المحتويات

أولًا: مقدمة

ثانيًا: خطة روسية مُبيّتة

ثالثًا: أهداف روسيا

رابعًا: الأخطاء

خامسًا: أسوأ من سابقه

سادسًا: محاولات التفافية

سابعًا: المعارضة والوضع الصعب

ثامنًا: الخاتمة

 

 

 

أولًا: مقدمة

تجاوبًا مع الرغبة الروسية، واستمرارًا لمهمته المليئة بالارتجالية والإشكاليات، دعا المبعوث الأممي إلى سورية، ستيفان دي مستورا، موظفين كبارًا في وزارات خارجية كل من روسيا وتركيا وإيران (الدول الضامنة لمسار أستانا) إلى اجتماع في جنيف يومي 19 و20 حزيران/ يونيو 2018، من أجل إجراء مشاورات حول تأليف “اللجنة الدستورية” الخاصة بسورية، والتي ابتدع فكرتها الروس في مؤتمر سوتشي مطلع العام الجاري.

كان المبعوث الأممي إلى سورية الراعي لهذا الاجتماع، وسار به تمامًا وفق الأهواء الروسية، فوضع بتبنّيه هذه الفكرة العربةَ أمام الحصان، وهيّأ الأجواء لتأليف “لجنة دستورية” من “المعارضة” والنظام والمستقلين الذين يختارهم المبعوث الأممي من الشخصيات المقربة من بطانته، من أجل دراسة الدستور السوري، تعديلًا أو تغييرًا.

هذه الفكرة التي تبنّاها الروس باجتزائهم جزءًا من بند من القرارات الدولية المتعلقة بسورية، تحمل من المخاطر أكثر بكثير مما يظهر؛ فهي تسمح بإخراج دستور مُشوّه وُضع في زمن الحرب والاحتلال وزمن عدم الاستقرار، وتهدِّد بوضع نهاية ليس للثورة السورية فحسب، بل لطموح السوريين بدولة حضارية، كما تُمهّد لعودة الشرعية للنظام السوري، وتفسح المجال لرأسه لقيادة المرحلة الانتقالية، وفي الغالب ما بعدها.

 

ثانيًا: خطة روسية مُبيّتة

خرجت فكرة تأليف اللجنة الدستورية من “مؤتمر الحوار الوطني” الذي عُقد في 30 كانون الثاني/ يناير 2018 في سوتشي، حيث كان هدف الروس واضحًا من بدايات طرح الفكرة، وهو الالتفاف على مطلب السوريين الأساس في الحرية والديمقراطية، وسحب البساط من بيان جنيف1 والقرارات الدولية التالية له والمرتبطة به، وخاصة القرار 2254، والتي تُشدد جميعها على ضرورة تشكيل هيئة حاكمة انتقالية ذات صلاحيات تنفيذية كاملة، تقود المرحلة الانتقالية، وتُشرف على تشكيل لجان مهمتها وضع دستور جديد لسورية، ولهذا سعى الروس لتلفيق دستور يضعه سوريون في زمن الحرب، وتحت رعايتهم كدولة احتلال، يُشرّع قيادة رأس النظام السوري للمرحلة الانتقالية، وتكون المعارضة جزءًا من آلته التسويقية التي تُعيد تبييض صفحته التي سوّدتها دوليًا حربه المستمرة منذ أكثر من سبع سنوات.

سارع دي مستورا لتأييد الفكرة الروسية وتجاوب مع رغبة القيادة الروسية في تحويل الفكرة إلى واقع، فدعا النظام والمعارضة و”شبه المعارضة” إلى تسمية ممثليهم إلى اللجنة الدستورية، وقال إنها ستتشكل في نهايات تموز/ يوليو 2018 وتُنهي أعمالها خلال ثلاثة أشهر.

لكن إشارات الاستفهام في الحقيقة ليست على موقف دي مستورا وحده، فبعد أن قالت موسكو في سوتشي إنها ستُشكّل لجنة دستورية تبحث الدستور السوري المرتقب، تجاوبت المعارضة السورية معها، تقريبًا بسرعة موافقة النظام السوري ذاتها، على الرغم من أنها لا تعرف مرجعية اللجنة ولا آليات اتخاذ قراراتها، فضلًا عن وجود قناعة واسعة بأن مسودّة الدستور ستُقدّم جاهزة لها لمباركتها ليس إلا.

سرعان ما قدّمت وزارة الخارجية السورية لدي مستورا ولروسيا وإيران أسماء 50 مرشحًا، ثم بعد حين، تجاوبت المعارضة السورية وقدّمت للمبعوث الأممي أسماء مرشحيها لهذه اللجنة، وتحدّثت مصادر مقربة من مكتب المبعوث الأممي أن مجموع المعارضات السورية والنظام ستُقدّم نحو 125 اسمًا، على أن يضع هو بنفسه حصّته التي تقترب من 25 اسمًا من “المستقلين” الذين يثق بهم ويتعاون معهم منذ سنوات من “الخبراء” و”الناشطين في المجتمع المدني”.

وفق المعلومات المُسرّبة، سيختار المبعوث الأممي من هؤلاء المرشحين نحو 75 عضوًا للجنة الدستورية، وستبقى حصّته الأساس من دون اختصار، لتصبح نسبة من سيفرضهم نحو 30 في المئة من الأسماء الكلية، سيقدِّمون مسودة للدستور السوري المُرتقب، ليخضع بعدها لموافقة دولية ثم لاستفتاء بين السوريين.

وعليه، لا يمكن إغفال دور المعارضة السورية في تمرير هذه اللجنة الدستورية، التي ترعاها روسيا وإيران وتركيا، الدول الضامنة لمؤتمر سوتشي ولمناطق خفض التصعيد -التي انتُهِكت جميعها-، والأمر اللافت هو قبول عدد كبير من الهيئة العليا للمفاوضات، المُمَثِّلة لأطياف المعارضة السورية، الانخراط في هذه اللجنة، والتي من الواضح وفق المقدّمات أنه لن يكون لها أي دور يُذكر، سوى التوقيع على القرارات المتّخذة، ومن هذه المقدمات دعوة دي مستورا لاجتماع في جنيف لم يحضره سوريون، مع أنه سيناقش دستورهم المُفترض.

روّجت موسكو مع دي مستورا لتلك اللجنة، وأرادت أن تُفهم المعارضة السورية أن ما يجري التحضير له هو “مرحلة جديدة” نحو التغيير الأشمل في سورية المستقبل، لكن كل ما يُحيط بعمل اللجنة الدستورية غامض، والشيطان يختبئ في تفاصيلها، وستُغرق المعارضة السورية في طريق ليس في مصلحتها، خاصة أن النظام يرى أن اللجنة ستناقش دستور عام 2012، والمعارضة تؤكد أن هذه اللجنة ستضع دستورًا جديدًا للبلاد، يحفظ الحقوق ويُعبّد الطريق أمام دولة مدنية ديمقراطية.

في الغالب، ستمنح هذه اللجنة الدستورية الدول التي تدعم النظام قوة معنوية أكبر، وستمنح بالتأكيد شرعية جديدة و”صكّ غفران” للنظام السوري، وتساهم في غسل جرائمه في المحافل الدولية.

يقول الروس إن اللجنة الدستورية هي ترجمة للقرار الأممي رقم 2254 الذي أشار إلى دستور جديد ضمن عملية تفاوضية وصولًا إلى انتقال سياسي، لكن في حقيقة الأمر هي مجرد حجّة لتمرير رؤيتهم إلى حل سياسي يختلف جذريًا عن الرؤية الدولية والأممية التي قدمتها وثيقة جنيف التي شكلت القاعدة التي استند إليها القرار 2254.

تستغل روسيا عدم مبالاة الولايات المتحدة -المرحلي- وتستعجل إقرار الدستور السوري الذي طرحته في مؤتمر سوتشي الأخير بوصفه المقدمة اللازمة لخطوات إعادة تأهيل النظام للسيطرة على سورية كلها بما في ذلك المناطق التي تسيطر عليها فصائل المعارضة، عندها، في الغالب الأعم، سيُنهي الروس اللجنة الدستورية من دون تحقيق أي شيء.

 

ثالثًا: أهداف روسيا

كثيرة هي أهداف روسيا من وراء طرح هذا المشروع وبث الروح فيه، ويمكن إدراج أهمها:

1- لم تستطع روسيا بالطرق السياسية التفاوضية، ولا بالطرق العسكرية، أن تصل إلى حلٍّ يرضى عنه الأميركيون، وهي إذ تحاول عبر هذه الفكرة تدجين المعارضة السورية تدريجًا، وبشكل غير مباشر، عبر توريطهم في قضية الدستور السوري، وتصويرها لهم أن الدستور هو أساس الخلاف بين المعارضة والنظام، والتوصل إلى حل فيه سيساعد في الانتقال إلى المرحلة التالية الأكثر استقرارًا.

2- يهدف الروس من وراء قرار تشكيل اللجنة الدستورية إلى الالتفاف على وثيقة جنيف والقرارات الأممية الخاصة بسورية، ويريدون جعل الدستور الذي ستفرزه اللجنة الدستورية أساسًا لحل سياسي يُبقي على نظام الأسد، ومدخلًا إلى خرق الاستعصاء السياسي والتحول من عملية التغيير السياسي، التي هي أساس مسار جنيف التفاوضي، إلى عملية انتخابية تمنح الشرعية لنظام الأسد، وتفرز (حكومة وحدة وطنية انتقالية) تضم النظام والمعارضة على حد سواء، من دون أيّ تغيير جوهري في البنية الأمنية للنظام السوري.

3- يأمل الروس من وراء تأليف اللجنة الدستورية كسب المزيد من الوقت، حيث ستستغرق عملية تأليفها واجتماعاتها أشهرًا طويلة، كما سيستغرق وقتًا طويلًا توافق أعضاء اللجنة على ما إذا كان المطلوب دستورًا جديدًا أو تعديلًا للدستور الحالي، وستغرق الأطراف في نقاشات عبثية في الغالب، لن تُفضي إلى نتيجة، الأمر الذي سيمنح الوقت الكافي للنظام وروسيا ليُكملا سيطرتهما العسكرية مع حلفائهما على كل سورية، وبتحقيق هذا الهدف العسكري، سيعمل الروس على فرط هذه اللجنة الدستورية من دون تحقيق أي شيء يُذكر.

4- يعرف الروس تمامًا أنهم سيُغرقون السوريين بخلافات عميقة، خاصة عند مناقشة مواد الدستور، سواء ما يتعلق بصلاحيات الرئيس، ودور ومستقبل الأجهزة الأمنية، ودين الدولة ومرجعياتها، وطبيعة النظام وعلمانيته ومدنيته، وغيرها من القضايا المتعلقة بالمكونات الدينية والمذهبية، وكذلك الأمر حين مناقشة قضية القوميات والفدراليات، وهذا بدوره سيؤدي إلى تعميق الانقسامات وتأجيج التنافر، ما سيُفقد المعارضة أي دعم، بحيث يفقد السوريون ثقة المجتمع الدولي بهم، وسيدفع الغرب إلى الترحيب بالعودة إلى دستور 2012 لتفادي الخلاف.

5- بافتراض أن هذه اللجنة توصلت إلى صيغة ما، لكن إقرارها سيجري عبر استفتاء تحت سلطة النظام، وفي ظل وجود 12 مليون سوري مشرد خارج الوطن، وسيطرة الأجهزة الأمنية على الاستفتاء، وهو ما سيتماشى مع ما يريده الروس، أي إخراج كل معارض مُحتمل خارج قوسين حين تقرير مستقبل سورية.

 

رابعًا: الأخطاء

تُعدُّ مسايرة المبعوث الأممي للمطالب الروسية، وتبنّيه لفكرة هذه اللجنة، تخلّيًا واضحًا عن مقررات جنيف1 التي تؤكد على أن الحل السياسي في سورية يجب أن يبدأ بتشكيل هيئة حاكمة انتقالية ذات صلاحيات تنفيذية كاملة، تقوم هي بتشكيل لجان تكتب الدستور وتعرضه على السوريين للاستفتاء.

يُصرّ النظام السوري على أن يحصل على الأغلبية في تشكيلة اللجنة الدستورية، مقابل وجود اقتراحات أخرى تقوم على (المثالثة) بين النظام والمعارضة والمجتمع المدني (وهو هنا جماعة دي مستورا). هناك أيضًا خلافات على آلية التصويت داخل اللجنة، بين الأغلبية أو الإجماع أو أغلبية الثلثين، وكذلك خلاف حول كون أعضاء منصة موسكو ومنصة سوتشي ضمن حصّة المعارضة السورية أم خارجها كطرف رابع.

من حيث المبدأ القانوني، والمنطق السياسي، من الخطأ صوغ دستور لسورية الآن، قبل انتهاء الحرب، وقبل خروج القوات الأجنبية، وقبل تحقق الانتقال السياسي، لأن سورية في حالة حرب ونزاع، وتقع تحت “شبه” احتلال روسي – أميركي – إيراني، ولا يمكن أن يكون دستورها متوازنًا ووطنيًا؛ وعليه، من الممكن صوغ “لائحة دستورية” فحسب وليس دستورًا، أو مبادئ فوق دستورية، يكتبها سوريون مستقلون من دون وجود أي ضغوط دولية.

من سيُشرف على اللجنة الدستورية، ويُسوّق نتائجها، هي روسيا، والرعاية الأممية فحسب من أجل منحها شرعية دولية، قد تتحقق وقد لا تتحقق، ولا يمكن التصديق أن الدولة التي دعمت النظام السوري إلى الحد الأقصى وحاربت المعارضة السورية، السياسية والعسكرية، يمكن لها أن تكون حيادية ومنطقية وتعمل على ما فيه مصلحة لكل السوريين.

سواء أتمّ الاتفاق على وضع دستور جديد لسورية، أم على تعديل دستور 2012 الجاري العمل به حاليًا، فإن من سيقوم بإجراء الاستفتاء على النتائج -المفترضة- الناتجة عن اللجنة الدستورية هو النظام نفسه، وسيجري تحت سلطته وبإشرافه، وتحت أنظار أجهزته الأمنية التي مهما مارست الأمم المتحدة من رقابة عليها فإنها لن تنجح في منعها من التدخل في الاستفتاء، ترهيبًا وترغيبًا، بالقوة والقسر أو بالتهديد والوعيد أو بالرشوة والإغراءات للمستفتين؛ وعليه فإنه يمكن الجزم سلفًا بأن نتائج الاستفتاء ستكون مزيفة وغير واقعية ولا تعكس رغبة السوريين الحقيقية.

كذلك، فإن من سيمنح الشرعية للاستفتاء ونتائجه، وللتعديلات الدستورية أو الدستور الجديد، هو النظام، وعليه فإن ذلك سيمنحه شرعية إضافية لا تريدها المعارضة السورية أساسًا، كما أنه سيقوم بإعادة تدوير للمنظومة الأمنية والسياسية للنظام.

إلى ذلك، فإن الحالة الاقتصادية السيئة جدًا للسوريين ستكون مدخلًا لرجالات النظام من ذوي رؤوس الأموال إلى العبث بالاستفتاء ونتائجه، من خلال شراء أصوات الشرائح الأكثر فقرًا، والتي لا تجد في حقيقة الأمر كفاف يومها، وتبحث جاهدة عن أي فرصة عمل لإطعام أطفالها، وفي الغالب ستُغريها بعض السلال الإغاثية لبيع أصواتها لمن يسد رمق أطفالها، أو يقدّم لها بعض الحاجات الأساسية البسيطة، وهذا بالتأكيد سيؤدي إلى خلل جذري وعدم نزاهة في الاستفتاء.

كل هذا يعني تنازلًا مسبقًا عن مطالب عدم شرعية النظام التي تُشدد عليها المعارضة السورية في كل أدبياتها ومفاوضاتها وتحركاتها السياسية، كما أنه سيُنسي المجتمع الدولي الكثير من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها النظام السوري خلال سنوات الثورة على الخصوص.

 

خامسًا: أسوأ من سابقه

تعتقد المعارضة السورية أنه يجب بحث عملية وضع دستور جديد كليًا لسورية، ينسف كل الدستور الحالي الذي وضعه رأس النظام السوري عام 2012 ومنح نفسه فيه صلاحيات استثنائية، فيما يرى النظام أن الدستور الحالي هو المُعتمد والأصلح، ويرفض تغييره، ويقبل كحد أقصى بإعادة النظر في بعض مواده وإصلاحه، كما يرفض النظام السوري وضع مبادئ فوق دستورية، وأعلن عدم استعداده لمناقشة فكرة إعلان دستوري للمرحلة الانتقالية، كما رفض فكرة الجمعية التأسيسية.

صار الدستور السوري أولوية في جولات التفاوض في مؤتمرات جنيف المتتالية، فاعتبره دي مستورا سلّة مهمة في محاور التفاوض بين النظام والمعارضة، ولهذا السبب قام الروس بوضع مشروع دستور جديد لسورية، أعدّه خبراء روس، وُزِّع على المشاركين في مؤتمر أستانا1 في 23 كانون الثاني/ يناير 2017 من دون أن تتم مناقشته، وقد حاول الروس من خلاله تمرير نسخة دستور يُشرعن الانقسام الطائفي والمحاصصة الإثنية والمذهبية دستوريًا، كالعراق ولبنان، لكن النظام السوري رفضه في حينه، لأنه يضبط صلاحيات الرئاسة ويخففها إلى الحد الأدنى، ورفضته المعارضة السورية أيضًا لأن الدساتير لا تُصنع في الخارج وإنما يتمّ إنتاجها وطنيًا.

لم تغب قضية تغيير الدستور عن الذين ثاروا ضد نظام الأسد؛ فمنذ بدء الحراك كان تعديل الدستور جزءًا من المطالب الشعبية، وعندما أصدر الرئيس السوري المرسوم رقم 85 في شباط/ فبراير 2012 للاستفتاء على دستور جديد، بدلًا من دستور عام 1973، اعتقد السوريون أنه سيتجاوب مع مطالبهم، لكن الدستور الذي وضعه كان أسوأ من سابقه، وأعلن النظام أن 8.3 مليون سوري شارك في الاستفتاء وأن 89.4 في المئة منهم وافقوا على الدستور الجديد، وأن نسبة الرافضين هم 9 في المئة، على الرغم من أنه في تلك الفترة كانت تخرج تظاهرات تُطالب بإسقاط النظام كلّه شارك في بعضها 4 ملايين متظاهر، أي نحو ثلث عدد السوريين الذين يحق لهم الاستفتاء، وعلى الرغم أيضًا من مقاطعة كل أطياف المعارضة السورية، العربية والكردية والآشورية، لهذا الاستفتاء، ما استدعى أن تؤكد منظمات حقوقية ودول غربية أنه “مزور” و”مزيف” و”مهزلة”.

ألغى دستور 2012 قانون الطوارئ، لكنه وضع بدلًا منه قانون الإرهاب، الذي يُفلت يد الأجهزة الأمنية أكثر مما كانت بشكل كبير، كما ألغى المادة 8 التي تنصّ على أن حزب البعث هو قائد المجتمع والدولة، ولكنه أضاف موادًا تجعل الرئيس شخصيًا هو قائد المجتمع والدولة، بشكل شمولي وديكتاتوري قلّ مثيله في أي دستور آخر في العالم.

كرّس دستور 2012 حكم الفرد والاستبداد عبر إمساك الرئاسة بجميع السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وغابت عنه صفة العقد الاجتماعي الذي يحدّد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، نصًا وتطبيقًا.

يمنح دستور 2012 الذي يحكم من خلاله الأسد سورية، الرئيس صلاحيات استثنائية لا يمتلكها رئيس في الزمن الحالي، ما يعني أنه نقل سورية من مرحلة حكم الحزب الواحد إلى مرحلة حكم الشخص الواحد؛ فالرئيس في هذا الدستور يتولى تسمية رئيس مجلس الوزراء والوزراء ونوابهم، ويعفيهم من مناصبهم، وهو الذي يضع السياسة العامة للدولة ويشرف على تنفيذها، وهو الذي يُعلن الحرب ويعقد الصلح، وهو الذي يمتلك الحق في إعلان حالة الطوارئ وإلغائها، والحق في اعتماد رؤساء البعثات الدبلوماسية، وهو قائد الجيش والقوات المسلحة، ويمتلك الحق في حل مجلس النواب، ويتولى السلطة التشريعية بدلًا من هذا المجلس، وهو من يقترح تغيير الدستور، ووضع في يده السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، ومنحه حصانة لا تسمح للشعب أن يُحاسبه.

 

سادسًا: محاولات التفافية

قام دي مستورا، ونائبه السفير رمزي عز الدين رمزي، بجولات مكوكية إلى دول إقليمية فاعلة في الملف السوري، من بينها مصر وتركيا وإيران وواشنطن وموسكو وبروكسل ودول أوروبية أخرى، من أجل الحصول على أوسع موافقة أو “مُباركة” لفكرة تأليف اللجنة الدستورية السورية.

أبرز العقبات التي وقفت في وجه محاولات دي مستورا هي رفض الولايات المتحدة التنسيق أو التشاور مع الدول الضامنة لعملية أستانا، وخاصة إيران، لكن محادثات المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سهّلت الأمر، وتوصّل المعسكران إلى إمكانية التشاور لكن في جنيف، في إشارة أوروبية إلى أن مسار العملية التفاوضية سيبقى دائمًا تحت سقف بيان جنيف الأول الذي وافق عليه المجتمع الدولي وجميع الأطراف المعنية بالملف السوري، وهذا يعني ضمنًا عدم اعتراف بمساري أستانا وسوتشي اللذين حاولت روسيا تمريرهما كمسارات بديلة عن مسار جنيف.

بعيد اجتماع 18 حزيران/ يونيو الذي نظّمه المبعوث الأممي في جنيف لمسؤولين كبار من روسيا وإيران وتركيا، دعا دي مستورا لاجتماع آخر في 25 من الشهر نفسه، لموظفين كبار في الدول الست في “النواة الصلبة” التي تقودها الولايات المتحدة، وهي تضم أيضًا كلًا من بريطانيا وفرنسا وألمانيا والسعودية والأردن، لبحث قضية اللجنة الدستورية وإمكانية قبولها كمدخل إلى حلّ القضية السورية.

يُحاول المبعوث الأممي من خلال اجتماعات جنيف المتعلقة بالتحضير لتشكيل اللجنة الدستورية، مدّ الجسور بين معسكرين فاعلين في الملف السوري، هما معسكر الدول الثلاث الضامنة لعملية أستانا، روسيا وإيران تركيا من جهة، وبين المعسكر الغربي “مجموعة الست” بقيادة الولايات المتحدة من جهة ثانية، على أمل الوصول إلى أرضية مشتركة توافقية بينهما يستطيع من خلالها الحصول على مباركة من المعسكرين لتشكيل اللجنة الدستورية، وفي الغالب الأعم لن يستطيع ذلك بجهده المتواضع، خاصة أن الملف السوري أكثر تعقيدًا من مجرد اتفاق أطراف الصراع على دستور.

كذلك، يبذل دي مستورا كل جهد ممكن للإيحاء بأن تشكيل اللجنة الدستورية سيكون “عملية سورية وبقيادة سورية”، قناعة منه بأن ذلك سيخفف حدّة التوتر بين المعارضة والنظام، ما يوحي بأن العملية هي عملية وطنية بحتة، لكن واقع الأمر أكثر وضوحًا من محاولة دي مستورا تغطيته؛ فكل ما سيجري في هذه اللجنة سيكون انعكاسًا مباشرًا لرغبة ومشيئة الدول التي تقف خلف كل طرف، سواء أكان الجانب الروسي – الإيراني الذي يقف وراء النظام، أو جانب الولايات المتحدة والغرب الذي سيفرض رؤيته قسرًا؛ بالتالي فإن العملية لا يمكن أن تكون “سورية وبقيادة سورية” كما يوحي المبعوث الأممي.

لقد وضع فريق عمل دي مستورا جدول أعمال لعمل اللجنة الدستورية، وحاول الحصول على موافقة شاملة عليه، يتضمن تشكيلة اللجنة الدستورية وآلية عملها وطريقة التصويت فيها ومرجعيتها، وهو أمر صعب جدًا نظرًا إلى أن الخلافات بين جميع الأطراف هي خلافات تمتد إلى المستوى الاستراتيجي، ومن الصعب إيجاد نقطة وسط بين هذه الدول حول الملف السوري في الظرف الراهن.

إن تحقيق اختراق في قضية وضع دستور سوري جديد توافقي يُرضي الأطراف المتصارعة في سورية أمر صعب جدًا، ويحتاج إلى تنازلات كبيرة جدًا، سواء أكانت على المستوى السوري (المعارضة والنظام)، أو على المستوى الإقليمي (تركيا وإسرائيل وإيران والأردن والسعودية)، أو على المستوى الدولي (روسيا والولايات المتحدة وأوروبا). وعليه، وبوجود جميع هذه المستويات من المتدخِّلين، فإن حصول اختراق أمرٌ مُستبعدٌ بسبب حجم العقبات القائمة الكبيرة أمام هذا المسار، خاصة أن الولايات المتحدة وأوروبا تشدِّدان على “عملية الانتقال السياسي” الشاملة والمُلزمة، وإصرارهما على ألّا يكون للأسد أي دور في حكم سورية في المدى الطويل، كما تريدان إنهاء -أو على الأقل تقليص- الدور الإيراني في سورية خصوصًا، والشرق الأوسط عمومًا، مقابل تمسك موسكو بعملية سياسية تحت سقف النظام وإصلاح دستوري لدستور 2012 بالتنسيق مع موسكو وتحت إشرافها وضمانتها.

 

سابعًا: المعارضة والوضع الصعب

بغض النظر عن الأسماء والبراعة القانونية لهذه اللجنة التي يشكّ السوريون في قدراتها وجدارتها، يقف السوريون أمام دستور قد يخرج قريبًا ليحدّد شكل دولتهم ونظام حكمها وحدود السلطات العامة وحقوق وواجبات السوريين وصلاحيات الرئيس ومستوى تدخل الأجهزة الأمنية في المجتمع، وغير ذلك، وعلى أهمية هذه القضايا، إلا أن البيئة المعارضة للنظام تُبدي كمًّا كبيرًا من التشاؤم من النتائج المرتقبة.

بات جليًّا أن المعارضة السورية خرجت من دائرة صنع القرار والتأثير في تقرير المصير، وصار ضعفها سمة عامة، سياسية كانت أم عسكرية، ولم تعد تملك الآليات الضاغطة، كما أنها فقدت صدقيتها لدى الشعب السوري أولًا ولدى الكثير من الدول الداعمة للشعب السوري وثورته ثانيًا، وهذه الصفات كلها تجعلها غير مؤهلة لخوض صراع سياسي تفاوضي حول الدستور.

يُلاحظ في هذا المجال أيضًا أن الأسماء التي تم تسريبها ليست اختصاصية في الدراسات الدستورية، ولا تمتلك خبرات دولية عميقة في هذا المجال، وهذا في حد ذاته يُقلل من فرص وضع دستور سوري مُعافى وسليم، ويزيد من فرصة نجاح النظام وروسيا في وضع دستور مُصمّم بشكل مسبق.

على المعارضة السورية، إن قررت خوض “مغامرة” اللجنة الدستورية، أن تعمل من أجل استثمار تنافرات أعضاء اللجنة المقربين من النظام والدائرين في فلكه، وأن تستثمر تناقضات الدول المتدخلة في الملف السوري، وبرمجة تفكيرها وتوجهاتها، ووضع تكتيكات واستراتيجيات واضحة، والتزام أجندة المفاوضات والمبادرات الدولية.

 

ثامنًا: الخاتمة

من المعروف أن ثلاثية الدولة هي الأرض والشعب والدستور، وفي سورية يغيب العاملان الأولان من هذه الثلاثية.

الأرض السورية مُستباحة إلى أقصى حدودها، مع وجود قوات أمريكية تُسيطر على حو 40 في المئة من سورية، وروسية تُسيطر على 60 في المئة منها، واستباحة إيرانية لكل ثنايا هذه الأرض من خلال ميليشيات ومرتزقة تتبعثر في عشرات المواقع والأماكن، واستباحة إسرائيلية شبه يومية، ووجود مناطق تحت النفوذ التركي، وأخرى تحت نفوذ “تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش)، وأغلبية هذه الدول والقوى جاءت بطلب من النظام أو نتيجة حربه، وهو الذي سهّل لها انتهاك سيادة الأرض.

كذلك، فإن الشعب السوري غائب، ووفق تقديرات المنظمات الدولية والأممية، يعيش نحو نصف الشعب السوري في اللجوء والنزوح، خارج الحدود السورية في أغلبيتهم العظمى، منتشرين في أصقاع الأرض وغير قادرين على العودة للمشاركة في تثبيت أركان الدولة.

يبقى من هذه الثلاثية بند الدستور، الذي يريد النظام السوري صوغه ليتوافق مع “سورية المتجانسة” التي قال إنها مصدر الأمان للوطن، أي يريد دستورًا لمؤيديه فحسب، يزيد من نفوذهم ويحطّ من نفوذ المعارضة، بل ويُنهي وجودها نهائيًا حتى بالشكل الفيزيائي، يريد دستورًا يُشرعن تغييراته الديموغرافية والجغرافية والسياسية والاجتماعية، دستورًا يُبقي سورية دولة فاشلة غائبة مُهيمنًا عليها من جماعة وأسرة وشخص.

أي دستور يوضع في ظل غياب الثلاثية سابقة الذكر سيكون دستورًا فاشلًا، وهذا ما يجب على المعارضة السورية أن تراه بوضوح، وعليها أيضًا أن تنتبه إلى أن أي دستور سيتم اختياره سيحدِّد هوية سورية الوطنية الجامعة المُجمّعة أو الطاردة، وسيبني الثقة بين السوريين أو يُدمرها، وسيفرز سلطة شمولية أو ديمقراطية تداولية، وهذه المتناقضات يمكن أن تبني وطنًا أو تُدمّره، وعليها أن تكون على يقين بأن السوريين لن يقبلوا أنصاف الحلول بعد مليون من الضحايا.