المحتويات

مقدّمة

أولًا: حول المعارضة السياسية

ثانيًا: كيف نوصّف الطيف المعارض الآن؟

1- المعارضة التقليدية

2- المعارضة الجديدة

3- كيانات ومنصّات داخلية وخارجية

ثالثًا: هل يُمكن إصلاح الائتلاف؟

رابعًا: المراجعة المطلوبة والإصلاح المأمول

خامسًا: خاتمة

 

مقدّمة

لا يبدو أن هناك أحدًا من العاملين في الحقل السياسي المعارض في سورية، أو الناشطين في القوى والأحزاب والتيارات جميعها، وعلى اختلافها، وفي أوساط المهتمين بالشأن العام أيضًا، يُجادل في ضرورة مراجعة عمل هذه القوى والأحزاب التي نشطت منذ أطلق السوريون ثورتهم في آذار/ مارس 2011، طلبًا للحرية والكرامة في مواجهة الاستبداد، وحتى الآن، مراجعةً جدّية وشاملة.

لا بل هناك أصوات أخذت تعلو منذ أكثر من عام مضى من داخل (ائتلاف قوى الثورة والمعارضة)، تُطالب بإصلاح الائتلاف وإعادة هيكلته في ضوء مراجعة مسيرة (المعارضة) منذ تأليف (المجلس الوطني)، وتزامنت هذه الأصوات مع تقديم عدد من أعضاء الائتلاف استقالاتهم منه، على الرغم من أنهم ليسوا أبرياء تمامًا من المساهمة في إيصال هذا الائتلاف إلى ما وصل إليه.

فهل هناك حظوظ واقعية لمثل هذه الدعوات؟ وهل تسمح البنى التي آلت إليها التشكيلات القائمة بمثل هذا الأمر؟ ثم ما هو الهدف الذي يُمكن أن تصل إليه مثل هذه المراجعة أو ينبغي لها؟

لكن قبل الدخول في هذه المسائل، يجب تدقيق المفهومات التي سادت في زمن الثورة بخصوص (المعارضة السياسية) وما يتصل بها.

أولًا: حول المعارضة السياسية

لا بدّ من الإشارة أولًا -وباختصار شديد- إلى أن ثورة السوريين التي انطلقت في آذار/ مارس 2011، كانت إيذانًا بالإجهاز على برنامج نظام (الحركة التصحيحية)، أو سلطة آل الأسد، الذي بني، في جوهره، على نزع السياسة من المجتمع؛ وكانت الثورة أيضًا إيذانًا بعودة السوريين إلى السياسة من أبوابها العريضة بعد أكثر من أربعة عقود عملت فيها السلطة القائمة على الإلغاء القسري للمفهوم الذي أُسست عليه السياسة بوصفها فاعلية مجتمعية، وقصرتها على حقل السلطة بوصفه مدخلًا سعت من خلاله لتأبيد سلطتها تلك.

وتُدرك السلطة، قبل غيرها، أن هذه المسألة تمثل نقطة المقتل لها، أو هي بداية نهايتها، لذلك لم تتأخر لحظة واحدة في مواجهة الثورة بحرفها عن مسارها السياسي المدني السلمي، ودفعها إلى مسار عنفي طائفي، يُتيح لها أن تتعامل معها -في هذه الحال- بالأدوات التي تملكها كلها، وبالخبرة المتراكمة لديها، لا بل نستطيع القول إنها أعدّت عدّتها لهذه اللحظة منذ زمن بعيد، ولم تكن الشعارات التي رفعتها منذ البداية، مثل (الأسد أو لا أحد) أو (الأسد أو نحرق البلد)، محض شعارات. لقد كانت برنامج عمل فعلي، حتى لو آل في نهاية المطاف إلى قتل الناس وتهجيرهم، وإلى حرق البلد وتدميره. وهو ما حدث فعلًا.

لم تكن هذه حال المعارضة الوطنية الديمقراطية التي كانت قائمة قبل زمن الثورة، فعلى الرغم من التضحيات الجسيمة التي قدّمتها طوال ما يزيد على ثلاثة عقود من الزمن في مواجهة الاستبداد، وفي نضالها من أجل نظام وطني ديمقراطي يُعيد المنزلة إلى قيم الحرية والعدالة والكرامة والنزاهة.. إلخ، إلا أنها بقيت معزولة عن شعبها ومجتمعها بفعل القمع الفظيع الذي مارسه عليها النظام، فحوّلها إلى جزر معزولة تعيش في ظلّ نمط من الحياة السرية وألحق بها تشوّهات في بناها، وفي حياتها الداخلية، وفي أدوات اشتغالها؛ وحال بينها وبين توافق أطرافها على برنامج وطني موحّد يساعدها وييسّر لها سبيل الوصول إلى تحقيق أهدافها، وعمل على خلق تناقضات وزرع بذور شقاق في صفوفها، ما لبثت أن تحوّلت شيئًا فشيئًا إلى سمة طبعت علاقاتها بين بعضها بعضًا، وغدت مرشدًا سيئًا للحياة السياسية السورية.

هكذا كان حال المعارضة عشيّة انطلاق الثورة السورية. فليس غريبًا، في هذه الحال، أن تُفاجأ باندلاعها. وليس غريبًا أيضًا أن تجد نفسها، بعكس ما كانت عليه السلطة، فاقدة العدّةَ التي تلزمها للتعامل معها بتأليف قيادة وطنية تنطق باسمها وتعبّر عنها وترعى نشاطها، وتحافظ على بوصلتها التي اختطّتها لنفسها، وتحول دون حرفها إلى مسارات ليست من سمتها.

ويكفي أن نتمعّن في البرنامج الذي طرحته الثورة لنفسها وتمثلت خطوطه العريضة بالعمل من أجل الإجهاز على الاستبداد وإرساء الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة، وتجلّى بالشعارات التي رفعت في أرجاء البلاد كلها؛ وكيف أن هذا البرنامج هو الأكثر التصاقًا ببرنامج المعارضة الوطنية الديمقراطية الذي رفعته وناضلت من أجله طوال أكثر من ثلاثين عامًا، وقدّمت في سبيله التضحيات الجسيمة، الأمر الذي يجعل مسؤولية هذه المعارضة مضاعفة في ما حصل وفي ما لم يحصل.

فهي لم تعجز عن الالتحام بها والتكيّف مع أوضاعها فحسب، وإنما عجزت عن مواكبتها واللحاق بها، وتركتها للداخل ينهش بها كيف شاء، وللخارج تتوزّعها أطراف إقليمية ودولية من خلال كيانات ومنصّات مشوهة توالدت كالفطر، تُخضعها لمصالحها وأجنداتها الخاصة، لا في سورية فحسب، بل على صعيد علاقاتها مع القوى الفاعلة والمؤثرة، إذ أخذت الثورة السورية تتحوّل إلى مسألة شائكة، وشيئًا فشيئًا إلى حرب في سورية وعليها أوصلت المعارضة السورية، والشعب السوري، إلى المنحدر الذي يستقران فيه الآن.

دعك من الأخطاء القاتلة التي اقتُرِفت في هذا السياق، وبنيت على تقديرات تبيّن أنها لم تكن صائبة؛ إلا أن المستغرب أن هذه المعارضة، بأطرافها كلها، لم تقم بمراجعة تجربتها، على الرغم من الانعطافات الحادّة التي شهدها مسار الثورة طوال أكثر من ستّ سنوات منقضية، وعلى الرغم من الانعطافات في مواقفها هي أيضًا. ولا يبدو، حتى الآن، أنها تشعر بالحاجة إلى مثل هذه المراجعة.

ثانيًا: كيف نوصّف الطيف المعارض الآن؟

من المنطقي القول إن مفهوم المعارضة في زمن الثورة هو مفهوم غير الذي ساد في الزمن السابق لها، وهذا منطق الواقع الذي علينا أن نستجيب له بصورة عقلانية وموضوعية. وعليه، يُمكن تمييز ثلاث حالات رئيسة في الطيف المعارض القائم الآن:

1- المعارضة التقليدية

هي المعارضة التي كانت قائمة قبل الثورة، وعجزت بعد اندلاعها عن تجاوز انقساماتها وتناحراتها، ومن ثم، عن انتزاع اعتراف داخلي بقدرتها على تمثيلها، وعن تقديم نفسها بديلًا من النظام الذي كانت تسعى لإطاحته، وظلّت أسيرة الماضي بتقاليدها وممارساتها وأساليب تفكيرها.. إلخ، هذا كله جعلها تتحوّل في زمن الثورة إلى ما يُمكن تسميته (المعارضة التقليدية) التي ظلّت قائمة على هامش الثورة. وعلى الأرجح، في هذه الحال، لن يكون لهذه المعارضة دور في سورية الجديدة، أو في مستقبل البلاد. وسوف يتعيّن عليها، عاجلًا أو آجلًا، أن تُخلي الساحة للمعارضة الجديدة.

2- المعارضة الجديدة

هي تلك التي تمثّلت بآلاف مؤلفة من هؤلاء الشبان والشابّات الذين رفعوا راية الحريّة والكرامة في أرجاء البلاد جميعها، وقدّموا تضحيات قلّ مثيلها في سبيل الوصول إلى هدفهم المأمول في دولة وطنيّة حديثة ومجتمع ديمقراطي تعدّدي، وإبداعات مشهودة في حراكهم على الأرض، وفي نشاطهم في مواقع التواصل الاجتماعيّ، ونشاطهم الإعلاميّ باستخدام وسائطه الحديثة، وعملهم التوثيقيّ المهمّ، وابتكارهم صور التنظيم الملائمة لزمن الثورة بعد أن أدركوا أن أحزاب (المعارضة التقليدية) القائمة عادت غير صالحة لحمل المهمّات التي يتطلّبها هذا الزمن. لقد تبدّت تجربتهم، في الزمن القصير الذي أُتيح لهم، بابتكارهم صورًا من التنظيم، رأوا أنها أكثر ملاءمة لزمن الثورة. هذه الصور التي جسّدتها تنسيقيّاتهم التي انتشرت في نطاق البلاد، وحملت أسماءً عدة كـ (لجان التنسيق المحلية) و(اتحاد تنسيقيات الثورة) و(الهيئة العامة للثورة السورية)، وأشرفت على تنظيم فعاليّات الثورة في وجوهها الكثيرة، وبخاصة إبّان مرحلة التظاهر السلمي والنشاط المدني.

ما يبدو الآن أن هذه المعارضة التي وُجدت بالفعل في الزمن الأول للثورة، موجودة الآن بقوة، وتُعبّر عن نفسها بطرائق متنوعة لا حصر لها في جميع الأماكن التي يوجد فيها السوريون، في داخل البلاد، وفي خارجها على حدّ سواء، لكن من دون أن تتوافر لها الأطر التنظيمية الملائمة بحكم طبيعة الأحوال والأوضاع، خصوصًا بعد أن عمل النظام على تغييب قادة الصف الأول والثاني والثالث من الثوار.

وعلى الأرجح، عندما تنتهي الحرب الدائرة في سورية وعليها -وهي سوف تنتهي في الأحوال جميعها- سُرعان ما ستنتفض الروح التي تجلّت في زمن الثورة الأوّل، وسُرعان ما سيعمل السوريون على تنظيم أنفسهم، مستفيدين من التجربة العملية في زمن الثورة، ومن الخبرات التي راكموها في سنواتها الطويلة، وهذا يعني، باختصار، أن هذه (المعارضة الجديدة) التي تبدّت في زمن الثورة، هي رهان السوريين في تطلّعهم نحو المستقبل، بعيدًا من تلك المسمّيات كلها التي تندرج تحت عناوين ومفهومات زائفة من نوع (المعارضة الداخلية) و(المعارضة الخارجية) وما إلى ذلك من كيانات ومنصّات.

3- كيانات ومنصّات داخلية وخارجية

الكلام عن (معارضة داخليّة) و(معارضة خارجيّة) ليس دقيقًا، فإذا كان المقصود بالمعارضة الداخليّة (هيئة التنسيق) والتشكيلات الأخرى المتهافتة التي أُلّفت إلى جوارها، وإذا كان المقصود بالمعارضة الخارجيّة (المجلس الوطنيّ السوري) و(الائتلاف الوطنيّ لقوى الثورة والمعارضة) وسوى ذلك من (منصّات)، فتلك لا ينطبق عليها مفهوم (المعارضة). صحيح أن بعضها يتوافر على عدد من المعارضين السوريين الذين كان لبعضهم باعٌ طويلٌ في معارضة نظام الأسد طوال عقود من الزمن، وقدموا تضحياتٍ جسيمة في هذه السبيل، إلا أن هذا غير كافٍ كي تندرج هذه (الكيانات) في سياق مفهوم (المعارضة). فهي كيانات مصنّعة أُلِّفت على هامش الثورة، وعلى عجل، من دون انسجام بين مكوّناتها، ومن دون النظر إلى قدرتها على الاستمرار، وهي كيانات أدى الخارج الإقليميّ والدوليّ دورًا مشهودًا في تأسيسها وتمويلها وفي توجيه أجنداتها أيضًا. وقد يكون لها أو لبعضها وظيفة إقليميّة أو دوليّة في لحظة اجتراح الحلول. لكن، على الأغلب، لن يكون لهذه (الكيانات) دور أو وجود في المستقبل السوريّ. ومن المفهوم أن يكون لـ (ائتلاف قوى الثورة والمعارضة) ولـ (الهيئة العامة للمفاوضات) دور منوط بكلّ منهما، ليس بناءً على صفتهما التمثيلية أساسًا، وإنما بناءً على اعتراف دوليّ بهما، لا تحظى بمثله (المنصّات) الأخرى. لهذا، تتوجّه الأنظار الآن، والاهتمام أيضًا، إلى إصلاح حال هذا (الائتلاف) الذي وصلت أوضاعه إلى حال غير مسبوقة من التردي.

بناءً على ما تقدّم كله، قد يصحّ الأمر إذا أطلقنا على هذه الكيانات تسمية (المعارضة الرسمية)، أو (المعارضة الوظيفية).

 

ثالثًا: هل يُمكن إصلاح الائتلاف؟

وجّه رئيس (الهيئة العليا للمفاوضات)، رياض حجاب، نقدًا قاسيًا إلى المعارضة السورية بشرائحها المختلفة، السياسية والعسكرية، واصفًا أحوالها بـ (المزرية)، ودعاها إلى (الوحدة، والتضامن والكف عن التنافس والتخوين. والإيمان بأن الثورة السورية ستنتصر).

كلام رئيس الهيئة العليا للمفاوضات جاء في ندوة نظّمها (منتدى بردى) التابع لـ (مركز حرمون للدراسات المعاصرة)، في مدينة الدوحة في أواسط نيسان/ أبريل الماضي.

إلى هذا، أشارت أوساط في (الهيئة العليا للمفاوضات) إلى أن الهيئة طلبت عقد اجتماع موسع وعاجل، كان من المفترض أن يُعقد في 29 أيار/ مايو الماضي، وأن يكون على جدول أعماله عقد مؤتمر عام وإجراء انتخابات جديدة.

وقال مصدر في المعارضة السورية في جنيف لـموقع (روسيا اليوم)، إن (الهيئة العليا للمفاوضات) تقف أمام مفترق خطر، وذلك بعد الخلافات التي ظهرت بين الفصائل في اليومين الأخيرين من جولة المحادثات السادسة في جنيف.

ومنذ كانون الأول/ ديسمبر من العام الماضي 2016، بعد هزيمة حلب تحديدًا، تتواتر دعوات إلى (المراجعة) في أوساط معارضين سوريين، تترافق مع إدراك أخذ يعمّ هذه الأوساط بأن هناك انعطافًا كبيرًا في مسار (المسألة السورية) و(الصراع السوري)، ليس لمصلحة سورية والسوريين. وأخذ كثير من أعضاء (ائتلاف قوى الثورة والمعارضة) -ومنهم من كانت لهم أدوار قيادية تركت أثرًا في مسيرة هذا الائتلاف- يبادرون إلى تقديم استقالاتهم منه، كمن يقفز من سفينة يظنّ أنها على وشك الغرق. ويبدو أن هناك مقاربات ومشروعات مُعدّة لهذه (المراجعة)، لا تنمّ عن كونها مراجعة جدية أو مراجعة شاملة، وخصوصًا أنها تبحث عن كِباش فداء، أو مخطئين تحمّلهم مسؤولية التردّي والفشل، وكأن التخلّص منهم يمكن أن يُعيد الأمور إلى سيرتها الحميدة.

وقد أخذت تتوالى هذه الدعوات، خصوصًا بعد دورة الانتخابات الأخيرة للائتلاف التي جرت في أيار/ مايو الماضي، وانتُخِبت فيها قيادة جديدة، أخذ كثيرون يعلّقون عليها كثيرًا من الآمال في إمكان إصلاح هذا الكيان. والآمال تُعلّق هنا لا على القيادة الجديدة فحسب، بل على الهيئة العامة للائتلاف التي يرى بعضهم أنها باختيارها هذه القيادة، إنما اختارت مواجهة أخطاء الماضي، واستجابت لأجراس الإنذار التي أطلقتها الشخصيات والكتل المنسحبة منه، خلال دورته السابقة، التي كانت حذرت من أن بعض الأشخاص والكتل تأخذ الائتلاف إلى مكان يُبعده من مشروعه الوطني أو يعزله عنه، ويحوّله إلى مؤسسة خاصة يضع يده عليها.

في جانب آخر، هناك من يؤكد عدم الثقة بأهلية أصحاب دعوة الإصلاح للقيام بهذه المهمة الحيوية والخطرة، أو عجزهم نهائيًا إن افترضنا حسن نيّتهم، ويدعو إلى عدم المراهنة على وعودهم في ضوء التجربة المُرّة معهم في السابق، ويُشير إلى انعدام الثقة السائد في بيئة الثورة، وبخاصة تجاه أشخاص جرّبوا حظوظهم في سدّة المعارضة، ومهما بلغت نسبة مشاركتهم في الأخطاء، أو انعدمت حتى، فذلك لا يُعفيهم من مسؤولية المشاركة وتبعاتها، على أرضية التأخرّ في النقد والمراجعة على الأقلّ.

ثمّة من يُشير أيضًا إلى أمر يبدو على درجة من الأهمية. يعود هذا الأمر إلى أنه تكاد لا تتوافر كتابات موضوعية وجدية من طرف (المعارضة المنظمة) حول الثورة في أيّ وقت خلال السنوات الستّ المنصرمة. والمقصود هنا كتابات غير آنية، تستند إلى معطيات موثوقة، وتحاول الإحاطة بعملية الثورة مجملها، لما لهذا الأمر من أهمية كي يكون للكلام عن المراجعة معنى. فلكي يراجع السوريون، يجب أن يعرفوا أين هم اليوم، وكيف وصلوا إلى ما هم عليه الآن، وما هي الأطوار الأساس في الصراع، وما الديناميات التي حركت الوضع السوري في كل طور، وكيف كانت هوامش مبادرتهم ومساحات حريتهم، ومن ثم دور أخطائهم في (فشل الثورة). وبعيدًا من هذا النظر، سوف تقتصر المراجعة، على الأغلب، على البحث عن كِباش وضحايا وقرابين.

فهل تتوافر حظوظ واقعية لمراجعة جدية تُفضي إلى إصلاح مأمول؟ وما الشروط المطلوبة لهذه المراجعة، وكيف يكون الإصلاح المأمول؟

رابعًا: المراجعة المطلوبة والإصلاح المأمول

1- تعود بدايات التجربة السياسية المراد مراجعتها إلى بدايات الثورة السورية، وتحديدًا إلى الأوضاع والملابسات التي أحاطت بتأسيس (المجلس الوطني السوري)، وهو المجلس الذي جرى تأليفه والإعلان عنه في مدينة اسطنبول في تركيا في أوائل تشرين الأول/ أكتوبر 2011، أيّ بعد أشهر قليلة من انطلاق الثورة السورية، بعد كثير من مبادرات ومؤتمرات سبقته، قام بها سوريون، لم يُكتب لها النجاح. لم يأت تأسيس المجلس نتيجة جهد القوى السياسية الوطنية والثورية السورية (مع عدم إغفال الدور الذي أداه كل من (الإخوان المسلمين) و(إعلان دمشق)، وهما الطرفان الأساسيان اللذان قام عليهما هذا المجلس، إضافة إلى ما سُمّي (مجموعة الـ 74)، إنما أتى -كما هو معروف- من قوى خارجية وبصورة هي أقرب إلى فرض الأمر الواقع، الأمر الذي جعل مشكلة التأسيس مدخلًا لتبديد القرار الوطني، ولتبعية للخارج الذي تحوّل شيئًا فشيئًا إلى مرجعية أفضت إلى أزمة (المعارضة) التي لم تستطع فكاكًا منها أو تجاوزها حتى الآن، وأخذت تتحوّل في هذا السياق إلى حال هي أقرب إلى (المعارضة الرسمية).

2- جاء تأليف (الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة) في مدينة الدوحة في قطر أواخر عام 2012، وعلى أنقاض (المجلس الوطني)، وكأنه ينقل (المرجعية) من يدٍ إلى أخرى. وكان واضحًا منذ البداية أنه تعبير عن ازدياد تبعية (المعارضة الرسمية) لقوى إقليمية ودولية، الأمر الذي جعل أزمتها أكثر حدّة وتعقيدًا.

3- لم تكن البنية التي قام عليها (المجلس الوطني) و(ائتلاف قوى الثورة والمعارضة) في ما بعد التي جاءت على أساس المحاصصة بين الكتل، تسمح بوصول الكتل الرئيسة المنخرطة فيهما إلى التوافق على برنامج وطني ثوري، يعكس مطامح الثورة في الحرية والكرامة، والأهداف التي تطلّعت إليها في إرساء الدولة الوطنية الحديثة والمجتمع الديمقراطي التعددي، واكتُفيَ بشعار (إسقاط النظام)؛ ومن ثَم، لم يجرِ العمل بصورة منهجية على بناء العلاقة المطلوبة بين ما يُفترض أنه ممثل الثورة والناطق باسمها، وفعاليات هذه الثورة وقواها الميدانية على الأرض، الأمر الذي آل إلى ترك الميدان فريسة سهلة، ما لبث، مع تعقّد أوضاعه، أن توزّعته أيادي سبأ.

ولقد رأينا كيف آل هذا الفراغ، موضوعيًا، إلى تقدّم تيار الإسلام السياسي، الأكثر تنظيمًا، إلى ملئه بخطاب ساهم في حرف الثورة عن أهدافها، وأفسح المجال -مع تقدّم حالة العنف التي تبدّى عنها النظام- للقوى الإسلامية المتطرفة ولصور التطرف الطائفي والمذهبي والقومي كلها. ولقد رأينا، في تجربة (المجلس الوطني)، وفي (الائتلاف) في ما بعد، كيف أن قوى وشخصيات (وطنية وديمقراطية) تماهت مع الخطاب الإسلامي المتطرف ومآلاته، بحجج وذرائع ثبت بطلانها في ما بعد، وكشفت عن ضحالة سياسية مصلحية، علمًا أن أهداف الثورة وتطلّعاتها كانت أكثر التصاقًا ببرنامج هذه القوى. هذه المسألة التي جرى السكوت عنها، لا ينفع معها كثيرًا الدعوة الآن إلى انتقاد (الإخوان المسلمين) أو (تيار الإسلام السياسي).

4- على الأرجح، كان يقف وراء هذا كلّه الاستسهال والتسرّع في تقويم الحدث، والاستنتاجات المستخلصة من وراء هذا التقويم، وبخاصة حين عُدّت المسألة منتهية، وعُدّ (سقوط النظام) مسألة وقت ليس أكثر (أشهر على أبعد تقدير). لقد تجلّت هذه المسألة بوضوح في (النظام الأساس) للمجلس الوطني الذي نصّ على أن مدّة رئاسة المجلس ومكتبه التنفيذي ثلاثة أشهر فقط قابلة للتمديد. فهل هناك حاجة للتساؤل عمّا يمكن أن يفعله هذا الرئيس ومكتبه التنفيذي في هذه الأشهر الثلاثة!.

تجلّت أيضًا في دعوة المجلس -مع ارتفاع وتيرة العنف والقتل من النظام- إلى التدخل العسكري الخارجي في بيانه الشهير الذي أصدره في 13 آذار/ مارس 2012 وجاء فيه ((إن المجلس الوطني في الأحوال الراهنة، وفي ظل الحرب التي أعلنتها العصابة الحاكمة على الشعب السوري، يُطالب بما يأتي: تدخل عسكري عربي ودولي عاجل؛ من أجل إنقاذ المدنيين يضرب آلة القتل والتدمير التي تستهدف المواطنين من دون تمييز)). علمًا أنه كان يُمكن ممارسة طرائق الضغط كلها من أجل المطالبة بتدخل الأمم المتحدة بموجب (القانون الدولي الإنساني) الذي أقرته عام 2005.

هذه محض عناوين عريضة لمَحاورَ، لا بدّ لأي مراجعة جدّية وموضوعية من أخذها في الحسبان. والمراجعة، كي تُفضي إلى المأمول منها، ينبغي لها ألا تكون مغلقة، فهي ليست مسألة داخلية تخصّ الائتلاف، بل مسألة تخصّ الشعب السوري كله؛ وألا تكون مقتصرة على أعضاء الائتلاف والكتل المنضوية فيه، فلا بدّ من أن يُشارك فيها -بقدر المستطاع- الوطنيون السوريون كلهم من قوى وتيارات وأحزاب وفئات وشخصيات.. إلخ؛ وقد يكون الائتلاف، في هذه الحال، إن صدقت النيات، الجهة التي يمكنها التحضير لهذه المراجعة، والدعوة إليها، وتنظيمها، وإدارتها.

أخيرًا، إذا كان هنالك من يتطلّع، من وراء هذه المراجعة العتيدة، إلى (إصلاح الائتلاف)، أو (إعادة هيكلته)، فهذا أمر شبيه بقبض الريح، بعد أن وصل الائتلاف إلى هذه الحال المزرية التي أصبح لا ينفع معها إصلاح أو شيء من هذا القبيل.

خامسًا: خاتمة

تزداد حاجة السوريين إلى كيان سياسي وطني جامع، يُعيد وصل حبل السرّة مع الداخل السوري، ويعمل على ترتيب أولويّاته وفق قراءة موضوعية للواقع القائم، وعلى توفير الأدوات الكفيلة باستعادة قراره الوطني، وإعادة النظر في علاقاته مع العالم، ومع المجتمع الدولي، في ضوء تجربته المرّة طوال السنوات الست الماضية. وهم يتوقعون أن يتلقف (الائتلاف) الدعوات الصادرة عن أعضائه الحاليين والسابقين، وعن سواهم أيضًا، لإجراء مراجعة للتجربة السياسية المتلازمة مع (الثورة السورية)، ويأملون في الوصول من خلالها إلى تأسيس هذا الكيان الوطني الجامع، وإن حمل اسم الائتلاف القائم نفسه. وربما تكون المبادرة التي أطلقها (برنامج المبادرات السياسية) في مركز (حرمون) للدراسات المعاصرة، الموجّهة إلى التشكيلات السياسية السورية، وجرى إيداعها لدى الائتلاف في حزيران/ يونيو 2016، ونُشرت في موقعه على شبكة الإنترنت في كانون الثاني/ يناير 2017، مدخلًا مساعدًا في هذا الاتجاه.