشاء منطقة آمنة في الجنوب السوري فقد طوته التطورات اللاحقة. وكانت صحيفة “ذا انترسبت” الأميركية قد نشرت تقريرًا حول الموضوع في شهر كانون الثاني/ يناير 2018، تحدّثت فيه عن تدريب “إسرائيل” لمقاتلين في الجنوب لحماية حدود الجولان، ولقاءات أجرتها عناصر استخباراتية إسرائيلية مع بعض قادة الفصائل المسلحة في محافظة القنيطرة.
سادسًا: الحراك الدبلوماسي قبل قمة هلسنكي
في التاسع والعشرين من حزيران/ يونيو 2018، نشر تلفزيون (سي إن إن) بعض تفاصيل اللقاء الذي جمع بين الرئيس الأميركي ترامب والعاهل الأردني عبد الله الثاني في العاصمة الأميركية، ومنها أن ترامب أعلن عن رغبته في سحب القوات الأميركية من سورية، وأنه على ثقة بالتوصّل مع بوتين لاتّفاق حول منطقة عازلة في الجنوب السوري.
كما عُقدت في اليوم نفسه محادثاتٌ بين رئيس الأركان الإسرائيلي، الجنرال غادي أيزنكوت، ونظيره الأميركي حول الوضع في جنوب سورية والمطالب الإسرائيلية، التي من أهمها عدم اقتراب إيران من المنطقة العازلة في الجولان واحترام النظام السوري لخط اتفاق الهدنة في عام 1974. بالطبع، سيتمّ نقل هذه المطالب الإسرائيلية إلى جدول أعمال قمة هلسنكي المقبلة بين الرئيسين الأميركي والروسي.
لم تكتفِ “إسرائيل” بزيارة رئيس أركان جيشها إلى واشنطن، وقام رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بزيارة الرئيس بوتين في موسكو، يوم الأربعاء في الحادي عشر من شهر تموز/ يوليو 2018، قبل قمة هلسنكي بأيام قليلة، وذلك من أجل التأكيد على المطالب الإسرائيلية أعلاه، كما صرّح الناطق باسمه، أوفير جندلمان، على صفحته في موقع “تويتر”. بعد الاجتماع مباشرة، صرّح نتنياهو بأنه طلب من الرئيس الروسي بوتين العمل على إخراج الإيرانيين من سورية، وأبلغه بأنه “لا ينوي تهديد استقرار نظام بشار الأسد”.
يريد نتنياهو إجراء مقايضة وهمية؛ التشدّد بالنسبة إلى الوجود الإيراني في سورية، لدرجة المطالبة بإخراج ميليشياتهم بصورة نهائية، مقابل وعده بعدم التعرّض إلى نظام الأسد، الأمر الذي لم يحدث عمليًا منذ اتفاقية الهدنة عام 1974، إلا في حوادث متفرقة، معظمها في لبنان، بخاصة خلال حرب 1982. في عرضه هذا، يبدو نتنياهو كأنّه يبيع بوتين السمك وهو ما يزال في الماء.
ترافقت زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إلى موسكو مع زيارة مستشار المرشد الأعلى للشؤون الخارجية الإيرانية، علي أكبر ولايتي، الذي علّق على هذه “المصادفة” بالقول إن “وجود نتنياهو في موسكو لا يؤثر على زيارتي الاستراتيجية”.
بعيدًا من الحديث البروتوكولي عن الاستثمارات والعلاقات الثنائية، فإن هاتين الزيارتين تكثّفان الصراع الإسرائيلي – الإيراني في سورية، وما يأمل كل طرف بتحقيقه في قمة هلسنكي بين الرئيسين بوتين وترامب. ومع أن العلاقات الروسية – الإيرانية يمكن أن توصف بالفعل بأنها تقترب من أن تصبح استراتيجية –حتى الآن-، فإن للطرف الإسرائيلي علاقاته الاستراتيجية مع كلتا الدولتين، روسيا والولايات المتحدة، وحظوظه أوفر في الجني من ثمار القمة المنتظرة.
من المتوقّع –بحسب تسريبات صحفية- أن تلتزم روسيا إخراج الإيرانيين من سورية مقابل القبول بتعويم النظام. لكنّ ذلك لن يحدث بين ليلة وضحاها، والمصالح الروسية – الإيرانية تتجاوز سورية، والطرفان غير مستعدّين للتضحية بها بهذه السهولة والسرعة. لكن، على الأغلب، سيتم تحجيم الوجود الإيراني –على المدى القريب- من خلال استمرار الروس بغضّ الطّرف عن القصف الجوي للأهداف الإيرانية في سورية.
في سياق آخر، وقبل قمة هلسنكي بأيام، وتحديدًا في 12 تموز/ يوليو 2018، صرّح ترامب بأن الرئيس بوتين “منافس، لا صديق ولا عدوّ”. بعد ذلك بيومين، اتّهم نائب المدّعي العام، رود روزنشتاين، 12 من ضباط المخابرات الروسية بالتجسّس على اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي وعلى حملة المرشّحة الديمقراطية السابقة هيلاري كلينتون عام 2016.
يأتي ما سبق في إطار الضغط على الطرف الروسي قبيل القمة التي ستشتمل على مناقشة موضوعات خلافية عديدة، ما يستدعي عدم الإفراط في التفاؤل بصدد النتائج السريعة التي قد تُسفر عنها، مع أنّ عقد القمة بحدّ ذاته ومستوى التحضيرات التي سبقتها يُنبئ بتحقيق تقدّم في بعض هذه الملفات على الأقلّ، ومنها الملفّ السوري.
بالفعل، بدا الرئيسان مرتاحين في المؤتمر الصحفي الذي تلا انتهاء القمة الروسية – الأميركية مساء 16 تموز/ يوليو 2018، وأن ثمة توافقاتٍ قد حصلت بالفعل. أما بالنسبة للملف السوري، فلم يأتيا بجديد عمّا جاء في التوقّعات، إذ قال الرئيس ترامب بأنه “لن يُسمح لإيران بقطف ثمار انتصاراتنا على داعش”، في حين أعلن الرئيس الروسي بوتين عن قرب “عودة الأمور إلى ما كانت عليه في منطقة الجولان… وأنه اتفق مع ترامب على ذلك”، وأن “الحل في سورية سيخفّف من ضغط اللجوء إلى أوروبا”، وأن “مؤتمر أستانا سيوفّر نتائج إيجابية للأزمة السورية”.
سابعًا: التحالف غير المعلن
بدأ التعاون الثلاثي، الأميركي – الروسي – الإسرائيلي، في سورية منذ الاتفاق على منطقة خفض تصعيد في الجنوب عام 2017، ومستجدّه الحالي هو التعاون على إخراج القوات الإيرانية من سورية، في أفضل التوقعات، أو ابتعادها إلى مسافة كافية من “إسرائيل”، في أدناها.
يقودنا ما سبق إلى الإقرار بوجود حلف أميركي – روسي – إسرائيلي غير معلن، وقد أضحى المؤثر الأكبر على مسار الحوادث في الجنوب السوري على نحوٍ خاص، وفي سورية كلها على نحوٍ عام. يتجاوز هذا الحلف في تأثيره الحلف الدولي بقيادة الولايات المتحدة وحلف أستانا الروسي – الإيراني – التركي، ويشير إلى أنّ الخلافات بين طرفين من أطرافه، الأميركي – الروسي، هي في طريقها إلى التقلّص.
ربما يتجاوز الأمر قلق “إسرائيل” على حدود الجولان إلى الجولان ذاتها، وقد تطرح الدولة العبرية موضوع ضمّ الجولان بالفعل، ما يفسّر هذا النشاط الدبلوماسي الإسرائيلي المحموم في العاصمتين الأميركية والروسية، ومن الطبيعي أن يبقى الموضوع سرًّا حتى يتم إنضاج الطبخة والحصول على موافقة الدولتين الكبيرتين، بغية تجنُّب الفشل.
إن حصل ما سبق، يمكن للنظام أن يحتجّ بأن لا علاقة له بهذا الاتفاق، وأن الأطراف الدولية الفاعلة المتحكّمة في مجريات الأمور هي التي فرضته. لكنّه سيكون سعيدًا، ولو أطلق بعض التصريحات الخُلّبية، لأنّ الصفقة المرتقبة قد تزيد من احتمال بقائه في السلطة.
خاتمة
ليس من السهولة بمكان إغفال رمزية مدينة درعا ومحافظتها في الثورة السورية، وإنّ مخرجات الاتّفاق الأخير حول درعا تعدُّ تحوّلًا مهمًا في المسار الذي اتّخذته الحوادث، ودعوة لإعمال العقل والنقد في مجريات المرحلة السابقة. وإذا كانت الأمور بخواتيمها، وبعيدًا عن نظرية المؤامرة، فإن الوقت المتبقي لإجراء مراجعة شاملة لسياسات ومواقف المعارضة خلال هذه الفترة كاد أن ينقضي.
ليس من المرجّح حدوث مفاجآت في المسار الحالي للحوادث، وإنّ الإرادة الدولية تتّجه نحو إنهاء المعارضة المسلحة بالتزامن مع الضغط لسحب الميليشيات الإيرانية. كما أنّ دور المعارضة السياسية التي احتكرت تمثيل السوريين بدعم إقليمي ودولي يكاد أن ينتهي أيضًا، والمسار السياسي في جنيف مهدّد بالإهمال، أو، في أحسن الحالات، التأجيل إلى حين الانتهاء من تجميع المسلحين والسلاح، وذلك في ضوء ما يظهر من تسليم الولايات المتحدة هذا الملف إلى الروس، والإعلان المتكرّر عن سحب قواتها من سورية.
نحن الآن في بداية المنعطف الثاني المهمّ للمسألة السورية بعد منعطف 2012، من ضمن المسار التاريخي الذي افتتحته الثورة السورية أوائل عام 2011، ما يتطلّب سياساتٍ وقوى جديدة للتعامل مع الملفّ السوري المعقّد، الذي تتقاسمه العديد من الدول والمصالح، فهل سيكون السوريون على مستوى التحدّيات المنتظرة؟