المحتويات

أولًا: مقدمة

ثانيًا: مكانة انتخابات سنة 2018 في التاريخ التركي المعاصر

ثالثًا: السياسات الداخلية

رابعًا: السياسات الإقليمية

خامسًا: السياسات الدولية

سادسًا: تداعيات الانتخابات على المسألة السورية

سابعًا: خاتمة

 

 

 

أولًا: مقدمة

تمكن قراءة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، التي جرت في 24 حزيران/ يونيو 2018، بأنها بداية مرحلة تحوّل كبرى في تاريخ تركيا المعاصر، وهي تطرح أسئلة حول مدى استقرار قوة إقليمية كبرى في الشرق الأوسط، وتداعياته الداخلية والإقليمية والدولية.

في هذا السياق، لا بدّ من الانتباه إلى أن تركيا تشغل حيّزًا استراتيجيًا مهمًّا، يطل على مناطق استراتيجية مهمة: أوروبا والبلقان والبحر الأبيض المتوسط والعالم العربي من جهة، وروسيا وآسيا الوسطى ومنطقة القوقاز من جهة ثانية، وهي تُطلّ على البحرين المتوسط والأسود، وتتحكم في بحر مرمرة (البوسفور والدردنيل)، وتتنازع السيطرة على بحر إيجه، كما تتمتع بموقع فريد بين طرفي القارتين الآسيوية والأوروبية.

 

ثانيًا: مكانة انتخابات سنة 2018 في التاريخ التركي المعاصر

أدخل انقلاب كنعان إيفرن عام 1980 تركيا في نظام طغى عليه الجيش في مواجهة الحكومات المنتخبة، واقتصاديًا انحدر الأداء الاقتصادي، وتدهورت قيمة العملة. وفي أوائل تسعينيات القرن الماضي مرّت تركيا بوضع مفكك سياسيًا، حيث بدأت دوامة الحكومات الائتلافية الضعيفة، لكن في أواخر التسعينيات شهدت تركيا تغيّرًا إيجابيًا، مهّد الطريق أمام وصول حزب “العدالة والتنمية”، بعد أن نجح في انتخابات البلديات المحلية، إلى السلطة عام 2002، وريثًا لحزب “السلامة” الذي كان يقوده نجم الدين أربكان.

ما شهدته تركيا من تحوّل المنظومة الأتاتوركية التقليدية “العلمانية الجمهورية” إلى نمط من “الليبرالية المحافظة”، بالاستناد إلى “المجتمع الأهلي المتدين دون التفريط في أساسيات الإرث الأتاتوركي”، لم يكن من قبل حزب “العدالة والتنمية” بقيادة طيب رجب أردوغان، وإنما كان قد بدأ مع رئيس الحكومة الأسبق تورغوت أوزال.

قبل وصول حزب “العدالة والتنمية” إلى السلطة عام 2002 طغى تدخّل الجيش في السياسة، عبر الانقلابات العسكرية وتأليف حكومات تخضع لسيطرته، لكنّ أردوغان تمكّن من وضع حدٍّ لهذا التدخل، وشهدت تركيا نهوضًا اقتصاديًا كبيرًا، بحيث يمكن القول: إن نجاح الحزب وقيادته يعود إلى الاستقرار الاقتصادي، حيث كان متوسط نمو الناتج المحلي الإجمالي قد وصل إلى 4.5 في المئة سنويًا، كما تحولت تركيا إلى مركز صناعي ودولة مهمة تبوأت المركز السادس عشر في الاقتصاد العالمي، واكتسبت عضوية مجموعة العشرين.

تختلف انتخابات عام 2018 عن أي انتخابات رئاسية أخرى، لأنها جاءت بعد تغيير الدستور لإحلال نظام رئاسي محل النظام البرلماني، أي بداية “الجمهورية التركية الثانية”، خلفًا لـ “الجمهورية الأولى” مع مؤسس تركيا الحديثة كمال أتاتورك، بعد ما عرفته تركيا منذ المحاولة الانقلابية في 15 تموز/ يوليو 2016 والاستفتاء الدستوري عام 2017، الذي مهّد لنقل تركيا من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي.

جرت انتخابات 2018 في أجواء من الهدوء، بحسب شهادة اللجنة الأوروبية التي تولّت مراقبة الانتخابات، كما تميّزت بكثافة التصويت التي بلغت نسبة 87 في المئة من المسجلين على اللوائح الانتخابية، وأعلن المجلس الأعلى للانتخابات، في 4 تموز/ يوليو، النتائج الرسمية للانتخابات الرئاسية، حيث أظهرت فوز أردوغان بنسبة 52.59 في المئة من الأصوات، ومرشح حزب “الشعب الجمهوري” المعارض محرم إينجه بنسبة 30.64 في المئة، فيما نال مرشح حزب “الشعوب الديمقراطي” الكردي صلاح الدين دميرطاش 8.40 في المئة.

على صعيد الانتخابات البرلمانية، يبدو أن البرلمان الجديد سيكون الأكثر تنوّعًا، من ناحية التوجهات السياسية وعدد الأحزاب، إذ دخل البرلمان خمسة أحزاب، بما يُشير إلى أن المعارضة ستكون أقوى مما كانت عليه في برلمان ما قبل الانتخابات، مع العلم أن التحالفات في الانتخابات، بالنسبة إلى الحكم والمعارضة على السواء، هي تحالفات انتخابية موقّتة أكثر من كونها توافقًا على برامج سياسية متقاربة، ما يشير إلى إمكانية أن تشهد المرحلة المقبلة تقلبات كثيرة.

النسبة التي تجاوزت الـ 45 في المئة (وتضمّ قوميين وأكرادًا وعلمانيين)، التي لم تُصوّت للرئيس أردوغان وحزبه، تعني أن ثمة انشطارًا في المجتمع التركي حول الخيارات الأساسية، ما سيجعل الرئيس يولي أهمية لتوجهات هذه القوى، فقد حقق حزب “الحركة القومية” نسبة تزيد على 11 في المئة من أصوات الناخبين، على الرغم من انشقاق ميرال آكشنر التي شكّلت “الحزب الخيّر” القومي، بحيث وصلت نسبة الحزبين معًا إلى أكثر من 21 في المئة، في حين أن التيار القومي كان هامشيًا في الحياة السياسية التركية. كذلك حصل حزب “الشعوب الديمقراطي” الكردي على أكثر من 11 في المئة، على الرغم من الظروف الصعبة التي واجهها في السنوات الأخيرة، من اعتقال رئيس الحزب وعدد من نواب الحزب، والتضييق عليه لكي يفشل في تجاوز الحاجز البرلماني (10%).

في الواقع، يرجع فوز أردوغان وحزبه إلى عوامل عديدة داخلية وخارجية، ولا شك في أن تخوّف المواطن التركي من الدخول في مرحلة من عدم الاستقرار السياسي قد تؤثر في الأوضاع الأمنية والاقتصادية في تركيا، قد كان له تأثير في نتيجة الانتخابات، كما أن الحملة الإعلامية الخارجية المضادة لأردوغان قد انعكست لمصلحته.

قدّمت الانتخابات التركية درسًا مهمًا من دروس الديمقراطية، من خلال احترام إرادة الشعوب وقبول الآخر المعارض، وهو ما تفتقده الدول العربية عمومًا، حيث قال زعيم حزب “الشعب الجمهوري” المعارض بعد خسارته، في ردٍّ له على من أراده أن يطعن في الانتخابات “إن الطعن يعني عدم احترام الديمقراطية، والطعن في إرادة الأمة، وإن لم نُهنئ الفائز فعلينا عدم المشاركة، وعلى الدول التي لا تزيد المشاركة في انتخاباتها على 30 في المئة ألا تُعطينا دروسًا في الديمقراطية، وأن تتعلم منّا، ولا تتدخل في شؤوننا، فنحن من يقرر مستقبلنا”.

الملفات المستقبلية أمام الرئيس أردوغان ليست سهلة، فالاقتصاد يلحظ تراجعًا يظهر في تراجع سعر الليرة التركية مقابل الدولار أو اليورو، كما أن ملف الأكراد يشكل نزيفًا للجهد التركي.

 

ثالثًا: السياسات الداخلية

تشهد تركيا إعادة هيكلة جديدة، حيث أعلنت أنها ستخفض المناصب الحكومية من 26 إلى 16 وزارة، مقابل الوعود بتقديم خدمات سريعة وحلول للمشكلات وزيادة في الإنتاج وتوفير في الوقت، وهو ما يُترجم النموذج الذي طرحه الرئيس أردوغان، فوفق الخبير السياسي التركي سمير صالحة في تصريح له لـ (العربي الجديد): “سيمنع الشكل الجديد للدولة والحكومة تشتت القرارات والسياسات الاقتصادية والمالية، ويحصرها تحت سقف واحد وإشراف موحد، يُحدد طريقة التعامل مع الملفات والقضايا والتطورات المتلاحقة”. ومن المهم أن يستطيع الرئيس أردوغان توظيف مواقف المعارضة في انطلاق النظام الرئاسي الجديد، لإشعار الجميع بأنهم شركاء في هذا النظام السياسي، وأن لهم مصلحة في نجاحه، وتفعيل ما قاله “لن يكون في مستقبل تركيا أي إقصاء أو إبعاد لأحد”، وهو واحد من أهم التحديات في المرحلة المقبلة.

لا شكّ في أن العامل الاقتصادي كان أحد أبرز العوامل التي دفعت باتجاه انتخابات مبكرة (من سنة 2019 إلى 2018)، لكبح التراجع السريع، الذي جرى في الأشهر الأخيرة، لناحية ارتفاع نسبة التضخم وانخفاض قيمة العملة التركية، إذ ستكون هناك حاجة إلى جذب المزيد من الاستثمارات الخارجية، حيث تشير الإحصاءات إلى انخفاضها بنسبة 22 في المئة في الأشهر الأربعة الأولى من عام 2018 مقارنة بالعام الماضي. كما أن التحدي المهم هو معالجة العجز في الموازنة، والعجز الكبير في الميزان التجاري، إضافة إلى المشكلات الهيكلية في الاقتصاد.

بقدر ما تشكل الشوفينية القومية نقطة قوة للنظام الجديد، فإنها تنطوي على نقاط ضعف كثيرة، سيكون لها تأثيرها في المديين المنظور والمتوسط، إذ إن الشوفينية القومية التركية ستقابلها شوفينية قومية كردية، وبذلك تظل تركيا منقسمة على نفسها، وبقاء المشكلة الكردية بعيدة عن حلول قريبة، على الرغم من أن دخول حزب “الشعوب الديمقراطي” الكردي إلى البرلمان بنسبة تزيد على 10 في المئة، يُشكل عنصرًا فاعلًا لجهة “رفض العسكرة” في صفوف الأكراد، وجنوحهم نحو السياسة والحوار والانتهاء من مفهوم “أتراك الجبال”، ما يتطلب التعامل معهم كقومية لها خصائصها، بإيجاد معادلة جديدة للعيش المشترك في إطار الهوية التركية الجامعة.

وطبقًا لما هو معلن، فإن تركيا الجديدة تسعى لتحقيق جملة أهداف بحلول عام 2023، الذي يوافق الذكرى المئوية الأولى لإعلان الجمهورية، لعل من أبرزها الدخول في مصاف أكبر عشر قوى اقتصادية على المستوى الدولي، ومحاولة رفع الناتج القومي من 1.6 إلى 2 تريليون دولار، على الرغم من الديون التركية العالية.

من المتوقع أن يسلك النظام الرئاسي الجديد سياسة خارجية حيوية، أكثر فعالية وأسرع استجابة للحوادث والأزمات، إلا أن المسار الذي كان قائمًا –قبل الانتخابات– سيتواصل مع بعض التعديلات، التي تعكس سياسة خارجية أكثر واقعية واستقلالية، وربما أكثر اعتمادًا على “القوة الصلبة” إذا تطلب الأمر.

 

رابعًا: السياسات الإقليمية

يبدو أن قضايا عديدة ستفرض نفسها على السياسات الإقليمية لتركيا، منها: مكافحة الإرهاب، وأمن الحدود ولا سيّما على طول الشريط الحدودي مع سورية والعراق، والعلاقات مع إيران و”إسرائيل” والعالم العربي، والمناطق المتنازع عليها خاصة في بحر إيجه مع اليونان، وأمن الطاقة في محيط قبرص وشرق البحر الأبيض المتوسط.

ستبقى العلاقة التركية – الإيرانية ملتبسة، فهي معتمدة على تبادل تجاري واسع ومصالح سياسية. الاستفادة التركية منها واضحة، إلا أن المتغيّر الجديد هو الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي مع إيران، وإعلان سياسة العقوبات، ما يضع تركيا أمام موقف صعب، بين الاستمرار في التعاطي التجاري، أو الاستجابة لمطالب أميركا، التي قررت تهدئة تركيا بإطلاق يدها في الشمال السوري، والسماح بتسليم طائرات F35. وعلى الرغم من ذلك، فإن وزير الاقتصاد التركي نهاد زيبكجي قال، في 26 حزيران/ يونيو “إن تركيا لا تعتبر نفسها ملزمة بالامتثال إلى مساعي أميركا لوقف صادرات النفط الإيرانية، وإنها ستعمل على ضمان عدم تضرر البلد الشقيق من الخطوات الأميركية”.

لا شكّ في أن العلاقة التركية – الإيرانية أكثر تعقيدًا من التبادل التجاري، فالدولتان تتشاركان مع روسيا في تدبير الوضعين العسكري والسياسي في سورية، كما أن الملف الكردي يحتم التقارب بين الطرفين، لكنّ ذلك لا يحجب حقيقة أن الخلاف بينهما قائمٌ حول عدد من القضايا الإقليمية والدولية، وأن تركيا لا تثق بالسياسة الإيرانية المزدوجة، وقد تلجأ إيران إلى عرقلة الجهد العسكري التركي في الشمال السوري والعراقي. وستبقى تركيا حريصة على التوازن بين إيران والسعودية، كما من المنتظر أن يعقّد الموقف الأميركي من إيران حسابات تركيا.

في الحصيلة، هناك مصلحة لتركيا في أي جهد يؤدي إلى تراجع دور إيران إقليميًا، وبما أنه من الصعب تحقيق ذلك ما لم تشارك تركيا في هذا الجهد، فإنها ستعمل على الحصول على مقابل لتعويض العلاقة مع إيران، فما إن تنتهي المصلحة التكتيكية التي تجمع الطرفين حتى يعود الخلاف إلى البروز مجددًا.

في ظل الحديث المتواتر عن “صفقة القرن” من المتوقع أن تشهد العلاقات التركية – الإسرائيلية توترًا، خاصة أن موضوع “القدس” من الموضوعات المهمة في السياسة الخارجية التركية، وهو الموضوع الذي حصل إجماع تركي عليه في أثناء الانتخابات. وفي هذا السياق، يبدو أن السياسة الخارجية التركية سوف تستمر في دعم الحقوق الفلسطينية. خاصة أن الصحافة الإسرائيلية تحدثت عن “هتلر تركي” جديد، وبشّرت الإسرائيليين بأن العلاقات مع تركيا لن تعود إلى سابق عهدها، وربما لن تستمر هذه المبالغة في التوتر بين الطرفين في ضوء التحولات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط.

من المستبعد أن تنال سياسات تركيا الداعمة لـ “الإسلام السياسي” الرضى الرسمي العربي، ويبدو أن هذا الملف سيتحكم في العلاقات التركية – العربية. كما أن تأمين حدود تركيا من “الإرهاب”، مع سورية والعراق، سيبقى من أولويات السياسات الإقليمية لتركيا، إذ ستستمر العملية العسكرية الموجهة ضد حزب “العمال الكردستاني PKK” في شمال العراق، وكذلك الأمر في ما يتعلق بوجود ميليشيات “قوات سورية الديمقراطية PYD” في شمال سورية، إما من خلال عمليات عسكرية، كما جرى في عمليتي “درع الفرات” و”غصن الزيتون”، وإما من خلال تفاهمات مع الروس والأميركيين.

لكن، ستكون هناك تحديات متزايدة في سورية والعراق، في ضوء تعزيز نظام الأسد وحلفائه لسيطرتهم على المزيد من المناطق السورية، وقرب تأليف الحكومة العراقية. وهو ما يعني أن السياسات التركية ستكون في حاجة إلى توظيف قدرات اللاعبين الإقليميين والدوليين هناك، لتحقيق المصالح التركية في هذين البلدين، أو حتى لا تتناقض معها على الأقل.

من جهة أخرى، فإن نجاح التجربة التركية، في ظل الأزمات العديدة للدول العربية، سوف يكون له تأثير إيجابي على الشعوب العربية. ولكن طريق تركيا إلى ما سبق ليس سهلًا، في منطقة مضطربة، حيث التطورات في سورية والعراق، وحيث المسعى الأميركي لتسويق “صفقة القرن” لتكون “إسرائيل” الدولة المهيمنة في الشرق الأوسط، وحيث المسعى الروسي لإبعاد تركيا عن الحلف الأطلسي، وحيث أوروبا لا تفتح لها باب العضوية في الاتحاد الأوروبي، وحيث النزاعات –الراكدة حاليًا– مع أرمينيا واليونان وقبرص، ما يفرض على صانع السياسات التركية حسم خياراته بين واشنطن وموسكو، وهو ما ستكون له آثاره المباشرة في السياسات الإقليمية والدولية لتركيا.

 

خامسًا: السياسات الدولية

حظيت الانتخابات التركية باهتمام دولي واسع، في أميركا وروسيا وأوروبا ودول حلف شمال الأطلسي، ما يطرح تحديات أساسية على السياسات الدولية في حقبة نظام ما بعد الانتخابات التركية، تقتضي تحقيق قدر أكبر من التوازن في العلاقة مع الفاعلين الدوليين، فبعد اتفاق “منبج” بين أميركا وتركيا، وفي ظل تعيين السفير الجديد ديفيد ساترفيلد، لا يُستبعد أن تُبذل محاولات لإعادة العلاقات التركية – الأميركية إلى سابق عهدها، بما يعيد خلط الأوراق في المنطقة.

الورقة القوية في يد صانع قرار السياسة الخارجية التركية هي التلويح بانتقاله إلى الطرف الروسي – الصيني – الإيراني، بما يساعد على تغيير موازين القوى في المنطقة والعالم في غير مصلحة الغرب، لكنه لن يستخدم هذه الورقة بل سيكتفي بابتزاز أميركا وأوروبا، لأنه يخشى من حصار اقتصادي، خاصة أن الاقتصاد التركي شديد الارتباط بالاقتصاد الغربي عمومًا. وربما هواجسه من محاولة الانقلاب عليه ستجعله يتردد في العودة إلى أحضان الغرب، خاصة مع الامتناع الأميركي عن تسليم فتح الله غولن، المتهم بتزعم المحاولة الانقلابية الفاشلة عام 2016، واحتجاز السلطات التركية للقس الأميركي أندرو برونسون لحين تسلّمها غولن، وقد يتصاعد الخلاف بين الطرفين إذا اتجهت تركيا إلى استبدال صفقة طائرات F35 الأميركية بصفقة بديلة من طائرات SO57 الروسية، بما يجسد تحالف تركيا مع روسيا.

بحكم أن تركيا اعتادت على ممارسة “ازدواجية” العلاقات، على المستويين الإقليمي والدولي، لتحصل على المكاسب من أكثر من طرف، فإنها ستجد نفسها مضطرة إلى حسم خياراتها بين روسيا والغرب. ومن المرجح أن يكون تقاربها مع روسيا موقّتًا، تفرضه الأوضاع في سورية، وربما لن تُخاطر تركيا بتحالفها التاريخي مع الغرب لمصلحة علاقات طارئة واضطرارية، ولا شك في أن صانع القرار التركي سيبحث عن المزيد من المصالح مع روسيا، في حال ابتعاد أميركا وأوروبا عن المصالح التركية، وبقدر ما يوفر مثل هذا الخيار حلولًا لتركيا، بقدر ما يُعرّضها لخطر الاعتماد المتزايد على روسيا. ولذلك، فإن أولوية تركيا – في المرحلة المقبلة – ستكون محاولة تحقيق التوازن في هذه العلاقات المتعددة الأطراف.

مع أوروبا، من المتوقع تراجع حماس تركيا للعضوية في الاتحاد الأوروبي مرحليًا، مع التركيز على تحرر الأتراك من “فيزا شينغن” وتعزيز التعاون الاقتصادي. فعلى الرغم من توتر العلاقات الأوروبية – التركية، في السنوات الأخيرة، فإن الإدارة التركية الجديدة ستستمر في سعيها للحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي، وقد أكد الرئيس أردوغان ذلك قبل ترشحه، ومن المتوقع أن يؤكد على ذلك في الفترة المقبلة، بعد تحييد الانتقادات الأوروبية المتزايدة حول حقوق الإنسان، من خلال رفع حالة الطوارئ المعلنة منذ محاولة الانقلاب العسكري عام 2016.

كذلك من المتوقع أن تستقر العلاقة الأوروبية – التركية، بل أن تصبح أفضل في المرحلة المقبلة، مع تسليم أوروبا بالأمر الواقع، بعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية، ويبدو أن ألمانيا وبريطانيا تدفعان في اتجاه علاقات أفضل وأعمق، ويبقى التساؤل عن مدى الاقتراب الفرنسي من هذا الميل، خاصة في ضوء الدور الفرنسي في منطقة الشرق الأوسط، ولا سيّما في سورية.

 

سادسًا: تداعيات الانتخابات على المسألة السورية

من أهم النتائج المباشرة للانتخابات التركية تبدّد تخوّف اللاجئين السوريين، بعد أن جعلت أحزاب المعارضة من بقائهم في تركيا مادة لدعايتها الانتخابية، بل إن الأمر مع هذه الأحزاب يتجاوز –في بعده السياسي– قضية وجود أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ، إلى موقفها الإيجابي من رأس النظام السوري.

من الملاحظ أن صحيفة “نيزافيسيمايا غازيتا” الروسية، اعتبرت، في مقال بعنوان “إعادة انتخاب أردوغان تصبح اختبارًا للكرملين”، في 27 حزيران/ يونيو، لأنها ستضع “مشكلات كبيرة أمام القيادة الروسية في ظل وعوده بمواصلة العمليات العسكرية في سورية، وقد تشكل ضربة للمشاريع الجيو–سياسية والاقتصادية للكرملين في الشرق الأوسط بسبب سياسة أنقرة”، ووصفت تفاؤل السياسيين الروس بأنه “غير مبرر” في ظل التطور المتسارع للحوادث في سورية واستياء أنقرة من موسكو، وتصريحات وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو بأنه “لن تكون هناك جدوى من محادثات أستانا والتعاون مع روسيا في حال استمرار الهجمات على إدلب”.

في الواقع، تتصرف تركيا في سورية بدلالة مصالح أمنها القومي، ومن هنا فهي ترى أن مشاركتها في أستانا مهدت لها الطريق للسيطرة على إدلب وعفرين، ما يتيح لها وضعًا متميّزًا في أي تسوية لاحقة في سورية، وقد يتمكن النظام الرئاسي الجديد من تسريع تأسيس “منطقة آمنة” يصبو إليها في المناطق السورية الحدودية المحاذية لحدوده، ما يكفل لتركيا إعادة عدد واسع من اللاجئين، وتأسيس معادلة سياسية وأمنية، تضمن لها وقاية حدودها مع سورية، ومن ثمّ أمنها القومي على صعيد استراتيجي.

 

سابعًا: خاتمة

لقد طوت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية صفحة من نظام برلماني، عرفته تركيا منذ نحو 100 سنة، لتبدأ مرحلة جديدة، تنطوي على إمكانية إعادة تشكيل السياسات التركية. على العموم، إن نجاح أردوغان لا يتمثل في فوزه في الانتخابات الرئاسية، وفوز حزبه وحلفائه في الانتخابات البرلمانية فحسب، وإنما في تكريس قيم ديمقراطية تكون فيها منافسة حقيقية.

لا شكّ في أن موقع تركيا الاستراتيجي المهم، ووزنها الاقتصادي والسكاني، وتشابك مصالحها مع القوى الإقليمية والدولية، والدور المهم الذي تقوم به فعلًا في المنطقة، فضلًا عن سياسة أردوغان البراغماتية، يتيح لها إحداث تغييرات مهمة في سياساتها، وفي المنطقة.