المحتويات

أولًا: مقدمة

ثانيًا: في الاستعصاء الحكومي بعد الانتخابات

ثالثًا: انتفاضة البصرة عندما تخط مستقبلًا للعراق

رابعًا: في المواجهة الأميركية – الإيرانية في العراق

خامسًا: على سبيل التشابه بين واقع العراق وسورية

سادسًا: خاتمة

 

 

 

أولًا: مقدمة

يُعاني العراق منذ الغزو الأميركي عام 2003 كمًا هائلًا من المشكلات، كانت كافية لإضعافه إلى درجة العجز والفشل، ويأتي في مقدمة هذه المشكلات وقوعه ضحية هيمنتين أميركية وإيرانية، ولا يُغيّر من الأمر أن الهيمنة الأميركية سهّلت الهيمنة الأخرى لغايات ما زال بعضها غامضًا. لكن، وعلى الرغم من اختلاف أجندات كل من الطرفين، إلا أنه من حيث النتيجة فإن نهجيهما المختلفين والمتصادمين في كثير من المنعطفات، أدّيا إلى إنهاك الشعب العراقي، وفشل حكوماته المتتالية حتى في إدارة الأزمات التي تسبب التدخل الخارجي في معظمها.

جاءت الانتخابات البرلمانية التي جرت في منتصف أيار/ مايو الماضي لتدخل العراق والعراقيين -الذين تطلّعوا إلى الخروج من الوضع الذي انتهوا إليه- في متاهة كان لهم دور في صنعها، ذلك أن الناخب العراقي والجماعات العراقية وبحكم الانقسام المتعدد الأوجه الذي يسم عراق اليوم، لم تعط إلى أي من القوى التي تتنافس على حكمه التفويض اللازم للحدّ من الهيمنة الخارجية ومن تدهور الحالة المعاشية والخدمية ومحاربة الفساد الذي نخر الدولة العراقية وأهدر المال العام وعرّضه للنهب، وليس هناك اليوم من قوة سياسية أو تحالف قادر على تشكيل الحكومة المأمولة لصعوبة الوصول إليه في ظل المواجهة الأميركية – الإيرانية المحتدِمة، ويبدو أن العراق سيكون ساحة دامية لاختبار القوة والنفوذ، بدأت بوادرها في انتفاضة البصرة مطلع أيلول/ سبتمبر 2018.

كانت التفاهمات التي يتوصل إليها الطرفان الأميركي والإيراني تُسهّل تشكيل الحكومات العراقية من نمط التوافق الذي حصل في عقب انتخابات العام 2010، حين ضحّى الطرف الأميركي بإياد علاوي، الذي فازت قائمته بتلك الانتخابات لمصلحة نوري المالكي رجل إيران في العراق، وكان هذا الرجل بفساده وطائفيته الفجّة وبالًا على العراق والعراقيين وما زال، وتُشير انتفاضة العراقيين التي بدأت بوادرها في البصرة المنكوبة، أنها مرشّحة للتمدد في مناطق الجنوب العراقي مربض الهيمنة الإيرانية، وبات العراق يقف أمام استحقاقات وتحديات مُركّبة، لا تقتصر على الحد من الهيمنة الخارجية فحسب، بل أيضًا مواجهة وتجاوز الانقسام المجتمعي بكل تجلياته السياسية والمذهبية والقومية، لأن الهيمنة الخارجية تتخذ من هذا الانقسام موضوعًا وأداةً لها في ترسيخ ديمومتها، تمامًا كما تُساهم مفاعيل الهيمنة في تعزيز الانقسام المجتمعي وتعميقه، فهل يستطيع العراق تجاوز هذه التبادلية القاتلة؟ وهل ستسمح له التوازنات الدولية والإقليمية القائمة في ظل المواجهة الإيرانية – الأميركية بإنجاز هذا التحدي المصيري؟ تساؤلات يصعب التكهن بأجوبة لها، فالعراق أمام مفترق خطر، يؤرجحه بين خيار الانتصار على واقعه المر، وخيار الانزلاق إلى ما هو أسوأ، وفي الحصيلة فإن مستقبل العراق متوقف على إرادة أبنائه ومدى توسّلهم الخيار الوطني، وتقديمه على الهويات ما قبل الوطنية السائدة.

 

ثانيًا: في الاستعصاء الحكومي بعد الانتخابات

لم يكن هناك شكّ في أن رحلة تشكيل الحكومة العراقية المنتظرة بعد انتخابات أيار/ مايو الماضي، لن تكون سلسة، لكن تجربة الأشهر الثلاثة الماضية، بيّنت أن أزمات العراق وثقل الهيمنة الخارجية، أعمق من أن تحلها الأماني ومحاولات الكتل الحزبية وسياسيي العراق التكيف الخجول مع المرحلة الجديدة، وعنوانها الأساس أن الأمور وصلت عند العراقيين إلى حدّ الانفجار، ولم يعد ممكنًا تحمّل الجرح الوطني والفساد والجوع والفشل الحكومي المتواصل.

لم تعط الانتخابات أيًا من القوى السياسية الأصوات الكافية لتوجيه دفة السياسة العراقية أو القدرة على التأثير الوازن فيها، صحيح أن مطالب العراقيين المُعلنة هي توفير الخدمات ومحاربة الفساد والحدّ من البطالة وتأمين سبل العيش لشعب وصل إلى مستوى الجوع وهو المتخم بالثروات وفي مقدّمها النفط، وهذه كانت مطالب المتظاهرين في موجات التظاهر الثلاث وآخرها في البصرة، لكن المتظاهرين، بل معظم العراقيين، يعرفون أن المشكلات الداخلية مبعثها الأعظم يكمن في التدخل الخارجي، وبوجه خاص الإيراني؛ فالسلطة في العراق منذ العام 2003، لم تخرج من قبضة الأحزاب الشيعية الموالية لإيران، وتحديدًا حزب الدعوة وشركائه، وثمة إصرار إيراني على إدامة هذا الوضع، وهي ما زالت تجد بين هذه الأحزاب والميليشيات التي تتبعها من يشاركها هذا التوجه، فضلًا عن استعدادها لفرضه بقوة السلاح.

أمام هذا الوضع الذي أفرزته انتخابات أيار/ مايو الماضي، بات الاستقطاب في الساحة السياسية واضحًا من خلال تشكيل التحالفات بهدف الوصول إلى الكتلة الأكبر، كي يُناط بها تشكيل الحكومة المقبلة، الأمر الذي تعذّر إنجازه حتى الآن، وليس في الأفق من مؤشرات على إمكانية إنجازه، ذلك أن الاستقطاب الداخلي يأتي في جزءٍ كبير منه تعبيرًا عن استقطاب خارجي بين طرفي الهيمنة اللذين يتحكّمان في العراق، وفي مسيرة صوغ التحالفات الجديدة المبنية على نتائج الانتخابات؛ فقد اتّبعت كافة الأحزاب والكتل تكتيكات ومناورات، يُستشف منها تأجيل الوصول إلى الجدار المسدود، والجميع يعرف ويُدرك النتائج التي يمكن أن تترتب على مثل هذه العتبة الخطرة. فأول الإجراءات كانت تشكيك بعض الأطراف بنتائج الانتخابات، والحديث عن حدوث تزوير في مناطق محددة وأبرزها كركوك، مما اضطر الهيئة العليا للانتخابات، نزولًا عند قرار المحكمة العليا، إلى إعادة الفرز يدويًا للمراكز الانتخابية التي شهدت عمليات تزوير، وبعد شهر من العدّ والفرز لم تتغير النتائج التي حصلت عليها الكتل على الرغم من إقرار الهيئة العليا بحصول تزوير في بعض المراكز، لكنها ليست بالدرجة التي تُغيّر في النتائج، وصادقت المحكمة على النتائج واعتمدتها، في حين كانت الخطوة الثانية إعلانات متكررة عن حصول توافقات يصعب الركون إليها بين كتل بعينها، بعضها لا يتعدى البعد الإعلامي، حيث رست تحالفات هشة تحت أربعة عناوين يتصدرها التحالف الرباعي، الذي يضم “سائرون” و”النصر” و”الحكمة” و”الوطنية”، وله بحسب زعمه 180 مقعدًا، وهناك تحالف البناء الذي يضم “الفتح” و”دولة القانون” و”العصائب”، ثم أُضيف إليهما “كتلة العطاء” التي لها أربعة مقاعد ويرأسها فالح الفياض، بعد أن عزله العبادي من منصبه كمستشار لشؤون الحشد الشعبي ومسؤوليات أمنية أخرى بدعوى خلطه بين السياسي والأمني في مهماته، وتبعه “الحزب الإسلامي” الذي حاز خمسة مقاعد، وخميس الخضر وأبو ريشة، ما دعا تحالف “الفتح” إلى إعلان تشكيله الكتلة الأكبر مُدّعيًا تبلغه قرارًا كرديًا بالانضمام إليه، وقد تبين لاحقًا عدم صحة هذا الادعاء، علمًا بأن الأكراد كثيرًا ما صرّحوا أنهم سيكونون مع من يُقدّم لهم العرض الأفضل، على الرغم من تأكيدهم المتكرر على الشراكة على أرضية التوازن والتوافق، وعليه فإنهم موضوعيًا أقرب إلى التحالف الرباعي، إلا إذا ثقلت عليهم الضغوط الإيرانية وأجبرتهم على تعديل هذا الموقف من خلال تقسيم الموقف الكردي على الأقل وتفعيل الخلافات بين أطرافه.

أما الطرف (السني) فقد كان الطرف الأضعف في معادلات القوة والحضور، وتتحمل المسؤولية عما وصل إليه حاله النخب والأحزاب السياسية السنية، التي تصدّرت المشهد السياسي باسم السنّة، والتي لم تكن على قدر المسؤوليات التي تصدت لها، وكثير من شخوصها بات جزءًا من منظومة الفساد التي عمّمها المالكي في فترتي رئاسته، ويعانون تشتتًا وصراعًا بينيًا على الأدوار والمغانم، وقسم منهم أقرب إلى إيران ويتعاون معها، وبعضهم الآخر يخشى من صدام أميركي – إيراني تكون ضحيته العراق. وبما أن المساومات في الطرف السني تتكثف في اختيار رئيس مجلس النواب، فإن التنافس استقر أخيرًا بين ثلاثة أسماء هي محمد الحلبوسي وأسامة النجيفي ومحمد تميم، وقد فاز الحلبوسي برئاسة البرلمان في جلسة 15 أيلول/ سبتمبر.

بعد أن وافقت المحكمة العليا على نتائج الانتخابات، حدّد رئيس الجمهورية يوم 3 أيلول/ سبتمبر موعدًا لعقد البرلمان الجديد جلسة أداء القسم، وقد عُقدت الجلسة، إلا أنه في اليوم الثاني كُسر النصاب، وكذلك في الجلسة الثالثة، الأمر الذي أدى إلى تأجيل الجلسات حتى الخامس عشر من أيلول/ سبتمبر بما يتجاوز الصلاحيات القانونية، ومع ذلك فإن البرلمان لم يعقد جلساته، سوى جلسة استثنائية بناءً على طلب رئيس الوزراء الذي حضر ووزراؤه لمناقشة حوادث البصرة وسبل معالجة مشكلاتها، إلا أن الجلسة تحولت إلى جلسة اتهام للعبادي ووزارته، والتي لم تُقدّم إجابات مقنعة، ما دفع العبادي للقول: “هناك أطراف استغلت جلسة البرلمان بشكل سافر كفرصة للتسقيط، وأطراف أخرى انتهزت الجلسة للتأثير على تشكيل التحالفات”، وبالتساوق مع هذه الجلسة، صدرت عن الصدر والعامري مطالبات للعبادي بالاستقالة الفورية، دعوة ليس لها مفعول قانوني بحكم أن الوزارة هي وزارة تصريف أعمال بعد خمسة عشر يومًا من تاريخ عقد أول جلسة للبرلمان، لكنها تؤشر إلى اضطراب التحالفات المعلنة، وإلى أن الخروج من المأزق السياسي القائم ما زال بعيدًا، ما دام قاسم سليماني دائم الحضور ما بين بغداد والنجف التي هدّد مرجعياتها الأربع بأنه إذا لم تتفق القوى الشيعية على رئيس وزراء شيعي لا يناصب إيران العداء، فإنه سوف يقلب الطاولة على الجميع. وانسجامًا مع تهديدات سليماني، هدّد هادي العامري الأقرب إلى إيران أن “أي حكومة يتدخل الأميركيون في فرضها، سوف يُسقطها خلال شهرين”.

أخيرًا، وبعد طول انتظار أدلت المرجعية الشيعية ممثلة بالسيستاني بدلوها في معمعة الحراك السياسي للتوافق على اختيار رئيس وزراء بكلام غير صريح، يُفهم منه أن المرجعية ترفض الأسماء الخمسة المتداولة والمتنافسة على هذا المنصب وهم (حيدر العبادي – نوري المالكي – هادي العامري – فالح الفياض – ومحمد النجم) عندما قالت “المجرب لا يجرب”، وأن “من تسلّم مناصب حكومية سابقة لا يصلح لقيادة المرحلة الراهنة”، وبناءً عليه فإن ورقة حيدر العبادي قد احترقت مقابل ورقة نوري المالكي وغيره من الزعامات الشيعية التي تطمح بتولي رئاسة الوزراء، ما دفع حزب الدعوة لإصدار بيان “يرفض فيه مسؤوليته عما وصلت له حال العراق”، وأنه “لم يتفرد بحكم العراق، بل حكم بمشاركة الآخرين، وأن الجميع يتحملون المسؤولية على قدم المساواة”.

يُشكّل رأي المرجعية الشيعية ذات النفوذ المعنوي الكبير، خلطًا كبيرًا للأوراق ونسفًا لأي تفاهمات توصلت إليها القوى والكتل السياسية حتى الآن، وإن لم تك التفاهمات حاسمة وكافية، وهي بهذا الموقف أمسكت بالعصى من المنتصف عندما استبعدت مرشحي الولايات المتحدة وإيران من حلبة التنافس، وكأنها تفتح بابًا لإعادة التفاوض بين الدولتين المتنفذتين، علّها تنقذ العراق من حرب أهلية، لن يتردد قاسم سليماني بإطلاقها إذا أُخرجت إيران من دائرة القرار في بغداد وخسرت نفوذها، وهي قادرة على ذلك بحكم المرتكزات الأمنية والسياسية التي باشرت في بنائها منذ العام 2003، وأحكمت من خلالها قبضتها على مفاصل السلطة في الدولة العراقية، فكيف ستتعامل الولايات المتحدة مع المعطيات الجديدة؟ وماذا ستختار، المواجهة أم المساومة على حلول تؤجل المواجهة إلى حين؟ وماذا سيكون موقف الشعب العراقي؟.

قد يكون من المبكّر التكهّن بمسار الأمور نظرًا إلى تعقيدات الموقف وضعف العامل الداخلي وتشتته، وقد كان لافتًا، بعد صدور رأي المرجعية، لقاء الصدر والعامري وتصريحهما المشترك بأنهما “تفاهما على أسس التحالف بين سائرون والفتح لتشكيل الكتلة الأكبر، وفي حال لم ينجز التحالف، فإنهما اتفقا على التنسيق العالي بينهما تحت قبة البرلمان”، فما الذي يمكن فهمه بخصوص دوافع هذا اللقاء والتصريح على هذا النحو؟ ذلك أنه عندما يتعذر التحالف، فإنه لا يبقى من مقومات للتنسيق، والتساؤل هنا يتجه نحو الصدر الذي حمل لواء تخليص العراق من هيمنة إيران ولو تدرجيًا، وقاد وحلفاؤه تظاهرات عارمه، دامت أشهرًا في بغداد لمحاربة الفساد والمفسدين والدعوة إلى حكومة تكنوقراط ونزع سلاح الميليشيات، وهذه المطالب من أهم ركائز الهيمنة الإيرانية، فهل جاء لقاؤه بالعامري رسالة طمأنة لإيران وتبريدًا لحنق سليماني، بأنه ما زال بعيدًا عن الحلف الأميركي على الرغم من التحالف الرباعي الذي يجمعه بالعبادي. يرجح هذا الاستنتاج ما سرب -إن صح هذا التسريب- عن زيارة قام بها الصدر إلى بيروت نهاية آب/ أغسطس الماضي للقاء حسن نصر الله ولم يلتق به، وكانت غايته فتح قناة مع القيادة الإيرانية بعيدًا عن قاسم سليماني.

 

ثالثًا: انتفاضة البصرة عندما تخط مستقبلًا للعراق

مع مطلع أيلول/ سبتمبر، وبعد شهر من تظاهرات متفرقة في مدن الجنوب العراقي، تفجرت في مدينة البصرة، ثالث كبرى مدن العراق وأغناها بالنفط، انتفاضة واسعة خرج فيها، وبشكل يومي، عشرات آلاف المتظاهرين من مختلف الشرائح العمرية وبخاصة فئة الشباب، احتجاجًا على غياب الخدمات والفقر والبطالة والفساد المستشري في العراق عمومًا، فالبصرة بلا كهرباء بعد أن أوقفت إيران إمدادات الكهرباء بدعوى عدم سداد الحكومة العراقية مستحقاتها بهذا الخصوص، والبصرة تعاني نقصًا شديدًا في المياه، ويضاف إلى هذا ارتفاع نسب الملوحة في المياه بسبب تمدّد اللسان الملحي في شط العرب، بعد أن حولت إيران مصبات الأنهار التي تصبّ في الشط نحو الداخل الإيراني، ما أدى إلى ارتفاع حالات التسمم وانتشار الأوبئة، في وقت تعجز فيه الحكومة المركزية في بغداد أو الحكومة المحلية عن معالجة هذا التردي الكارثي على مدى سنوات، علمًا بأن أحوال مدن العراق الأخرى ليست أفضل، لقد وُضع البصريون أمام تحدٍ حياتي فانتفضوا، وبدأت تظاهراتهم مطلبية وسلمية، ومع ذلك قُتل ستة عشر متظاهرًا وجُرح ما يزيد على المئة بالرصاص الحي من قبل جهات غير معروفة أو من قبل الجهات الأمنية، التي أعلن العبادي بأنه لم يعطها أي أوامر بإطلاق الرصاص، وأمر بتشكيل لجنة تحقيق لم تفصح عن نتائج حتى الآن، كما أُطلقت النيران على سيارات الإسعاف التي تنقل الجرحى، ومع تطور الحالة في يومها الثالث، أطلق المتظاهرون شعارات سياسية، تُسقط الحكومة، وتطالب بإخراج الميليشيات من المدن وحلها، وخروج إيران من العراق، وقد احتل المتظاهرون ميناء البصرة ليوم كامل، وفي يوميها الرابع والخامس تم حرق مبنى المحافظة ومقرات الأحزاب والميليشيات، وأخيرًا حُرقت القنصلية الإيرانية، وحوصرت السفارة الأميركية ولم يتيسر حرقها.

أمام هذا التطور الخطير، وبعد أن وصلت تعزيزات أمنية وعسكرية من بغداد، وحاصرت الميليشيات البصرة بعد تهديد مسؤول الحشد في البصرة بأن الحشد سوف ينزل إلى الشوارع لضبط الوضع الأمني، وقد شكل عشرة ألوية من الميليشيات لهذا الغرض؛ قررت تنسيقيات التظاهر تعليق التظاهرات، والأمر ذاته فعلته العشائر وسحبت أبناءها من ساحات التظاهر. لقد علقت التظاهرات، واتهم الحشد الشعبي وميليشياته بكل أعمال الحرق والتخريب، وهذا ليس بمستبعد عنها، وأعلنت كتلة النصر التي يرأسها العبادي أن الميليشيات أحرقت المقارّ لخلق حالة من الفوضى تعرقل مسيرة تشكيل الحكومة، كما أفاد مراسلون وشهود عيان بأن مبنى المحافظة على وجه التحديد قد حرق من داخله وقبل وصول المتظاهرين إليه، وأن الحريق بدأ من الطابق الثاني، وليس من الطابق الأرضي كما يُفترض.

وضعت المرحلة العبادي في واجهة الحوادث، وهناك من أراد تحميله عبء التقصير الحكومي في المراحل السابقة، وقطع الطريق بينه وبين الوصول إلى رئاسة الحكومة مرة ثانية، إذ دعا إلى اجتماع البرلمان وحضر وحكومته الجلسة وأدلى كل وزير من الوزرات المعنية بالموضوع بدلوه، لكن الجلسة انقلبت بفعل خصومه إلى جلسة إدانة له ولحكومته التي عجزت عن تقديم أي حلول، وكل ما قدمه الوزراء لم يزد عن تبريرات لا يمكن قبولها في هذا الوضع المتأزم.

صحيح أن مشكلات البصرة وكل مشكلات العراق الخدمية ليست وليدة ساعتها، وهي حصيلة تراكم الإهمال الحكومي والفساد المستشري منذ سنين، الذي أتى حتى على المخصصات المتواضعة التي كانت ترصد في الميزانيات السنوية لكل محافظة، لكن حكومة العبادي تتحمل موضوعيًا المسؤولية كغيرها، وإن التذرع بانخفاض مردودات القناة الراجعة من شط العرب من 7 م3/ثا إلى النصف بسبب السدود التركية ليس مبررًا، لأن المسؤولين العراقيين لم يقوموا بأي إجراءات تعويضية ومنها على سبيل المثال لا الحصر الاعتماد على تحلية مياه البحر، علمًا أن مسودات هذه المشاريع قابعة في الأدراج منذ سنوات، أليس من المعيب أن يعاني العراق الذي يصدر 3.4 مليون من النفط يوميًا من عجز في توليد ونقل الطاقة الكهربائية إلى مدن العراق؟

كان المتظاهرون على حق عندما حملوا إيران والقوى السياسية والميليشيات مسؤولية ما وصلت إليه الأمور، فهذه القوى التي اعتمدت المحاصصة الطائفية، وسخّرت جهدها وإمكاناتها لعسكرة الحياة العراقية ممثلة بالحشد الشعبي وقبله ظاهرة الميليشيات التي توالدت كالفطر، وذلك لديمومة السلطة في يد الطرف الشيعي على حساب الأطراف العراقية تنفيذًا وخدمة للسياسة الإيرانية، التي جهدت للهيمنة على العراق واستيعابه عبر تخريبه وتمزيق نسيجه الوطني، فالفساد والحالة هذه هو عرض من أعراض هذا النهج وليس أساسًا له، وكان من الصعب على أي مسؤول عراقي محاربته حتى لو أراد، لأن الفاسدين هم من مرتكزات هذه السياسة، ولا يمكن وضع حد جدي له إلا بنسف النهج السياسي الذي أفرزه.

لقد توقفت أو علقت انتفاضة البصرة عندما دخلت الميليشيات على الخط، وقتلت عددًا من المتظاهرين وأحرقت معظم المقارّ، وأبدت استعدادًا لتفجير الموقف والذهاب بالأمور إلى نهاياتها وفقًا لتهديدات سليماني، وربما ارتأى القائمون على التظاهرات التي كانت تشكو العفوية وضعف التنظيم، عدم إعطاء غلاة الميليشيات ذريعة حرق العراق بدعوى مواجهة الفوضى وضبط الأمن، بخاصة أن تجاوب مدن الجنوب العراقي الأخرى مع التظاهرات كان بطيئًا ومترددًا. قد تكون استراحة محارب، أو لإعطاء المجال لمزيد من التفاعل داخل الوسط الشيعي العراقي، وسوف تُعاود انتفاضتها لأن أساس الداء ما زال موجودًا، وإن تصريح الصدر بأنه “سوف يحلّ جميع مشكلات البصرة بعد تشكيل الحكومة”، لا يعدو أن يكون ضربًا من الأماني في أحسن الأحوال. فالمهم أن انتفاضة البصرة أوصلت الرسالة إلى الإيرانيين وأتباعهم من الميليشيات بتغير الأحوال، وأن التهويم المذهبي لم يعد مقنعًا للعراقيين، ولم يورثهم سوى التيه والكوارث، وأن وطنية عراقية بدأت تخطو أولى خطواتها.

 

رابعًا: في المواجهة الأميركية – الإيرانية في العراق

لا يمكن فصل السياق الذي انتفضت فيه البصرة، على الرغم من أهمية وأحقية الدوافع التي كانت وراء انتفاضتها، عن سياق المواجهة المحتدمة بين الولايات المتحدة وإيران، بعد أن ألغى ترامب الاتفاق النووي وأعاد العقوبات القديمة وفرض المزيد منها، لدفع إيران لوقف تمددها في المنطقة ودعمها للإرهاب، ووقف برنامجها النووي والصاروخي بشكل نهائي، وفقًا للمطالب الأميركية التي أشفع بها ترامب قراره بالانسحاب من ذاك الاتفاق.

بدأ التفارق بين السياستين الإيرانية والأميركية تجاه العراق منذ أن اجتاح تنظيم (داعش) غرب العراق واحتل ثلثه وهدّد بغداد، واضطرت حكومة المالكي آنئذ، بموافقة إيرانية، إلى طلب التدخل الأميركي للمساعدة في مواجهة (داعش)، بعد أن انهار الجيش العراقي، فالولايات المتحدة التي وافقت على الطلب العراقي، وشكلت تحالفًا دوليًا لهذه الغاية ضم سبعين دولة، وهي التي لم يمض على انسحابها من هناك أربع سنوات، وضعت شروطًا منها إعادة بناء الجيش والقوى الأمنية وإزاحة نوري المالكي رجل إيران العراقي واستبداله بالعبادي، شروط لا تتفق والنهج الإيراني الحريص على إضعاف الحكومة والجيش العراقيين والاستعاضة عن الجيش بميليشيات طائفية تتبعها، دعته بالحشد الشعبي الذي جيشت له المرجعية العراقية. فالأميركيون ركزوا على إعادة بناء وتدريب وتسليح الجيش والقوى الأمنية التي لعبت الدور الرئيس في هزيمة (داعش) في نهاية المطاف، على عكس ما تدّعي إيران وتنسب النصر للحشد الشعبي. فهل غفلت إيران عن مآلات العودة الأميركية إلى العراق؟، أم أنها راهنت على الروح الانسحابية التي أوحت بها إدارة أوباما، أم على قوة حضورها الطاغي في العراق وركيزتيه المذهبية والميليشيات؟!.

حاولت بعض القيادات الشيعية، ومنها العبادي، تحسين علاقات العراق مع الجوار الخليجي الغائب عن العراق منذ حرب الخليج الثانية، خاصة السعودية، وهو ما حقق تقدمًا، لكن لم يكن كافيًا لموازنة الحضور الإيراني، وهذا إن كان يوافق التوجه الأميركي، فإنه قد أزعج إيران التي حاولت عرقلته، لكنه كان خطوة على طريق نفض الهيمنة الإيرانية، يترافق مع تنامي شعور وطني على حساب التموقع المذهبي لدى شيعة العراق، وهذا ما عبرت عن بعضه انتفاضة البصرة.

لقد قطعت المواجهة الأميركية – الإيرانية على مستوى المنطقة شوطًا طويلًا، لكن سيبقى العراق أهم ساحاتها بالنسبة إلى إيران، فهو جوار جغرافي وبلد غني بالثروات، كما أنها تعول على ثقل ديموغرافي شيعي، لكن الأهم هو المرتكزات التي بنتها، ومنها الميليشيات المسلحة، التي تأتمر بأوامر الحرس الثوري الإيراني، وإذا أخذنا في الحسبان ما صرّح به الولي الفقيه بأنه “لا مفاوضات ولا حرب مع الولايات المتحدة”، يمكن الاستنتاج في ظل حالة الضعف التي تعانيها إيران داخليًا، وعجز اقتصادها الذي يترنح تحت وطأة العقوبات، أن إيران ستعتمد حرب الوكالة في هذه المواجهة، وأوكلت لقاسم سليماني مهمتها، ولن تتخلى عما أنجزته في العراق بسهولة، ما دامت قادرة على الإيذاء والقتل، لكن النتيجة النهائية متوقفة على إرادة الشعب العراقي الذي عليه أن يستعد لدفع كلفة ثقيلة ثمنًا لحريته.

 

خامسًا: على سبيل التشابه بين واقع العراق وسورية

لا يجمع سورية والعراق جوارهما الجغرافي ولا دجلة والفرات فحسب، بل إن أهم ما يجمعهما هو وحدة التاريخ، فكلاهما كان مهدًا لحضارات قديمة قامت واندثرت، ومعبرًا أو مقامًا لإمبراطوريات باحثة عن النفوذ والسيطرة وتركت أثرها، هذا التاريخ ترك بصماته على الواقع السكاني في كلا البلدين، وجعل التنوع القومي والعرقي والديني سمة من سماتهما المميزة، لكن بدل أن يكون مصدر غنىً وثراء حضاري، ومثالًا يحتذى في الاندماج المجتمعي والوطني، كان هناك عاملان جعلا منه وبالًا وأداة تفرقة وانقسام مدمرِ لكليهما، أولهما الخارج الاستعماري الذي عزف على فكرة الأقليات والأكثريات منذ منتصف القرن التاسع عشر، ولعب عليها كأحد أدوات الهيمنة معتمدًا على تاريخ المنطقة الديني المشبع بالنعرات والخلافات والصراعات البينية، وثانيهما الأنظمة العسكرية الاستبدادية التي حكمت وتحكمت في البلدين بعد مرحلة الاستقلال، هذه الأنظمة عمقت الشروخ المجتمعية وأنعشت البنى والهويات ما قبل الوطنية، وبات البلدان ضحية مظلوميات متبادلة قاتلة، تحتكم للسلاح وتُوسع من مساحة الفوضى.

تجربة السنوات الماضية في العراق ما بعد 2003 وسورية ما بعد 2011، كلّفت الشعبين مئات آلاف الضحايا في كل منهما، ومواجهة دامية، دمرت البلدين وهجّرت الملايين في ظل حضور دولي وإقليمي كثيف، جعل من مهمته الأساس إدارة الصراع، وتثقيل حصته من النفوذ والهيمنة.

عند هذه العتبة التي دخل فيها الصراع الدولي جولاته النهائية، ووصلت فيه الأطراف المحلية إلى حدّ الإجهاد، واتضحت عبثية هذا الصراع الذي انحرف عن أهدافه في الحرية والعدالة، ثمة فرصة أمام القوى الحية لدى الشعبين أفرادًا ومكونات، للمراجعة وإعادة الصراع إلى أهدافه الأولى والخروج من شرنقة التموضع الطائفي إلى فضاء الوطنية الجامعة بالاحتكام إلى قيم المواطنة وضمان الحريات وإنهاء الاستبداد ومرتكزاته، فهل تكون انتفاضة البصرة منطلقًا لصحوة قابلة للتمدد، يستعيد فيها الشعبان قرارهما من أيدي قوى الأمر الواقع ومن أطلقها؟

 

سادسًا: خاتمة

أشَرت الانتخابات الأخيرة وانتفاضة البصرة، إلى أن العراق دخل مرحلة جديدة، وأن رفضًا للهيمنة الخارجية وللاصطفافات السياسية والمذهبية، التي سادت بعد سقوط بغداد، آخذٌ بالتبلور، عبر عنه عجز القوى الشيعية عن التوافق على رئيس للحكومة الجديدة وتشكيلتها وناظم عملها، وهذا الاستعصاء تزيده المواجهة الأميركية – الإيرانية تعقيدًا، لكنها تفتح أمام العراقيين أفقًا واعدًا، يمكن إذا أحسن استغلاله، أن يخرج العراق من الاصطفافات الطائفية القديمة نحو نمط مختلف من الاصطفاف ذي طابع وطني تختلف معه المفاهيم والتوجهات والعلاقة بين المكونات على نحو إيجابي، والشرط الداخلي اللازم يتمثل بالحدّ من سطوة المرجعية الدينية والمرجعية العشائرية وإنهاء ظاهرة الميليشيات، هذه الأقانيم الثلاثة التي تقف عائقًا أمام دمقرطة العراق والوطنية العراقية.