استقرت العلاقات السورية ـ الإيرانية، وتطورت إيجابيًا بصورة متصاعدة في عهد الأسد الأب بعد استيلاء الخميني على السلطة. وتحولت من علاقات ندية بين النظامين إلى علاقات غير متكافئة في عهد الأسد الابن. بدأ ارتهان الأسد الصغير لنظام ملالي إيران يزداد منذ سقوط صدام عام 2003، وإخراج جيشه من لبنان عام 2005. وأصبح الأسد رهينة بيد إيران في إثر نجدته وحمايته من السقوط بعد ثورة الحرية والكرامة عام 2011، لكن اضطرار إيران إلى الاستنجاد بروسيا عام 2015 أعطى الأسد فرصة لتحسين موقعه تجاه الطرفين، غير أن ميل موازين القوى لمصلحة روسيا يضع الأسد في القبضة الروسية أكثر ما هو في القبضة الإيرانية.

اتسمت العلاقات الاقتصادية بين إيران وسورية، بين أعوام 1979- 2010، بسمتين رئيستين. تمثلت الأولى بهامشيتها في الاقتصاد السوري وعدم أهميتها للاقتصاد الإيراني، ويتضح كم هو غريب ضعف العلاقات الاقتصادية إذا ما قيست بأهمية العلاقات السياسية والإستراتيجية ونوعيتها. أما السمة الثانية فتجسدت بالاختلال الكبير والدائم في الميزان التجاري لمصلحة إيران. شهدت العلاقات الاقتصادية بين إيران والنظام بعد الثورة قفزة نوعية إضافة إلى نموها الكمي. لكنها تحولت من علاقة شبه ندية بين طرفين إلى تدخل طرف متحكم في شؤون طرف تابع، هذا أولًا. وثانيًا، لم تعد العلاقات مقتصرة على جهتين حكوميتين رسميتين بصورة رئيسة، بل امتدت إلى تدخل جهات إيرانية عدة في الشأن السوري، حكومة رسمية وحرسًا ثوريًا وحوزات دينية بملاليها.

وأخيرًا، اصطدمت الأطماع الاقتصادية الإيرانية في سورية بالأطماع الروسية، ودخلتا في حالة تنافس غير متكافئ لمصلحة روسيا. علاوة على ارتباط مصير المصالح الإيرانية ارتباطًا متزايدًا بمصير رأس النظام. وظهرت أطماع إيرانية بصورة حثيثة ومكثفة للتملك في سورية بطرائق مختلفة، وعبر أدوات متنوعة، وبتسهيلات من أركان النظام.

تتحدد الآثار المحتملة للتدخل الاقتصادي الإيراني في مستقبل الاقتصاد السوري تبعًا لماهية الحل السياسي الذي ستفضي إليه التسويات.

طبيعة الدولة المنشودة، وشكل نظامها السياسي، القوى الدولية والإقليمية والمحلية الفاعلة في رعاية تطبيق الحل والإشراف عليه. يمكن رسم ثلاثة مشاهد؛ المشهد الأول هو المشهد المرغوب فيه، مشهد الانتقال السياسي، والمشهد الثاني يرسمه التوافق الدولي مع روسيا، وثالث المشاهد يحدده التقاسم وتقسيم الأمر الواقع مع بقاء إيران عاملًا فاعلًا ومؤثرًا في جزء من سورية.

المشهد الأول: تبدأ عملية انتقال سياسي تحقق متلازمة السلام والعدالة الانتقالية. وقيام دولة ديمقراطية تتمكن التخلصَ من الطابع الريعي للاقتصاد، والقضاء على المافيا الاقتصادية، وإنهاء الفساد الكبير قبل الصغير. وبناء قاعدة إنتاج متينة تتمتع بإنتاجية عالية تحقق “نموًا اقتصاديًا حقيقيًا”، والدخول في عالم “اقتصاد المعرفة”، وتحويل النمو إلى “تنمية حقيقية شاملة ومستدامة” مستندة إلى مبادئ العدالة الاجتماعية. ويتحقق التخلص من بقايا النهب الاقتصادي.

المشهد الثاني: تتمكن روسيا فرضَ مشروعها الخاص بعد تحجيم الدور الإيراني القاضي بإعادة بناء “دولة سوريّة” على شاكلة “الدولة الروسية”، “دولة أمنية” بديكور دولة حديثة، تحتفظ إيران بنفوذ نسبي وجزئي، وتتعرض الثروات والموارد السورية إلى نهب مكثف، ويحتفظ الاقتصاد السوري بسمته الريعية والمافياوية. نمو اقتصادي منخفض، وإنتاجية متدنية. لن تحدث تنمية، وسيسير الاقتصاد والمجتمع على حافة الفقر والبطالة، وسيجد السوريون أنفسهم أمام مهمات نضالات مطلبية وسياسية وقانونية تُذكّر بالنضالات في زمن الانتداب.

المشهد الثالث: يصعب الاتفاق على حل سياسي، ويترسخ تقاسم مناطق النفوذ، تحتفظ إيران بنفوذ واسع في مناطق سيطرة النظام. تعمل إيران على تأسيس حضور دائم بإنشاء تشكيلات عسكرية ميلشياوية محلية مؤدلجة مذهبيًا، ولا يوجد “اقتصاد سوري” ممركز، بل اقتصادات المناطق السورية. تحظى إيران بحصة وازنة مع الشريك الروسي، ويحصل نهب متوحش لثروات سورية واقتصادها، كما تزداد السمة الريعية للاقتصاد، وتحل مافيات محلية مكان المافيا المركزية السابقة، وينخفض الإنتاج والإنتاجية، وتتسع البطالة ويعم الفقر. تستفحل الجريمة ويتفاقم التفسخ الاجتماعي والأخلاقي.