المحتويات
أوّلًا: المناطق الآمنة المقترحة في سورية
ب- المناطق الجنوبية ودور الأردن
ثانيًا: دوافع المطالبين بإقامة المناطق الآمنة
ثالثًا: الصعوبات التي تعترض المناطق الآمنة
رابعًا: فرص المناطق الآمنة ومخاطرها
مقدمة
بخلاف سياسة سلفه أوباما، فإنّ الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أبدى رغبته في إنشاء مناطق آمنة في سورية. وقديم الحكاية، مطالبة مبكرة للمعارضة السورية بمنطقة آمنة، واكبتها دعوات متكررة للحكومة التركية تحضّ المجتمع الدولي على تبنّي هذا الخيار، وتلا ذلك تصريحات أوروبية متأخرة داعمة له. والأمثلة: إنشاء منطقة آمنة شمالي العراق عام 1991، ثم في البوسنة عام 1992، وبعدهما في ليبيا عام 2011 عبر حظر جوي سمح للحلف الأطلسي بمحاصرة قوات القذافي وشل حركتها. وبعيدًا من مكتسبات القوى الإقليمية من احتمال إقامة مناطق آمنة في سورية، وما ستقدمه تلك المناطق الموعودة للسوريين أنفسهم، فإنها تشير إلى “ديمومة الصراع بمستويات عنف أقل، وتبريد لجبهات الصراع بين النظام والمعارضة المسلحة لمصلحة تفرّغ الأطراف كلها لمحاربة داعش”.
لكن، ما يزال الوعد الذي قطعه الرئيس الأميركي في حملته الانتخابية بإقامة مناطق آمنة للسوريين، يُمثّل محور مفاوضات إقليمية، ولغزًا كبيرًا للأطراف كافة. لأنّ المشروع الذي من شأنه وقف تدفق اللاجئين إلى أوروبا، ويفترض أن تعرض وزارة الدفاع الأميركية خطته، تحوّل إلى ورقة ضغط وتجاذب بين اللاعبين الإقليميين، قبل أن يتخذ شكلًا مكتملًا، يتيح مناقشة حيثياته وشروطه ومعرفة ما يقدم للسوريين أنفسهم. فالتجارب السابقة لا تحمل كثيرًا على التفاؤل، ولا سيما إذا تذكرنا أنّ مجزرة سيربرينتسا ذاتها وقعت في منطقة يفترض أنها كانت آمنة.
من غير الواضح حاليًا، كيف ستُنشأ هذه المناطق، وما حدودها الجغرافية الدقيقة، والدول الراعية لها، وما سيترتب على هذه الدول من مسؤوليات وأعباء، وما قد تجنيه في المقابل من مكتسبات. وإن كان يُحكى حاليًا عن منطقة في الشمال السوري، ومنطقة في الغرب وأخرى في الجنوب، إلا أنه لا يوجد أي تصور بعد للإطار القانوني والتشريعي للبلدان التي ستقع هذه المناطق تحت إدارتها، وإلى أي مدّة من الزمن سيستمر ذلك، وإذا كان تمويلها سيكون برعاية أممية عبر صندوق خاص كما هي العادة، أم ستتكفل به الدول الراعية مباشرة. ويفتح ذلك على دور الأمم المتحدة في سياق قرار من هذا النوع، في الوقت الذي أعلن مفوضها السامي لشؤون اللاجئين، فيليبو غراندي، صراحة أنّ فكرة “مناطق آمنة هي مضيعة للوقت وغير قابلة للتطبيق”. وعلى افتراض دفع مجلس الأمن في اتجاه إقامة مناطق آمنة، يبقى من غير الواضح كيف سيكون الموقفان الروسي والصيني وإن كان البلدان أو أحدهما سيلجأ إلى حق النقض مرة جديدة.
أوّلًا: المناطق الآمنة المقترحة في سورية
يستند مشروع المناطق الآمنة إلى نقطتين: أولاهما: إشراك جميع القوى الإقليمية، وخصوصًا الدول المتأثرة بموجات اللجوء السوري، في تحمّل مسؤولية متابعة الحل الجزئي لأنها المستفيد الأول من تخفيف الضغط عنها. وثانيتهما، تخصيص جزء من سورية، محدود المساحة وواضح الحدود، على أن يكون ذا تماس واسع مع حدود دولة مجاورة لتحييدها عن النزاع المسلح في سورية في جميع صوره، وتسهيل دخول المساعدات الإنسانية ومستلزمات الحياة البشرية إليه، على أن يقع تحت إدارة مدنية وإشراف مباشر وحماية مباشرة من الدولة المجاورة له، ومراقبة دولية لمدّة موقّتة.
ويُتداول حاليًا في توافر ثلاث مناطق آمنة تحت إدارة تركيا وروسيا والولايات المتحدة الأميركية وإشرافها، حيث تكون المنطقة الآمنة التي تقع شمالي حلب تحت الإشراف التركي، بينما يُعدّ الساحل السوري إضافة إلى غربي حمص متضمنًا حماة والغاب وحلب حتى حدود إدلب، منطقة آمنة تحت إشراف روسي، وأن تكون المنطقة الجنوبية غربي درعا على امتداد الحدود مع إسرائيل وحتى القنيطرة هي منطقة آمنة تحت إشراف أميركي وإدارة أردنية. بينما هناك ثلاث مناطق أخرى مقترحة: أولاها، المناطق الخاضعة اليوم لسيطرة (قوات سورية الديمقراطية) في الجزيرة السورية، لتكون منطقة آمنة تحت الإشراف الأميركي، على أن يكون ذلك قبل إنجاز عمليات تحرير الرقة ودير الزور من قوات (داعش) لتتمكن من احتواء جميع موجات النزوح المتوقعة إليها، وهذا المقترح يصطدم بموافقة تركية غير مُحققة، بسبب مخاوف تركيا من تمدد نفوذ قوات تابعة لحزب العمال الكردستاني؛ وثانيتها: الممتدة من الحدود العراقية –بعد تحرير الموصل من داعش– في اتجاه الرقة، لتصل شمالًا مناطق نفوذ (قوات سورية الديمقراطية)، دون أن يكون للأخيرة أي صلاحيات في إدارتها أو حمايتها، حيث تقع حمايتها تحت مسؤولية قوات مُشكّلة من العشائر العربية هناك إضافة إلى إشراف دولي، وهي تقع أيضًا تحت الإشراف الأميركي المباشر.
بينما يُطالب لبنان بأن تُطلق يده في إنشاء منطقة آمنة ثالثة للسوريين بمساحة ألف كيلو متر مربع على ظهر سلسلة جبال القلمون، ليقوم بنقل مخيمات السوريين من أرضه إلى تلك المناطق، مقابل أن يُشرف عليها وعلى حمايتها وتأمينها. وهي منطقة وإن كانت صغيرة جدًا، لكنها تُعبّر عن رغبة حكومية لبنانية يشاركها فيها (حزب الله) في التخلص أولًا من العدد الأكبر من اللاجئين السوريين داخل الأراضي اللبنانية، ويتيح ثانيًا للـحزب أن يبقى متحكمًا في المنطقة من الناحية الأمنية والعسكرية، فيما يحفظ خاصرته في القلمون ومحيط دمشق.
أ- تركيا والمناطق الآمنة
مفهوم المنطقة الآمنة عند الأتراك لا يعني تدخلًا عسكريًا تركيًا في سورية، وإنما أن تكون هناك منطقة آمنة للشعب السوري، يستطيع اللجوء إليها، بهدف الأمن والسلامة الشخصية للأسر والعائلات والأطفال والنساء وتوفير المساعدات الإنسانية لهم، من دون اضطرارهم إلى مغادرة سورية، ولا إقامة مخيمات أخرى في تركيا أو غيرها. وبالتأكيد فإنّ مثل هذه المنطقة ينبغي أن تكون آمنة من كل تهديد مهما كان مصدره ونوعه، أي حماية الأمن القومي التركي، وبالتالي تحقيق الهيمنة التركية الكاملة على هذه المناطق الآمنة، بحيث تكون محميات تركية وراء الحدود، وقد تستغل السياسة التركية بعض الظروف المقبلة وتوسّع هذه المناطق غربًا حيث يسكنها سوريون من أصل تركي (جبل التركمان).
ب- المناطق الجنوبية ودور الأردن
ما إن تحدّث الرئيس الأميركي عن نيّته إقامة مناطق آمنة في سورية، حتى تجدد الحديث في الأردن عن الجيش العربي الكفوء، الذي بات قاب قوسين من إطلاق درع اليرموك، تيمّنًا بدرع الفرات، خاصة بعد أن أعادت عمليات “الموت ولا المذلة”، التي بدأها “الجيش السوري الحر” في أواخر شباط/ فبراير الماضي لإخراج قوات سلطة آل الأسد من حي المنشية، فتح ملف المناطق الجنوبية من سورية، وما يمكن أن تحمله المتغيّرات لها في المرحلة المقبلة للأطراف المحلية والإقليمية، والسيناريوهات المرسومة لمستقبل هذه المنطقة.
كانت الاستخبارات الأردنية تعمل في السنوات الأخيرة بصورة غير علنية في جنوبي سورية، بالتنسيق مع القبائل وقوات المعارضة المعتدلة من أجل إقامة منطقة عازلة على طول سبعين كيلومترًا، خالية من التنظيمات المتطرفة، وتمتد هذه المنطقة شرقًا من مرتفعات الجولان، وتغطي المناطق الأكثر كثافة سكانية على طول الحدود، وفي إطار هذه الإستراتيجية، كانت عمّان تعمل مع وحدات من الجيش السوري الحر في الجنوب.
هناك من يظنّ، تقاطعًا مع الحل الإسرائيلي الإقليمي للقضية الفلسطينية، من أجل إنقاذ المملكة الهاشمية، أنّ ثمة ضرورة لمشروع “الأردن الكبير”، الذي يُمثّل تطويرًا لضرورة استمرارية أداء الأردن وظيفة “الدولة العازلة”، ويدعم هذا الاعتقاد التلويح بوجود ترحيب أميركي وإسرائيلي بفكرة توسُّع الدور الأردني، وذلك على اعتبار أنّ الحوادث الحاصلة في المنطقة تشكل فرصة جيو- إستراتيجية مهمة لضمان أمن مستدام لإسرائيل، وأنّ “الأردن الكبير” يُمثّل أحد الخيارات الممكنة لتحقيق هذا الأمن.
في جميع الأحوال، سيسعى الأردن ليكون لاعبًا مهمًا في القضية السورية، وسيتساوق مع السياسة الأميركية الجديدة، وهذا لن يحدث في الفراغ، وإنما ضمن بيئة سياسية أمنية تتعلق بالاعتماد على “الجيش الحر”، وربما مع وجودٍ على الأرض للقوات الخاصة الأردنية، ومع دعم سياسي وأمني وجوي من التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن.
ج- الحدود السورية– اللبنانية
تتقاطع معلومات، لبنانية وسورية، عن تبنِّي (حزب الله) ومعه سلطة آل الأسد خيارَ إقامة منطقة آمنة، وفق تعريف هذين الطرفين، داخل الأراضي السورية، تحديدًا في منطقة القلمون الغربي، في مخطط تشجعه السلطات اللبنانية، في ظل محاولة للاستفادة من الحديث الدولي المتصاعد عن خيار المناطق الآمنة داخل الأراضي السورية وفي دول الجوار، واستعدادات تنفيذ هذه الخطة جارية على قدم وساق، ويتولى (حزب الله) فيها الموقع الأبرز، بينما يمكن أن تكون ولادتها على شاكلة ما ترغب سلطة آل الأسد في تصويره “اتفاق مصالحة” شبيه بما وّقع عليه مع عدد كبير من البلدات والمدن الخارجة على سيطرة هذه السلطة، وغالبًا ما تكون اتفاقات إذعان أكثر مما هي مصالحة.
في مشروع (حزب الله)، الجاري البحث في تفاصيله حاليًا، جوانب ثلاثة لمصلحة الحزب وسلطة آل الأسد والسلطات اللبنانية: أولها، مراعاة الحسابات الأمنية والعسكرية التي تتعلق بتأمين خط الإمداد العسكري الخاص بالحزب داخل الأراضي السورية؛ وثانيها، إبعاد أي خطر محتمل من أي طرف سوري معارض، على اعتبار أنّ هذه المنطقة الآمنة ستكون فعليًا منطقة آمنة من المعارضة، وليس من النظام وحلفائه. وثالثها، التخلص من عدد كبير من اللاجئين السوريين المقيمين في لبنان، وخصوصًا في منطقة البقاع، وهي الخزان البشري والعسكري للـحزب الراغب في إزالة “خطر” وزن ديموغرافي، تعاظم حجمه مع وجود عشرات الآلاف من السوريين المعارضين في مناطق على الشريط الحدودي للبقاع مع سورية، مثل عرسال ومجدل عنجر على سبيل المثال.
ومن اللافت أنّ الخطة تستثني منطقة القصير كاملة، وذلك لحسابات عسكرية- طائفية- ديموغرافية، خصوصًا مع تحول المدينة كاملة إلى منطقة عسكرية مغلقة لا يدخلها إلا عناصر الحزب حصرًا، في ظل الحديث الجدي والموثق عن تغيير ديموغرافي طائفي يمارسه بالفعل (حزب الله) ومن خلفه إيران في القصير لتغيير التركيبة الطائفية في المدينة التي كانت مدخل حزب الله عسكريًا إلى سورية عام 2013.
ثانيًا: دوافع المطالبين بإقامة المناطق الآمنة
تتوزع دوافع المهتمين بإقامة مناطق آمنة في سورية بين الغايات السياسية، أو الأهداف العسكرية والأمنية، أو الحاجة الإنسانية؛ فالواضح أنّ الهاجس الأمني و “كفّ شر” اللاجئين السوريين عن بلاده، هما العاملان الأساسيان وراء موافقة دونالد ترامب على المنطقة الآمنة، ليشجع بحجتها السكان المدنيين على البقاء داخل أرضهم، ويخفف حركة اللجوء والهجرة نحو الغرب؛ بينما طالب الأوروبيون بالمنطقة الآمنة، ربما كموقف إنساني يقيهم ضغط الرأي العام نتيجة عجزهم عن حماية المدنيين السوريين أمام فظاعة ما يتعرضون له من فتك وتنكيل، والأهم التعويل على المنطقة الآمنة لاحتواء سيل الهاربين من أتون العنف وتخميد نزوعهم إلى الهجرة نحو البلدان الأوروبية.
أما تركيا فثمة أسباب عدة كانت تقف وراء مطالبتها بالمنطقة الآمنة، تبدأ بوقف تدفق المزيد من اللاجئين السوريين الى أراضيها، مرورًا بتوظيف تلك المنطقة شريطًا عازلًا على طول الحدود لمواجهة تبلور وضع عسكري وميداني للأكراد السوريين، يؤهلهم لإقامة كانتونهم القومي، مرورًا بتحويل المنطقة الآمنة إلى ما يشبه القاعدة لتجميع فصائل المعارضة المقربين منها، وتأهيلهم لمواجهة سلطة آل الأسد، وانتهاء بالرهان على إدارة هذه المنطقة لتفعيل النفوذ التركي، وشرعنة حضوره السياسي والعسكري وفرص محاصصته على المستقبل السوري.
كما أنّ المناطق الآمنة دخلت مرحلة جدل روسي– أميركي، فالطرف الروسي لا يُمانع إقامة هذه المناطق، شريطة موافقة سلطة آل الأسد عليها، كما قال وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في 30 كانون الثاني/ يناير الماضي. وفي حين يرى لافروف أنّ مبدأ الفكرة يقوم على تأمين مناطق لإيواء اللاجئين في دول الجوار وإيصال المساعدات إليهم، يرى أعضاء جمهوريون في الكونغرس الأميركي أنها تهدف إلى حماية المدنيين من هجمات قوات النظام، وتتطلب إحداث منطقة حظرٍ جوي ونشر قوات برية، وغيرها من العمليات اللوجستية التي يتطلبها هذا الأمر.
كرّر الإيرانيون وسلطة آل الأسد معارضتهما رسميًا للفكرة لأنها “خرق للسيادة”!، ولأنّ الأسد يريد التخلص من ملايين السوريين الرافضين له، بعد أن قام بعملية التطهير الطائفي. أوروبا، أيضًا، تعدّها قضية أمن أساسية لها، تريد وقف النزوح إليها، سواء ببناء مناطق آمنة داخل سورية، أو خارجها. أما لبنان، فإنه يريد منع قدوم المزيد، وإعادة نحو مليون لاجئ موجودين على أرضه. وقد تبنى، لأول مرة، موقفًا ضد دمشق، وعلى لسان الرئيس ميشيل عون، الذي قال إنه يؤيد دعوة ترمب بإقامتها داخل سورية، مطالبًا بإعادة اللاجئين السوريين في بلاده إلى هناك، وداعيًا إلى أن تكون تحت إشراف النظام.
يبقى الثابت إصرار سلطة آل الأسد وحليفيها روسيا وإيران على رفض فكرة المنطقة الآمنة، تحت ادّعاء أنها تُشرعن تقسيم البلاد! ولا يُضعف هذا الإصرار ردّ موسكو المرن على تصريح ترامب، وإبداء تفهمها لإنشاء منطقة آمنة شريطة موافقة دمشق عليها، بل يؤكده تاريخ من تصعيدهم العنف وتشديد الحصار لإثارة رعب المدنيين وإرهابهم وإجبارهم على الفرار أو تهجيرهم قسريًا، ومن رفضهم تحييد أي بقعة سورية يناهضها أهلها، ويمكنها استقبال النازحين وتجنيبهم شروط اللجوء القاسية في بلدان الجوار!
ليس من شك، في أنّ توجّه ترامب لإقامة مناطق آمنة في سورية، يُمثّل تحوّلًا كبيرًا في السياسة الأميركية، على الرغم من أنه لم يحدِّد بعد فهمه لفكرة المناطق الآمنة، ومع أيّ من الأطراف سوف يُنسّق لتنفيذها. ثم إنّ من يتمعن في مثل هذا التوجه، سوف يلحظ -من خلال الحيثيات التي بُني عليها- أنه جاء بدلالة المصلحة الأميركية قبل أي أمرٍ آخر، ذلك أنّ ترامب يرى في مثل هذه المناطق الآمنة السبيل الأفضل لوقف تدفق اللاجئين الذين يرى فيهم تهديدًا محتملًا لأمن الولايات المتحدة، ولكن الأخطر أنها تنطوي على تقاسم مناطق النفوذ بين الدول الإقليمية، وتمهد لتقاسم النفوذ بين أميركا وروسيا، بل إنها قد تمهد لتقسيم سورية.
لا بدّ من ملاحظة التقارير الثلاثة لمؤسسة راند الأميركية، الصادرة في المدّة من كانون الأول/ ديسمبر 2015 وشباط/ فبراير 2017، حول “خطة سلام لأجل سورية”، والداعية إلى “ضرورة إقامة مناطق آمنة مقترنة بضمانات خارجية لتثبيت آلية وقف إطلاق النار”، و”اللامركزية أصلح نموذج للحكم في سورية المستقبلية”، و”أنّ التطورات الأخيرة في سورية والمنطقة بما في ذلك اتفاق وقف الأعمال العدائية الذي رعته روسيا وإيران وتركيا سيفتح الآفاق لوقف إطلاق النار على أساس وطني متفق عليه، وهو ما سيفرز مناطق سيطرة تدعمها قوى خارجية”.
لعل توصيفات مؤسسة راند تُقدّم للإدارة الجديدة فُرصًا للانخراط في المسألة السورية على قاعدة “تبقى احتمالات الانتقال السياسي الشامل في سورية فقيرة، لكن هناك فرصة أمام الإدارة الجديدة في واشنطن لإحراز تقدم حقيقي إذا ما عمدت إلى التركيز على حل نهائي واقعي وقابل للتحقيق. قوامه: دولة سورية لا مركزية تستند إلى المناطق الإقليمية المتفق عليها، والمعترف بها والمدعومة من الشركاء الخارجيين”. ويمكن أن تكون النتيجة على صورة إنتاج مناطق آمنة في شرقي البلاد “تضم ثلاثة تجمعات تحت السيطرة الكردية، ومحافظة الرقة تحت الإدارة الدولية، وجميعها تحظى بدرجة من حماية الولايات المتحدة، أو حماية دولية أوسع”.
ثالثًا: الصعوبات التي تعترض المناطق الآمنة
الاستدارة في اتجاه المناطق الآمنة تحجب الأسئلة الصعبة: هل سيُسمح للمناطق الآمنة بأن تصبح ملاذات آمنة لمسلحي المعارضة السورية؟ وإذا لم يُسمح لهم بذلك، فمن الجهة التي ستتولى عملية ضبط هذا الأمر؟ وما أرجحية أن تتحمل المعارضة السورية والهياكل الإدارية المحلية العبء الرئيس لتنسيق المساعدة الدولية على الأرض، ووضع نظم فاعلة للحوكمة الرشيدة، وحفظ النظام وتسوية النزاعات، بدلًا من الجماعات المسلحة المختلفة، التي تؤدّي حاليًا معظم هذه المهمات؟
ناقش الرئيس الأميركي والعاهل الأردني هذه الصعوبات خلال لقائهما في 2 شباط/ فبراير الماضي. وعلى الرغم من أنه ليس من المؤكد أنّ موسكو ستوافق على إقامة منطقة آمنة، إلا أنّ التعاون الوثيق لمكافحة الإرهاب بين الولايات المتحدة وروسيا والأردن قد يجعل الاتفاق على ترتيب معين أمرًا محتملًا في الجنوب. وستكون آليات ضمان أمن المنطقة، التي قد تصل إلى بعد 18 كلم داخل الأراضي السورية، واضحة إلى حد ما. وإذا ما افترضنا موافقة روسيا– وجرّ دمشق إلى الموافقة معها– فلن تكون هناك ضرورة لفرض منطقة حظر جوي تقليدية. وبدلًا من ذلك، ستواصل الطائرات الأميركية والأردنية وغيرها من طائرات التحالف والطائرات من دون طيار لهذه الدول، التي مقرها في المملكة، تسيير رحلات استطلاع ومراقبة فوق محيط الممر الإنساني. وفي الوقت نفسه، سيزيد الأردن والولايات المتحدة من قدرات جمع المعلومات الاستخبارية للقوات الصديقة على الأرض.
أما المهمة الأكثر صعوبة، فستكون التوصل إلى تفاهمات بشأن هوية الجهة المسؤولة بالضبط عن الأمن على الأرض؛ إذ تصرّ موسكو على ألّا تصبح أي منطقة آمنة معسكر تدريب لهجوم المعارضة ضد سلطة آل الأسد. وإذا عُدّت القوات المحلية غير مقبولة دبلوماسيًا أو غير قادرة على تأمين المنطقة، ستكون هناك حاجة إلى وجود قوات أجنبية بصفتها قوى بشرية تنحدر على الأرجح من الجيوش العربية. ومع ذلك، فمن غير الواضح أن أيًا من الحكومات الإقليمية، إن وجدت، قد تكون مستعدة لتوفير مثل هذه القوات.
في ما يتخطى المسائل العملية، لا بدّ من معالجة لائحة طويلة من الأسئلة الإدارية من أجل المضي قدمًا في تنفيذ أي اقتراح خاص بإقامة منطقة آمنة. على سبيل المثال: مَنْ الذي سيُشرف على المنطقة؟ ومَنْ الذي سيكون مسؤولًا عن توافر ما يكفي من السكن والمياه والكهرباء والصرف الصحي؟ فالأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية الدولية الأخرى لن تدخل الأراضي السورية من دون موافقة من دمشق. إنّ الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها سوف يستغرق أشهرًا، ولكن فعل ذلك يمثّل جزءًا أساسيًا من مرحلة التخطيط، إذا ما أُريد للمناطق الآمنة أن تكون صالحة للبقاء وأن تنجح.
إنّ الوضع على الأرض في مناطق شمال سورية يمكن أن ينتج عنه ثلاث مناطق سيطرة: اثنتان كرديتان مفصولتان وأخرى عربية تدعمها تركيا، ويمكن للولايات المتحدة أن تستمر في دعم الطرفين (التركي والكردي) وكبح جماحهما. وفي الوقت الذي يعتمد استقرار المناطق الأخرى على التفاهمات الضمنية بين اللاعبين الخارجيين، قد تتطلب الرقة تدخلًا دوليًا أكثر حزمًا وتعاونًا، وفي حدّ أدنى يكون على شكل اتفاق بين الولايات المتحدة وروسيا وتركيا، وهذا ما حصل في اجتماع أنطاليا يومي 7 و8 آذار/ مارس الجاري.
ولذلك فإن تقرير “مؤسسة راند” يوصي بوضع محافظة الرقة، فور تحريرها، تحت وصاية دولية موقّتة، ومن ثمّ، تهيئة منطقة محايدة لا تخضع لسيطرة سلطة آل الأسد أو المعارضة في انتظار نتيجة المقتلة السورية. وتقتضي الخطة أن يُغادر المكوّن الكردي المدينة فور السيطرة عليها، تاركين وراءهم المقاتلين العرب إضافة إلى أي ميليشيا إضافية محلية، وسيستمر عدد صغير من الموظفين الأميركيين في تقديم المشورة والدعم لهذه القوة، على أن تُدار المحافظة ومحيطها من الأمم المتحدة، التي ستعمل من خلال مجالس محلية بعد إصلاحها وتجديدها. وستُنشر قوة صغيرة من الخوذات الزرقاء التابعة للأمم المتحدة التي ستعمل إلى حد كبير حمايةً للمشرفين الدوليين، وسيُنسّق ممثلو الأمم المتحدة بالتعاون مع المجالس المحلية عملية دخول المساعدات الدولية والإنسانية، وعوضًا عن قوة السلام التي تقودها الأمم المتحدة، ستعمل قوة التحالف، بتفويض من الأمم المتحدة، والتي من المحتمل أن تنشئها روسيا والولايات المتحدة معًا.
بكل تأكيد، فإنّ العمل على إنجاز جميع التفاصيل وكسب التأييد الدولي لإدارة دولية موقّتة في الرقة، لن يكون سهلًا، ويمكن أن تفشل أيضًا، شأنها شأن الجهد السابق كلّه لاستدراج اللاعبين الخارجين معًا نحو خطة جامعة في سورية. ولكن إن نجحت، نتيجة توافق المصالح الأميركية– الروسية– التركية، فإنّ محافظة الرقة يمكن أن تمثل جزيرة صغيرة من الحياد لا تتماشى مع سلطة آل الأسد أو المعارضة، وستقف، مع مناطق أخرى، سواء خضعت لسيطرة السلطة أم المعارضة، إلى جانب مناطق أخرى تخضع لمراقبة الأطراف الدولية المعنية، وصولًا إلى وقف إطلاق نار وطني شامل، فضلًا عن هذا كله فإنها ستمثل أساسًا لزيادة الانخراط الدولي والإقليمي في سورية.
رابعًا: فرص المناطق الآمنة ومخاطرها
يُعدّ قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إقامة مناطق آمنة في سورية خطوة لافتة، فهو يدلّ على أنّ الحرب في سورية قائمة، ومرشحة للاستمرار سنوات أخرى. واستمرار الحرب يقتضي، بالضرورة، تدمير قرى ومدن أخرى وتهجير سكانها، لتكون تلك المناطق الآمنة ملاذهم، وليخفّ حملهم عن دول اللجوء، ومن ثمّ، المسؤوليات الملقاة على عاتق المجتمع الدولي لحل هذه المسألة. فهل يرى ترامب أنّ الأمل في انتهاء المقتلة السورية ما يزال بعيدًا؟ وهل يعرف أنّ تطورات ستحصل، وستمدّ بعمر هذه المقتلة، ومن ثمّ، ستنتج عنها موجات هجرة جديدة؟ فإن حصل ذلك، فلن تقتصر هذه الموجة على المتضررين المباشرين من القصف والتدمير، بل سينضم إليهم كثير من أبناء المناطق الآمنة تحت سلطة آل الأسد. إذ يعيش هؤلاء ظروفًا معيشية خانقة، بسبب قلة المداخيل وغياب المواد التموينية وارتفاع أسعار المتوفر منها، علاوة على ارتفاع أسعار الخدمات، وهم الذين يعانون بسبب ندرة التيار الكهربائي ومياه الشرب والمشتقات النفطية المستخدمة في الطبخ والتدفئة، كما ستضم الشبان الهاربين من أداء الخدمة العسكرية الذين سيزداد عددهم مع فتح أي جبهة جديدة.
أما الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، فقد يرى فرصه كبيرة في أن تكون هذه المناطق مركز الدفع في مشروع خططه الإقليمية ودستوره السوري. وإن كانت واشنطن تسعى للضغط على دول الخليج العربية لتحمّل نفقات إنشاء مناطق آمنة، وإرسال قوات عربية مشتركة تكون في منزلة “قوات حفظ سلام”، تبقى تركيا العقدة الأصعب في عقد الشراكات المقبلة. فالرئيس ترامب يدرك أنّ أيّ منطقة آمنة تعتمد بصورة مباشرة وأساسية على تعاون الجانب التركي، وأنه، مهما كانت العلاقة سيئة أو متذبذبة بين البلدين تبقَ تركيا شريكًا إقليميًا لا يمكن العمل من دونه، ولكن أيضًا يصعب العمل معه. فتركيا لها مخاوفها كما لها مصالحها، وهي إذ تملك مفاتيح الحدود في الاتجاهين السوري والأوروبي، لم تتأخر في إبداء رغبتها في التعاون بعد مدّة من التلكؤ والاكتفاء بالموافقات المبدئية، لكنها في الوقت ذاته تتمنّع وتتشرّط.
في الواقع، لا يوجد حلٌّ مثالي، فلعل المناطق الآمنة المقترحة على الأقل تفي بوقف التدفق ووقف عملية التطهير الطائفية، التي كانت سياسة متعمدة، بتصدير المشكلة السورية إلى العالم، بدلًا من أن تكون مشكلة سلطة آل الأسد وحدها.
وقد تكون إقامة المناطق الآمنة إشارة إلى اقتراب المقتلة السورية نحو النهايات، حيث تُشكّل دافعًا كبيرًا في اتجاه تحقيق السلام الدائم فيها. ولكنّ السوريين يتخوفون من أن ينتهي أمر المناطق الآمنة إلى تكريس نواة لمشروع تقسيم قد يظهر مستقبلًا، وفي واقع الأمر لا توجد أي ضمانات حاليًا تبدِّد هذه المخاوف، لأنها مخاوف حاضرة وبقوة في أوسع وسط شعبي سوري بطيفه كله، ما يعني أن جميع السوريين اليوم أمام اختبار مصيري لوطنهم، فإما أن يحفظوه وإما أن يخسروه إلى زمن طويل قد يمتد إلى مرحلة غير معلومة. وقد تُبتلع هذه المناطق، عبر تذويبها في خصوصية الدول المشرفة عليها، لتتحول بعد زمن إلى خيار الاندماج بالدول المشرفة عليها وتنسلخ إلى الأبد عن سورية الأم.
يتخوف اللاجئون السوريون في أوروبا وكندا وأستراليا، الذين يظنون أنه بتفعيل المناطق الآمنة، من الممكن للدول التي احتضنتهم كلاجئين أن تسعى بصورة مباشرة لترحيلهم إلى تلك المناطق، ونزع صفة اللاجئين عنهم، ومن ثمّ، إلغاء جميع المزايا التي يتمتعون بها حاليًا.
كما يتخوف السوريون الذين يمكثون في المخيمات منذ سنوات، والذين هم الأولى بالاستفادة من أيّ ميزات تقدمها المناطق الآمنة لتعويضهم ما فات، من احتمال فشل إدارة تلك المناطق ومن ثمّ، أن يكونوا مضطرين ليعيشوا حالة اللجوء من جديد لكن على أرض سورية.
خاتمة
إنّ أخطر ما تنطوي عليه المناطق الآمنة هو تقاسم مناطق النفوذ بين الدول الإقليمية وأميركا وروسيا، بل إنّها قد تُمهّد إلى تقسيم سورية، والبديل الأصوب المشترك الوحيد لكل السوريين هو حلّ جذري وآمن لجميع سورية، وليس لمناطق من دون أخرى فحسب، إلا أنهم لا يمانعون البدء بمناطق محددة ومن ثم يُتوسع شيئًا فشيئًا ليشمل جميع سورية، ولن يكون ذلك سهلًا في ضوء تعدّد الدول المشرفة على المناطق الآمنة، وتضارب المصالح والأجندات.
في ما لو آلت المناطق الآمنة إلى حالة من التقسيم، فإنّ هذا أمر تتحمل مسؤوليته سلطة آل الأسد، التي تمنع التوجه نحو انتقال سياسي حقيقي يفتح الأفق أمام الوطنية السورية الجامعة والدولة الوطنية السورية الحديثة.