المحتويات

أولًا: مقدمة

ثانيًا: شكوك

ثالثًا: الحياد المر

رابعًا: النظام و”الأقليات”

خامسًا: الصيد في الماء العكر

سادسًا: خطاب جامع من جديد

سابعًا: خاتمة

 

 

 

أولًا: مقدمة

بعد أن تراجعت قوته وانكسرت شوكته في مناطق نفوذه في سورية والعراق، عاد (تنظيم الدولة الإسلامية – داعش) بشكل مفاجئ وقوي ليضرب ضربات موجعة في واحدة من أكثر المناطق السورية هدوءًا وحيادًا، وأعاد صعود نجمه المفاجئ، خلط الأوراق في الساحة السورية.

في 25 تموز/ يوليو 2018، قضى نحو 250 مواطنًا سوريًا، أغلبيتهم من المدنيين، نتيجة سلسلة تفجيرات انتحارية استهدفت أسواقًا ومناطق ذات كثافة بشرية كبيرة في محافظة السويداء جنوب سورية، قام بها مقاتلون تابعون لـ (تنظيم الدولة الإسلامية – داعش)، وأتت هذه الهجمات المباغتة بعد أسابيع من توقيع الروس لاتفاقيات تسوية مع فصائل المعارضة المسلحة في درعا، الجارة الغربية للسويداء، بعد حملة حربية قاسية ضدهم من قبل النظام السوري شارك فيها سلاح الجو الروسي ومقاتلون موالون لإيران.

خلال هجمات (داعش) على قرى السويداء، قصف طيران النظام عدة مرات خط الاشتباك مع التنظيم من دون تأثير يُذكر، فيما لم يرسل أي قوات بسلاح نوعي قادر على تغيير مسار المعركة، وحاولت مجموعات محلية من أبناء السويداء وريفها التصدي لهجمات التنظيم وحدها، واستطاعت بعد جهد ردّهم إلى معاقلهم في البادية.

قبل هذه الحادثة بشهرين، وتحديدًا في 20 أيار/ مايو 2018، انتقل نحو 1600 مقاتل من (داعش) من جنوب دمشق إلى شرقي السويداء بموجب اتفاق مع ممثلين عن النظام السوري وإيرانيين وتنظيمات فلسطينية محلية في مخيم اليرموك، تمّ برعاية روسية، وانضموا إلى بضع مئات من مقاتلي التنظيم كانوا موزعين في شرق السويداء، ما عزّز قوة التنظيم في تلك المنطقة تحت أعين الروس وبرضاهم، وأثار هذا الاتفاق مخاوف كبيرة، خاصة أن تفاصيله أُحيطت بسرية من كل الأطراف، بمن فيهم الروس.

 

ثانيًا: شكوك

لم يتأخر تنظيم الدولة الإسلامية في تبني هجمات السويداء، وعلى الرغم من أن بصمات هذا التنظيم بادية على هذه الهجمات استنادًا إلى طريقة تنفيذها وقوتها وحجم خسائرها البشرية وتوقيتها، لكن ذلك لم يمنع الشكوك من أن تحوم حول وجود دور للنظام السوري وحليفه الإيراني خصوصًا، بل وربما حليفه الروسي.

حامت الشكوك حول النظام السوري لأنه نقل في أواخر أيار/ مايو الماضي المئات من مقاتلي (داعش) من جنوب دمشق إلى محيط السويداء، وبعد سيطرة النظام على معظم محافظة درعا وريفها في تموز/ يوليو الماضي، فاوض (جيش خالد بن الوليد) المبايع لـ (داعش) على الخروج من منطقة حوض اليرموك في ريف درعا الغربي إلى شرق السويداء، ما جعل التنظيم يقوى في هذه المنطقة برضى وموافقة النظام.

كذلك، وفي تفصيل الحدث، وعلى الرغم من أن التنظيم قد هاجم بعض حواجز النظام في طريقه إلى السويداء، إلا أن هذه القوات تجاهلت إلى حد كبير هذا التقدّم، وتساهلت إلى حد بعيد مع دخول مسلحي التنظيم إلى بعض القرى لارتكاب مجازر، خاصة بعد أن سحب جزءًا مهمًا من قواته العسكرية من بادية السويداء إلى محيط ريف درعا الشرقي خلال معاركه للسيطرة على درعا.

كذلك، لا يجب نسيان وجود رغبة انتقامية للنظام من أهالي السويداء بسبب رفض أغلبية مشايخ الدروز تطويع أبناء الطائفة للقتال في صفوف القوات النظامية، (يُقدّر عدد المنشقين والمتخلفين عن الخدمتين الإلزامية والاحتياطية الآن نحو اثنين وخمسين ألفًا)، لكن السويداء لم تكن قبل ذلك الوقت ضمن أولويات النظام السوري، فتركها هادئة نسبيًا مقارنة ببقية المناطق السورية التي حوّلها إلى ساحات حرب، واكتفى بوضع نقاط تفتيش عند مداخلها، ابتزت السكان وروّعتهم، من أجل تذكير الجميع أنه باق وسيتمدد يومًا ما.

كذلك حامت الشكوك حول روسيا، لأن وفدها الرسمي فشل أواخر حزيران/ يونيو الماضي في إقناع وجهاء محافظة السويداء بالعودة إلى حضن النظام، ولوّح بإمكانية استخدام القوة لإلحاق أبناء المحافظة بالخدمة العسكرية ضمن تنظيمات عسكرية جديدة يُشرف عليها الروس. كما واجه الروس رفضًا وانتقادًا من أبناء السويداء لمعركة درعا الأخيرة، ووصفت مجموعة (قوات شيخ الكرامة) الوجود الروسي في سورية بأنه احتلال، الأمر الذي أزعج الروس كثيرًا، ما دفعهم إلى تصنيف المجموعة كمنظمة إرهابية ينبغي نزع سلاحها، وهناك من يرى أن هجوم (داعش) بهذه الطريقة هو عقوبة ودرس روسي لكل من يتمرد.

يُضاف إلى هذه الشكوك أيضًا أن زيارة الوفود الرسمية الروسية من مركز التنسيق الروسي في المنطقة الجنوبية المرتبط بـ “حميميم” لم تنقطع إلى السويداء منذ عام 2016، حيث كانت تتغنى وسائل الإعلام بـ “الدور الروسي المهم في مواجهة الإرهاب”، وكانت تهدف روسيا من وراء تلك الزيارات إلى خلق “إلفة” مع السكان، تُمهّد لقبول القوات الروسية لاحقًا كقوة على الأرض، ومن هذا المنطلق، يمكن فهم أن أي عملية دموية يقوم بها (تنظيم الدولة الإسلامية) ستؤدي إلى تسريع “ارتماء” أهالي السويداء في الحضن الروسي، وهو ما ترغب فيه موسكو.

أما على مستوى الشكوك التي حامت حول إيران فهي جدّية ومُقنعة، فهي في الأصل تُحاول الوصول إلى الهدف الروسي نفسه، أي الاندماج مع المجتمع المحلي والتأكيد له أن الميليشيات غير النظامية المنتشرة في المدينة، والتي من بينها ميليشيات موالية لإيران، لبنانية وعراقية، هي أساسية لحماية المدينة، وأي تخلّي عنها سيهدد أهالي السويداء ويعرضهم لخطر كبير.

وهنا يمكن تذكّر تهديدات طهران الدائمة بأن الإرهاب سيعود إلى سورية إذا خرجت قواتها، وربما يكون الحل في فتح الطريق أمام (داعش) للدخول إلى قرى وريف السويداء وارتكاب مجزرة يتردّد صداها في كل أنحاء العالم، وهذا الهجوم يُتيح لإيران الهروب من الضغوط الروسية، وحتى الأميركية والغربية، التي تريد خروج القوات الإيرانية من سورية.

أما تنظيم (داعش)، الذي لبسته التهمة، وتبناها علانية، فهو يسعى من دون شك لأن تكون رسالته ثلاثية الأهداف، أولها أنه ما زال موجودًا بقوة على الرغم من الهزائم المتلاحقة في أغلب المناطق السورية، وفقدانه لنحو ربع مساحة سورية التي كان يُسيطر عليها قبل سنوات، وأنه قادر على الأذى وقلب الموازين وإعلان الحرب وبث الرعب في أي منطقة يريد من سورية، واختار هنا منطقة مستقرة نوعًا ما لأنه يتوقع أن لا يواجه مقاومة ذات معنى فيها.

ثاني أهداف رسالة التنظيم إفساد العلاقة بين أهالي السويداء والنظام، وإحداث إرباك بينهما، على أمل أن يدفعهم ذلك للتسلح ضد النظام، فبيئة العسكرة بيئة تواتي التنظيم الإرهابي والنظام والميليشيات الإيرانية، وهو قادر على استغلالها في حربه.

ثالث الأهداف تذكيره للسوريين بأنه تنظيم متشدِّد طائفي، لن يقبل بأن تعيش “أقلية” في أمان وسلام، ولن يسمح لأي أقلية أن تُفكر في إقامة ما يشبه الكانتون المستقل، وعلى جميع الأقليات الاستسلام له.

لكن هذه الحمولات غير كافية ولا مُقنعة ليشن التنظيم هجمات دموية تودي بحياة المئات في هذه المنطقة وفي هذا التوقيت، خاصة أن ألفي مقاتل للتنظيم يقابلهم نحو 50 ألف حامل للسلاح من أبناء السويداء، ما يُدعّم فكرة اختلاط المصالح وتقاطعها، وتقاسم المهام بين مخطط ومُنفّذ ومستفيد، وفهم حركة (داعش) شرق السويداء كأداة لمحرك دولي أو إقليمي.

مع هذا، ولو افترضنا أن (داعش) قد شنّ هجماته على السويداء بقرار ذاتي مستقل، فإن ذلك لا يعفي النظام السوري من مسؤوليته غير المباشرة عن الهجوم، نتيجة تراخيه وسماحه بتسرب عناصره إلى السويداء، بل ووفّر له إمكانية التمدّد والتحرّك والانتشار، وربما كان يكفي تثبيت نقاط عسكرية مدعومة بدبابات وسلاح ثقيل على تخوم السويداء الشرقية لتجنب المذبحة أو لتخفيف عدد ضحاياها.

كثيرًا ما استفاد النظام من وجود (داعش) كتنظيم متعدد الاستعمالات، سواء في تبرير حربه ضد المعارضة المسلحة (السنّية)، أو في الترويج لنفسه في الغرب كنظام مستهدف من التنظيمات الإرهابية، وكحامٍ للأقليات، أو في فرض نفسه عليه كـ “أفضل السيئين”، وتحوّل الأولوية الدولية من إطاحة الأسد إلى القضاء على الإرهاب في سورية.

 

ثالثًا: الحياد المر

الأغلبية العظمى من سكّان محافظة السويداء هم من الموحدين الدروز، الذين اتّخذوا موقفًا حياديًا إيجابيًا طوال السنوات الثمانية الماضية، وطوال سبع سنوات كان لدى أغلبية رجال دينهم علاقات طيّبة مع النظام، ولدى الأهالي تأييد ضمني، ولدى النخب تأييد علني للمعارضة السورية، الأمر الذي جنّب المحافظة ويلات الحرب التي عمّت على كل المناطق الحاضنة للمعارضة والرافضة لسلطة النظام، لكنّ هذا الحياد لم يُفد على ما يبدو أهالي المحافظة.

منذ انطلاق الثورة السورية عام 2011، حرص أهالي السويداء على أن تبقى مدينتهم حيادية، بعيدة عن زخم الثورة والتظاهرات في البداية، ثم بعيدة عن مآسي الحرب ونتائجها الكارثية في مرحلة لاحقة، وحافظ رجال الدين فيها (بشكل عام) على ولاء مقبول للنظام السوري، وظلّت مؤسساته الأمنية والعسكرية تعمل بشكل طبيعي في المدينة، فيما نأى أغلبية الأهالي بالنفس عن الانخراط في الثورة لأسباب لم تُقنع السوريين المعارضين للنظام.

ارتهان الكثير من رجال الدين الدروز للنظام، لم يمنع أن يكون بينهم رجال أشداء ناهضوه، لكنّه لم يلبث أن تخلّص منهم بشكل غير مباشر، من أبرزهم الشيخ وحيد البلعوس، الذي انفجرت سيارتان ملغومتان في موكبه في 4 أيلول/ سبتمبر 2015، وأدتا إلى مقتله و28 من مرافقيه ومواليه.

يُعدّ الشيخ البلعوس -صاحب الكلمة الشهيرة “كرامتنا أغلى من بشار الأسد”- من أبرز الزعماء المُستقلين في الطائفة الدرزية في سورية، وهو يختلف عن غيره من القيادات التقليدية بأنه لم يُعيَّن من قبل نظام الأسد، وكانت مواقفه معارضة للنظام، وأسس وترأس ميليشيا (رجال الكرامة) التي كانت تُدافع عن جبل العرب، وتضم بضعة آلاف من المُقاتلين.

عارض البلعوس التحاق أبناء الطائفة الدرزية بالخدمة العسكرية الإلزامية مع قوات النظام، حيث كان النظام يُلحق المطلوبين للخدمة العسكرية الإلزامية بقواته المسلحة ويزجهم في أتون حربه، وحمى البلعوس نحو 27 ألف شاب من السويداء فرّوا من الخدمة العسكرية، ما دفع في تلك المرحلة النظام السوري للتهديد بسحب قواته من الجبل وتسليمه إلى تنظيم (داعش) الموجود في الشرق ليعيث به خرابًا.

كان من المتوقع أن يكون اغتيال الشيخ البلعوس علامة فارقة في العلاقة بين أهالي السويداء والنظام السوري، لكن وعلى الرغم من خروج بعض التظاهرات المنددة بالاغتيال، وتحطيم تمثال رأس النظام السوري السابق حافظ الأسد، إلا أنه سرعان ما عاد الهدوء إلى المحافظة، حيث احتوى رجال الدين المواطنين، وحذروا من مغبّة الانحياز للثورة وخاصة المسلحة منها، وانتهت الفورة وصمتت الأصوات المُطالبة بالثأر لمقتل البلعوس، بل وضعفت ظاهرة الشيخ البلعوس إلى حد بعيد، فلم يعد السوريون يسمعون أصواتًا وازنة معارضة للنظام السوري من السويداء، وزادت وتيرة التحاق الشبان بميليشيات الأسد مختلفة التسميات، على الرغم من أن شريحة من المثقفين من أهالي السويداء ظلّوا على ولائهم للثورة ومبادئها، لكن أصواتهم كانت أخفض أو أضعف من أن تُسمع.

فضّل أهالي السويداء البقاء على الحياد الإيجابي، بذريعة تفادي انتقام النظام، وبرر البعض هذا الحياد بأنه وسيلة لإبقاء المحافظة آمنة وبعيدة عن الحرب وقادرة على استقبال المُهجّرين والهاربين من المدن التي دمّرها النظام، فيما برر رهط من أهالي السويداء حيادهم متذرعين بضرورة الحذر من المعارضة السورية التي اتهموها بأنها طائفية، على الرغم من أن السويداء لم تشهد أي حوادث طائفية أو هجمات انتقامية من فصائل المعارضة المسلحة المسيطرة على درعا، والتي لها جميعها لمسة دينية سنّية، ما أفرغ ذرائع هذه الشرائح من صدقيتها وكشف بعض الأمراض الطائفية والمناطقية المُعششة لدى بعض الشرائح المخدوعة بالنظام، والتي أعادها النظام خلال خمس عقود إلى مفاهيم ما قبل الدولة الوطنية.

 

رابعًا: النظام و”الأقليات”

أرجع البعض قرب أهالي السويداء من النظام السوري خلال سنوات الثورة إلى العلاقة الوثيقة التي ربطتهم منذ عقود بالنظام الذي روّج لنفسه بوصفه حاميًا للأقليات الدينية، وروّج للمخاطر التي تواجه الأقليات من المكوّن السنّي، كما سوّق بعد الثورة لمخاطر تُهدد الدروز كأقلية “مُستهدفة” في بلد لا وجود فيه للأسد، وعلى الرغم من أن النظام لم يمنح أهالي السويداء جزءًا مما منحه لمواليه من العلويين، إلا أن العلاقة التي سعى لها – في واقع الأمر – صارت أقرب ما تكون إلى “تحالف أقليات” لا أكثر.

ساهمت (جبهة النصرة)، التي تشك المعارضة السورية في ارتباطها بالنظام، وكذلك (تنظيم الدولة الإسلامية – داعش) المشبوه بارتباطاته وأجنداته، في تعميق مخاوف أهالي السويداء، واستشعر النظام السوري هذا الخوف فغذّاه، عبر إرعاب الأهالي، سواء بافتعال حوادث قتل لا مبرر سياسيًا ولا عسكريًا لها، بعضها جنائي قامت بها بعض الجماعات المسلحة المنفلتة قصيرة النظر، استهدفت بعضًا من سكان الجبل، أو عبر تسهيل هجمات بسيطة لـ (داعش) على بعض القرى، كل هذا دفع جزءًا مُهمًّا من سكان المحافظة إما نحو الولاء للنظام أو البقاء في موقف الحياد خلافًا للكثير من مناطق سورية.

في بداية الثورة اتّبع النظام السوري استراتيجية واضحة جليّة، تتمثل ببث الفرقة بين الطوائف من جهة، وإرعاب الأقليات من جهة ثانية؛ فقد أقنع النظام العلويين بأنه حامي حماهم، وأن سنّة سورية يسعون للانتقام، ونَبَش مخاوفهم التاريخية من السنّة. كذلك، قام بحملات إعلامية مكثّفة، بالتعاون مع الإكليروس المسيحي في سورية، لإقناع المسيحيين بأنهم مهدّدون، وأن التنظيمات السلفية تريد إخلاء سورية والمشرق منهم بالعنف والقوة والقتل، ما دفع شرائح واسعة منهم لتصديق هذا “البخ” الإعلامي واقترابهم أكثر من النظام، ورفع مستوى الكره للأغلبية السنّية بشكل عام. وعلى صعيد الدروز، عمل النظام على إثارة الخوف من التكفيريين والجهاديين، ثم إثارة الخوف من فصائل جنوب سورية المعارضة المسلحة، ومن أهالي (درعا)، ثم من البدو وغير ذلك.

في المقابل، لم تُعط المعارضة السورية السياسية كثير أهمية لمسألة الأقليات والاختلافات الدينية والمذهبية والطائفية، واعتمدت على سياسة رد الفعل، وعلى تطمينات على المستوى الشعبي لم ترتق إلى برامج سياسية واضحة، وساهم تسليح الثورة في تثبيت هذه المخاوف، فزاد ابتعاد الأقليات عن الثورة، وتوسّع الشرخ الذي أراده النظام بين فئات الشعب.

أثار النظام السوري في أهالي السويداء خوفهم التاريخي من الآخر، ونجح في منع السويداء من الانضمام إلى الثورة، ونجح في أن يضم شريحة من شباب السويداء إلى ميليشياته، سواء أكان في السويداء أم في ريف دمشق أم في بعض المناطق السورية التي يتركّز فيها الدروز، بالترغيب والترهيب، وتفرغ لمواجهة المعارضة السورية المسلحة في الجبهات المشتعلة، وترك لتلك المنطقة حرية إدارة شؤونها (ظاهرة رجال الكرامة) بشكل موقّت ومرحلي.

في هذا الصدد، من المفيد محاكاة سيناريو هجمات السويداء، مع سيناريو هجمات سابقة حدثت ضد مناطق تقطنها أقليات، كالقريتين جنوب شرقي حمص، والسلمية في ريف حماة الشرقي، حيث التطابق والتشابه كبير جدًا، بدءًا من حصول تسهيلات لوجستية لتمركز (داعش) في محيط هذه المناطق،  واستطلاعه المنطقة على مرأى من النظام، ورسم خططه بهدوء وراحة وخلال فترة زمنية طويلة، ثم مهاجمته فجرًا المدن بعد أن تُفتح له الطرق وتُقطع الكهرباء والاتصالات، ويقع عدد كبير من الضحايا، لتنتهي “المسرحية” بتدخّل “إنقاذي” صباحًا من قبل قوات النظام بعد أن تكون المجزرة قد حصلت، ثم مساومة السكان للحصول على ولاء مُطلق للنظام والسماح لقواته بالتغلغل والاستقرار في المنطقة.

لم يقبل النظام السوري أن تنضم أي “أقلية” للثورة، بل حتى لم يُعجبه حيادها، فعاقب من فعل بطرائق متشابهة، أهمها سلاح التخويف والتفجيرات المحلية وتحريك أحجاره (الداعشية)، شاركته إيران في النهج نفسه، وصمتت روسيا عنه، وظل في الوقت نفسه يُتاجر بادعاء حماية الأقليات كسياسية رابحة خاصة مع الخارج وفي الإعلام، لكنّه كان عمليًا يسعى لتعريضها للمخاطر من أجل أن يتدخّل لـ “إنقاذها” ثم إقناعها أو إلزامها قبول شروط حمايته.

 

خامسًا: الصيد في الماء العكر

وسط هذه المعمعة والحزن ورائحة الدم، كان هناك من أراد أن يصيد في الماء العكر، لكن وعي أهالي السويداء الوطني، بعيدًا عن تصنيفهم كموالاة أو معارضة، وضع حدًا لهؤلاء، على الأقل بشكل مرحلي.

في بيان إلى الرأي العام، بخصوص المجزرة التي تعرض لها أهالي السويداء، أصدرته الهيئة التنفيذية لـ “مجلس سورية الديمقراطية”، التابع لـ “حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي”، حاول التركيز على “درزّية” أهالي السويداء قبل سوريتهم، وحرف الحقيقة بما يفيد توجّه هذا الحزب “الانفصالي” الذي يسعى لتقسيم السوريين بناء على الدين والإثنية والقومية.

بعد أن أعلنوا تضامنهم مع “شعب” السويداء، قال “مجلس سورية الديمقراطية” إن الإرهاب “موجه بالأساس لمحو ثقافة الموحدين الدروز التي تتميز بها السويداء وتساهم في إغناء الثقافة السورية ذات التنوع والتعدد القومي والديني والطائفي، وأن آلة الموت الداعشي السوداء تعبّر عن نفسها فقط ولا علاقة لها بأي دين؛ فلها العلاقة بمن يستفيد من بقاء مثل هذه التنظيمات الإرهابية من ترسيخ لسطوة الاستبداد في فرض نمط معيّن على عموم شعب سورية المعروف بثقافاته المتنوعة، وأنها تذكرنا بما فعله هذا الإرهاب بأهلنا من المكون الايزيدي في سنجار، وأيضًا قبل سنتين من اليوم نفسه في مدينة القامشلي”. فيما أعلن قائد “الوحدات” الكردية عن استعداد قواته للتوجه إلى السويداء للمشاركة في طرد تنظيم (داعش) منها، ولحماية أهلها الدروز.

كان البيان كمن يدسّ السم في العسل، إذ لم يفهم أهالي السويداء ماذا يعني “شعب السويداء”، خاصة أن السوريين على اختلاف أيديولوجياتهم وانتماءاتهم السياسية لم يتعاملوا مع السوريين إلا كشعب واحد، ولم يُقسّموا السوريين إلى شعب حلب أو شعب دمشق. وعلى الرغم من الحرب الطاحنة، كان هناك دائمًا “الشعب السوري”، وهناك أهالي حلب والسويداء أو سكانها، خاصة أنه يوجد في السويداء عدد غير قليل من المسيحيين والمسلمين السنّة، وكذلك الدروز موجودون في كل بقعة في سورية، وهم سوريون قبل أي شيء آخر، والحملة الداعشية ليست “ضد الثقافة الدرزية” بل “ضد الثقافة الوطنية السورية”. لقد حاول هذا البيان أن يُفتت الشعب السوري إلى شعوب والدولة إلى دويلات، لكنه لاقى استياء كبيرًا بين أهالي السويداء.

 

سادسًا: خطاب جامع من جديد

في مراسم دفن ضحايا المجزرة والعزاء، طرد أهالي السويداء ممثلي النظام ورفضوا مشاركتهم، واتهموا نظامهم علانية بالمسؤولية عنها، كما أصدرت شخصيات من السويداء بيانًا أكّدت فيه على المسؤولية الكاملة للنظام عن هذه المجزرة، وتصاعد لدى شريحة منهم الشعور بالخطأ القاتل الذي يمكن أن ينجم عن الثقة بالنظام السوري، وأعاد بعضًا من الأمل أن يصبح حياد أهالي السويداء حيادًا إيجابيًا يميل إلى مصلحة مبادئ الثورة لا إلى النظام السوري.

تسببت هذه المجزرة بموجة تضامن واسعة بين جميع السوريين، على اختلاف توجهاتهم وأديانهم وأيديولوجياتهم، مع أهالي السويداء، وسُمعت شعارات مثل “الشعب السوري واحد” من جديد، وتعاطفت وسائل الإعلام المعارِضة معهم بأعلى المستويات، وتناسى المعارضون للنظام حياد معظم أهالي السويداء أو رمادية مواقف أغلبيتهم خلال سنوات الثورة، واعتبر هذا مؤشرًا إيجابيًا من وجهة نُظر عودة الخطاب السوري الجامع والحس الوطني العام.

هزّت المجزرة الوجدان السوري العام كثيرًا، على مستوى سورية كلّها، وطالب السوريون النظام بتقديم تبرير واضح حول سبب تجميع “الدواعش” في شرق السويداء، وعدم تأمين الحماية اللازمة للمدينة من هذا الجانب، وشدّدوا على أن الحادثة تهدف إلى ضرب النسيج المجتمعي السوري من الداخل، وحذّروا من أن هذه المجزرة تهدف إلى خلق شرخ سنّي – درزي قد لا تزول آثاره خلال عقود، وشددوا على ضرورة فضح “حامي الأقليات” ودعم أهالي السويداء في مأساتهم الإنسانية.

على الرغم من حياديتهم، لم ينجرّ أهالي السويداء طوال سبع سنوات إلى لعبة النظام، ولم يغلطوا ويدخلوا دوامة الأحقاد وزرع الكراهية بينهم وبين بقية السوريين، ولم يتباهوا مرّة بأنهم يدعمون نظامًا استبداديًا شموليًا، ورفضوا إرسال أولادهم إلى حرب النظام ليقتلوا السوريين أو يُقتلوا، وهذا في حد ذاته أمر يفيد انتشار ونمو الخطاب الوطني الجامع.

لا يستطيع النظام السوري العيش وسط وحدة مجتمعية وطنية سورية، ولهذا حارب بعنف ثورة مدنية ديمقراطية، كما حارب بقوة كل دعاة الخطاب الجامع اللا طائفي، والثائرين السلميين حاملي شعار “الشعب السوري واحد”، ولجأ إلى تمزيق المجتمع السوري، مذهبيًا ودينًا وقوميًا. وأخاف الطوائف والإثنيات والمذاهب؛ فالخطاب الوطني الجامع هو عدو سلطة القمع والاستبداد والفساد.

على صعيد آخر، تصاعد الشعور بالخطر والحاجة إلى الحماية بين أهالي السويداء، وربما انتهت إمكانية سحب السلاح من بين أيدي المدنيين، وصارت العملية محاطة بتعقيدات وحسابات لا يمكن حلّها بسهولة، وأدّت إلى عكس ما يريده من خطّط للمجزرة، سواء أكان (داعش) أو النظام أو حلفاؤه.

المشكلة التي برزت نتيجة هذه المجزرة أنها شرّعت الميليشيات التي أنشأها أهالي السويداء، ومنحتهم شرعية وقوة وسببًا للبقاء والتقوية والتوسع، وغيّرت النظرة السلبية التي بدأت تنتشر بشكل متصاعد بين أهالي السويداء تجاه هذه الميليشيات التي ضاعت بوصلتها وصارت تُشارك النظام بعض جرائمه وفساده واقتصاد حربه، ومن الخطر ارتفاع أسهم خطاب العنف والقوة والسلاح في وقت خبر فيه السوريون أن القوة والتسلّح لن يُثمر نفعًا مع نظام له من الحلفاء الشرسين أكثر بكثير مما لدى أي طرف سوري آخر.

 

سابعًا: خاتمة

مجزرة السويداء الأخيرة ليست بالضرورة الأخيرة طالما استمر النظام السوري وحليفاه الإيراني والروسي في سياساتهم نفسها، وطالما استمرت العلاقة والاتفاقيات غامضة بينهم وبين التنظيمات الجهادية الإرهابية كتنظيم (داعش)، ويبقى الباب مفتوحًا أمام احتمالات قيام هذا التنظيم بهجمات أخرى في السويداء أو في أي مناطق أخرى من سورية، خاصة إن استمرت ممارسات النظام السوري في القتل والتدمير والتهجير والتغيير الديموغرافي، وطالما ظلّت أهداف حليفيه الروسي والإيراني على حالها، أهداف استعمارية لا تعير أهمية للشعب السوري وعيشه المشترك.

خلال التاريخ الحديث، واجه أهالي جبل العرب المستعمر مطلع القرن التاسع عشر، ورفضوا الانتداب الفرنسي وحاربوه في القرن العشرين، وساهموا في الحركات العروبية والوطنية والاستقلالية السورية الجامعة، الرافضة للطوائف والمذاهب والقوميات، وهم اليوم أمام استحقاق في غاية التعقيد والأهمية، خاصة أنهم معرضون لخطر التنظيمات الإرهابية المُولَّدة في المنطقة، وخطر عنف النظام وآلته الحربية والأمنية والقمعية، مع خطر وجود احتلالين، إيراني وروسي، وخطر وجودهم في منطقة جغرافية استراتيجية تتقاطع فيها مصالح قوى عدة.

ربما من المهم أن يدرك أهالي السويداء، قبل فوات الأوان، وقبل أن يجرّهم النظام إلى خانته، أن النظام السوري نظام لا يُؤتمن، ولا يمكن الوثوق به، وأن الخطاب الوطني الجمعي التحرري الديمقراطي اللا طائفي هو مصدر أمانهم وقوتهم المستقبلية، وأنه كما كانوا واضحين في حياديتهم في سنوات الثورة السبع الماضية، عليهم أن يكونوا واضحين في سعيهم للخطاب الوطني الجامع الذي يُقرّب السوريين، وأن يستغلوا تعاطف المعارضين للنظام معهم لتعميق هذا الخطاب البيني، وتحويله إلى استراتيجية عمل جماعي مع كل أطياف المجتمع السوري.

وربما عليهم أن يُدركوا أيضًا أن “حامي الأقليات” لا يحميها، وأنه يتمترس وراء هذا الشعار ويُتاجر به، تمامًا كما يُتاجر بخوفها ويُحاول أن يحرّضها على السوريين، وأنه حرصًا على ما تبقى من لحمة بين أبناء سورية، عليهم رفض أي تواطؤ مع النظام أو روسيا، والثبات على الحياد والإصرار على أنه حياد لن يميل إلا إلى كفّة التغيير السياسي نحو دولة تعددية لا طائفية.

وعلى المعارضة السورية أن تعمل على توضيح خطابها الوطني الجامع، خصوصًا تجاه مسألة الأقليات، الإثنية والدينية والقومية، والتنبيه من خطورة خطابات الكراهية، وتعميق خطاب التآخي بين كل السوريين غير المتورطين بالدماء، والرافضين لأبدية النظام الأمني الشمولي، والراغبين في سلطة ديمقراطية تداولية