المحتويات

مقدمة

أولًا: أهم محطات المسألة الكردية في التاريخ الحديث

ثانيًا: الأسباب التي أوصلت المسألة الكردية في العراق إلى الاستفتاء

ثالثًا: تحديات المواقف الدولية والإقليمية

رابعًا: هل كان الوقت مناسبًا للاستفتاء؟

خامسًا: خيارات ما بعد الاستفتاء

سادسًا: تداعيات الاستفتاء على أكراد سورية

سابعًا: خاتمة

 

مقدمة

ما جرى في كردستان العراق وكتالونيا الإسبانية يتعلق بتصادم مبدأين مرجعيين أساسيين في العقل السياسي الحديث: حق تقرير المصير للقوميات لتشكيل دولة تُعبّر عن هويتها، ومبدأ سيادة الدولة الذي يضمن وحدتها الإقليمية ضمن حدودها المعترف بها دوليًا. وعلى الرغم من البعد الجغرافي واختلاف أسباب الانفصال ونوازعه في كلا المنطقتين، إلا أن تزامنهما جعل نزعة الانفصال تبدو كأنها ظاهرة عالمية تستيقظ من جديد. ويبدو أن جوهر الموضوع واحد، وهو ضغط العولمة على نموذج الدولة الوطنية من دون أن تقدم بديلًا لهذا النموذج سوى الانفصال.

إن النزعات الانفصالية ليست وليدة اليوم، فقد عرفها التاريخ على مرّ العصور. وفي وقتنا المعاصر تنامت هذه النزعات بعد نهاية الحرب الباردة، والإعلان العالمي عن نهاية الأنظمة الشمولية، وعودة الحياة للنزعات التي تبحث عن ذاتها في الهوية والدين والعرق.

إن حق الشعوب في تقرير مصيرها منصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة، وهو لا يخضع لتفسيرات دستورية، فلم يتحدث أحد من المسؤولين البريطانيين عن لا دستورية الاستفتاء الذي أجري في اسكتلندا عام 2014 حول الانفصال عن المملكة المتحدة، كما لم تقم الحكومة الكندية بوصف الاستفتاء الأول عام 1980 والثاني عام 1995 حول انفصال مقاطعة “كيبيك” ذات الهوية الفرنسية بكونهما غير دستوريين.

لقد تحول استفتاء كردستان العراق إلى أمر واقع، على الرغم من المحاولات الكثيرة لإيقافه أو حتى تأجيله، حتى بات من الواجب أخذه في الحسبان عند صوغ التطورات السياسية المستقبلية في العراق والمنطقة.

أولًا: أهم محطات المسألة الكردية في التاريخ الحديث

كان من المفترض أن يحصل الأكراد على دولتهم المستقلة منذ معاهدة “سيفر” التي أبرمها الحلفاء في باريس عام 1920، والتي نصت على تحقيق حل المشكلة الكردية عبر مراحل، قد تصل في نهاية المطاف إلى الاستقلال إن نجح الأكراد في مهمتهم، وهي أول اعتراف رسمي دولي بحقوق الشعب الكردي، لكنّ معاهدة “لوزان” عام 1923 حرمتهم من حلمهم، والتي أزالت حمل “سيفر” عن عاتق الأتراك، وحطّمت هذه المعاهدة آمال الأكراد بالحكم الذاتي.

بعد إعلان مصطفى كمال أتاتورك ولادة الجمهورية التركية عام 1923 بدأت مرحلة الضغط على أكراد تركيا، فمنع تدريس اللغة الكردية في المدارس والمعاهد، ومنع التحدث بها في الدوائر الحكومية وحتى الشوارع.

بعدها بأربعة أعوام، أُعلن الأكراد عن جمهورية آرارات الكردية المستقلة، وأرسل أكراد تركيا رسائل إلى أكراد سورية والعراق من أجل التعاون معهم، لكن سرعان ما تم القضاء على هذه الجمهورية الضعيفة في العام 1930 على يد الجيش التركي.

وفي عام 1946، أفلح أكراد إيران في الإعلان عن ولادة جمهورية مهاباد الشعبية الديمقراطية، بواسطة الحزب الديمقراطي الكردستاني في إيران، لكنها سرعان ما انهارت بعد نحو 10 أشهر نتيجة ضعف الدعم السوفياتي وعدم وجود موافقة دولية على هذه الجمهورية، وبعد هذه الخيبة، عاد الأكراد ليشعروا بالغبن.

أما شمال العراق، فقد شهد حراكًا أكثف من غيره من الدول، وسعيًا محمومًا للانفصال والاستقلال، أو على الأقل تأسيس حكم ذاتي كردي، فمنذ مطلع القرن العشرين، ظهرت حركة الشيخ (محمود الحفيد) عام 1918 ضد الإنكليز، تلتها انتفاضة البرزانيين بقيادة (عبد السلام البارزاني) عام 1932، ثم جاءت حركة (مصطفى البرزاني) الذي كان بدوره رئيس أركان الجيش في جمهورية مهاباد (الكردية-الإيرانية) المنهارة.

في عام 1958 دعا الرئيس العراقي عبد الكريم قاسم البارزاني إلى العودة إلى العراق، وقرر منح الأكراد بعض مطالبهم القومية، لكن البارزاني رفع سقف مطالبه، ما أدى إلى تراجع الجنرال عبد الكريم قاسم عن ربيع علاقته مع الأكراد، وقام بحملة عسكرية على معاقل البارزاني عام 1961، وعدَّ بعدها “كردستان” جزءًا من الأمة العربية.

بعد تولي الرئيس العراقي عبد السلام عارف الحكم، اتفق من جديد مع قادة أكراد (ومن ضمنهم البارزاني) على حل شامل للقضية الكردية، وأعلن عام 1964 منح الأكراد الحقوق الثقافية والإسهام في الحكم وبعض الحقوق الأخرى، لكن التيار القومي العربي تغلّب على حسن النيّة هذه فاستمرت الدولة تعامل الأكراد بتمييز وقمع، واستمر الأكراد في صراعهم المسلح مع حكومة بغداد.

عندما وصل حزب “البعث” إلى الحكم عام 1968 اختطت السلطة الجديدة سياسة تقضي بإبراز جلال طالباني وجناحه في الحزب الديمقراطي الكردستاني، كبديل للقيادة البارزانية، وفي القتال الذي دار بين الجماعتين الكرديتين المتنافستين ساندت بغداد جناح طالباني، لكنّ بارزاني سرعان ما حسم الموقف لمصلحته. وجرى توقيع اتفاق “حكم ذاتي” في 11 آذار/ مارس 1970، حصل بموجبه الأكراد على معاهدة تمنحهم الحكم الذاتي، وتعترف بالكردية لغةً رسميةً، وأشار الدستور العراقي إلى أن الشعب العراقي “يتكون من قوميتين، العربية الكردية”، إلا أن الخلافات لم تنته، خاصة بعد منح الرئيس العراقي حق حلّ المجلس المحلي لـ “إقليم كردستان”.

أدت المباحثات بين الحكومتين العراقية والإيرانية -آنذاك- إلى توقيع “اتفاقية الجزائر” في آذار/ مارس1975، ونصت على تخلّي العراق عن نصف شط العرب وأراضٍ أخرى لمصلحة إيران مقابل وقف الدعم الإيراني لأكراد العراق.

ضعُفت الصدامات المسلحة بين الطرفين بعد اتفاقية الجزائر، وتوقفت بسبب الحرب الإيرانية – العراقية (1980–1988). وبعد انتهاء الحرب ارتكب النظام العراقي مجزرة (حلبجة) في 16 آذار/ مارس 1988، في سياق عملية (الأنفال) التي أدت إلى مقتل نحو (180) ألف كردي عراقي، وتسببت بتهجير معظم الأكراد باتجاه الجبال، فيما توجهت معظم القيادات إلى إيران.

بعد حرب الخليج الثانية عام 1991 صدر قرار مجلس الأمن رقم 688، الذي استخدمه التحالف الدولي لإقامة “ملاذ آمن” شمال خط العرض 36، وفرض منطقة حظر جوي ساهم في عودة اللاجئين الأكراد إلى مناطقهم التي هُجّروا منها، وفي عام 1992 شكّل أكراد منطقة الحكم الذاتي أول برلمان لهم.

بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، توفرت للإقليم فرصة لنزع الاعتراف بإقليمه من البرلمان العراقي، وهو ما حصل في الدستور العراقي الذي اعتُمِد شعبيًا عام 2005، وخصّص نسبة 17% من ميزانية الدولة للإقليم. وانتهى الأمر بوضع خاص لإقليم كردستان العراق، أقل قليلًا من الاستقلال، وأكثر قليلًا من الحكم الذاتي، وحمل الاسم الحالي: إقليم كردستان العراق، الذي أصبح له علمٌ ودستور ونشيد قومي وحكومة وجيش (بشمركة) وبرلمان ومكاتب تمثيل دبلوماسية في السفارات العراقية.

ما زال الخلاف مستمرًا بين الإقليم وحكومة بغداد المركزية حول عائدية الأراضي المتنازع عليها، ومنها كركوك الغنية بالنفط، فقد وُضعت المادة 140 من الدستور العراقي الدائم فيه آلية لحل الأمر، إلا أنه لم يتم تفعيل هذه المادة على الرغم من مرور اثني عشر عامًا.

في هذه الأثناء، شهدت المناطق الكردية في العراق استفتاءً سابقًا في كانون الثاني/ يناير 2005، وتجاوزت نسبة المصوتين على الاستقلال 98.19%، لكن لم يقم الأكراد بأي خطوة نحو الاستقلال بانتظار الظرف الملائم، وجاءت الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية كفرصة ملائمة لقوات (البشمركة) الكردية لتتوسع وتفرض أمرًا واقعًا على الأرض في المناطق المتنازع عليها بما فيها كركوك، على الرغم من اعتراض المكوِّنين التركماني والعربي، ومكوّنات أخرى أصغر حجمًا في سهل نينوى، ولهذا قرر البارزاني إجراء استفتاء جديد في الغالب بنيّة الانفصال والاستقلال هذه المرة.

ثانيًا: الأسباب التي أوصلت المسألة الكردية في العراق إلى الاستفتاء

كان أول برلمان لكردستان العراق عام 1992 قد قرّر “الاتحاد الفدرالي”، ثم أصبح واقعًا بموجب الدستور الدائم لعام 2005، مع أن هذا التأكيد تضمّن غموضًا وإبهامًا: مثلًا ما يتعلق بالمادة 140 وتفسيراتها وتأويلاتها وتعقيداتها.

بعد مرور اثني عشر عامًا، لم يحترم المسؤولون العراقيون في الحكومة المركزية الالتزامات الأساسية في الدستور العراقي، فمثلًا يحظر الدستور، في المادة التاسعة، تشكيل الميليشيات المسلحة، لكنّ الحكومة العراقية تسدِّد رواتب ميليشيات “الحشد الشعبي” الشيعية، التي تُذكّر الأكراد بعروبة كركوك، في وقت تخلّت هي فيه عن عروبة النجف وكربلاء، وحوّلت الموصل بعد تحريرها من (داعش) إلى حاضرة إيرانية. وتُعلّق مؤسسة (راند) الأميركية على هذه الجزئية، في سياق دراسة أجراها عدد من باحثيها، بالقول “على الرغم من أن إقليم كردستان يحاول أن يوازن في علاقته مع إيران وتركيا، من المحتمل أن المستقبل سيشهد صراعًا شيعيًا كرديًا بين الميليشيات الشيعية والبشمركة حول المناطق المتنازع عليها، مثل كركوك، والتي يمكن أن تعكّر سعي بارزاني نحو العلاقات مع إيران”.

إن المسؤولية التاريخية لوحدة العراق الوطنية والجغرافية يتحملها النظام الحاكم، وهو المسؤول الحقيقي عن تفكّك العراق وتشرذم نسيج مجتمعه وضياعه، في الإصرار على الأجندة التي جاء يُبشّر بها، وضربه النزعة الوطنية، وتفسيخ العراق على أساس بعثرة المكوّنات لحساب سيادة الأقلية الحاكمة وطغيانها. فكيف سيغدو مستقبله في ظلّ ما قام به نظام يقوم على أسس مذهبية ومرجعيات متآكلة، وسيطرة طبقة سياسية متخلفة؟

من جهة أخرى، فإن مفردات الخطاب العربي في الشأن الكردي ما زالت محمّلة بمشاعر التعصب والاستعلاء والتخوين والتشكيك والترهيب. ففي باب التخوين، يربط خصوم الكرد بين “إسرائيل” والمشروع القومي الكردي بطرق عدة، لكن من التعسف اختزال القضية الكردية في ربطها بإسرائيل.

ثم هناك استقواء بالخارج لمواجهة توجّه الأكراد، بدل اعتماد مبدأ الحوار والتفاهم وبلوغ التسويات بين المكوّنات العراقية الداخلية. فمن أجل استغلال الموقف العدائي المعروف لكل من تركيا وإيران تجاه تطلّعات الأكراد ونزوعهم نحو الاستقلال، تسعى بعض النخب السياسية في بغداد لاستدعاء تدخلات هذين البلدين في الشأن الداخلي العراقي، من دون الأخذ في الحسبان خطورة مثل هذه السياسة التي ستبقي العراق أسيرًا للخارج، وتزيد تناقضاته الداخلية تفاقمًا.

ثالثًا: تحديات المواقف الدولية والإقليمية

مع أن الولايات المتحدة الأميركية لا تكتم تعاطفها مع الحلم الكردي، وتعتبر الأكراد في العراق وسورية أفضل الحلفاء، إلا أن إدارة الرئيس ترامب أكدت ما سبق والتزمت به الإدارات التي سبقتها من تمسكها بوحدة العراق. وكان من اللافت مسارعة وزارة الخارجية الأميركية، فور إغلاق صناديق الاستفتاء في إقليم كردستان العراق، إلى إصدار بيان أعربت فيه عن “خيبتها العميقة” من إصرار أربيل على إجراء الاستفتاء، لكن، من دون إدانة أو تلميح بعدم الاعتراف بنتائجه، بل أكد البيان أن “العلاقة الأميركية التاريخية مع الشعب الكردي لن تتغير”؛ وإذا كانت قد أشارت إلى التعقيدات التي قد تتسبب بها هذه الخطوة، على صعيد علاقات إقليم كردستان ببغداد ودول الجوار، إلا أنها حرصت على التحذير من أن تسلك الردود على الاستفتاء طريق القوة عبر إشارتها أيضًا إلى أن “الولايات المتحدة ترفض اللجوء إلى العنف كما إلى الإجراءات الأحادية من أي جانب لتغيير الحدود”.

من هذا المنظور، ترى واشنطن أن التعامل مع الوضع المستجد يجب أن يتم “من خلال الانخراط البنّاء في عملية حوار بهدف تأمين غدٍ أفضل لكل العراقيين”. وزيادة في الالتباس، يختم البيان بإعلان “دعم أميركا لعراق موحّد فدرالي ديمقراطي مزدهر، مع مواصلة السعي للبحث عن الفرص التي تساعد العراقيين على تجسيد تطلعاتهم، ضمن إطار الدستور”. ويبدو هذا الموقف تسليمًا أميركيًا بمضامين الاستفتاء، ولو من غير التأييد الصريح لمآله الانفصالي.

تدور التحفظات الأميركية إجمالًا حول التداعيات المحتملة وليس حول مبدأ الاستفتاء، ولاحقًا الانفصال. ومن هنا ردّ الإدارة الأميركية الذي يبدو أقرب إلى ضبط الاعتراضات العراقية والإقليمية على هذا التحوّل، لتمريره بأقل الخسائر.

ويبدو أن الرؤية الأميركية لمستقبل العراق، تتمثل في بناء كيان فدرالي مستقر، يحتّم على الأكراد العمل مع الحكومة المركزية في بغداد، تخوّفًا من احتمالات ملء الفراغ من قبل روسيا وتركيا وإيران، بعد طرد (داعش) من العراق وسورية.

أما روسيا، فلم تندِّد بالاستفتاء حول استقلال كردستان العراق، مكتفية بالدعوة على لسان وزير خارجيتها، سيرغي لافروف، إلى “تحقيق التطلعات المشروعة للأكراد، شأنهم في ذلك شأن غيرهم من الشعوب، في إطار أحكام القانون الدولي”. وبالتزامن مع إجراء الاستفتاء، اتجهت شركة (روس نفط)، أكبر شركة نفط في روسيا، لتمويل بناء خط لنقل الغاز من الإقليم إلى تركيا بطاقة تزيد على 30 مليار متر مكعب سنويًا.

وينطوي هذا التوجه الروسي على عدة أهداف، يتعلق أحدها بمنافسة النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط، من خلال محاولة الاستحواذ على أحد أهم حلفاء واشنطن في العراق. كما أن روسيا تعتبر أن نمو العلاقة مع الأكراد سيمنحها ملعبًا جديدًا للمناورة مع تركيا، خصوصًا إذا عرفنا كيف استثمرت موسكو علاقتها الوطيدة مع أكراد تركيا وسورية، كورقة مساومة مع أنقرة في الملف السوري.

أما الموقف الفرنسي، فقد ذكر بيان للإليزيه، في عقب اتصال هاتفي للرئيس ماكرون مع رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، في 29 أيلول/ سبتمبر أنه حثّ بغداد وحكومة إقليم كردستان على ضرورة تجنّب أي تصعيد، و”على البقاء متحدين في أولويتهما المتمثلة بهزيمة تنظيم (داعش)، وإرساء الاستقرار في العراق”. وأضاف البيان “ذكّر الرئيس ماكرون بأهمية الحفاظ على وحدة وسلامة أراضي العراق، مع الاعتراف بحقوق الشعب الكردي”.

جاءت الضربة الدبلوماسية من مجلس الأمن حين أبدى في 21 أيلول/ سبتمبر، وبإجماع أعضائه الخمسة عشر، معارضته الاستفتاء على الاستقلال محذّرًا “من أن هذه الخطوة الأحادية من شأنها زعزعة الاستقرار، مع تجديد المجلس تمسكه بسيادة العراق ووحدته وسلامة أراضيه”.

أما إقليميًا، فقد التقت إيران وتركيا على رفض الكيان الكردي المرتقب، واعتبرتاه ماسًّا بالأمن القومي لكل منهما. ففي بيانه، في 23 أيلول/ سبتمبر، شدّد (مجلس الأمن القومي) التركي على أن أنقرة تحتفظ بـ “جميع حقوقها المنبثقة من الاتفاقيات الثنائية والدولية”، في حال أقدم إقليم شمالي العراق على إجراء الاستفتاء. وأوضح المتحدث باسم الحكومة في مؤتمر صحافي، لاحقًا، هذه الاتفاقيات، بالإشارة إلى أنها تتمثل بكل من (اتفاقية لوزان 1923) و(أنقرة 1926) و(الصداقة وحسن الجوار بين العراق وتركيا في 1946) و(التعاون وأمن الحدود بين العراق وتركيا في 1983). وأكد أن الاتفاقيات المذكورة تحدِّد بصورة واضحة الحدود المرسومة بين تركيا والعراق، وتنظِّم سبل حلّ الخلافات في المنطقة، وتعمل الحكومة التركية حاليًا على التذكير بها والتأكيد على التزام بنودها.

أما إيران، التي ناصرت الأكراد في مراحل حرجة، فقد عارضت الاستفتاء من دون أن تصل إلى القطيعة مع دعاته، ولكنها تدرك بأن الدعم الأميركي والإسرائيلي لخطوة كهذه، يعود بصورة جوهرية إلى أنه سيشكل مانعًا يحاول الحدّ من القدرة الإيرانية في المنطقة. وانطلاقًا من ذلك، بدا الإيرانيون في حالة لا يحسدون عليها، وهو ما تعكسه حالة القلق الكبير، والذي تلخصت أسبابه بأن إقليم كردستان العراق متموضع جغرافيًا بالقرب من أكراد إيران الذين يتركزون في مناطق غرب البلاد، الأمر الذي يُمكن أن يؤول إلى حركات شبيهة داخل إيران أو حتى تحركات من الإقليم العراقي باتجاه الأراضي الإيرانية لتلبية الطموحات الكردية بتحقيق حلم الدولة الكردية.

إضافة إلى إدراك إيران بأن موضوع استقلال إقليم كردستان سيعطي تركيا دورًا اقتصاديًا أكبر في العراق ككل، وذلك بحكم التكامل الاقتصادي اللافت بين الإقليم وتركيا منذ نحو عقدين، والذي شكّل أرضية صلبة من الثقة المتبادلة التي ربما كان من شأنها تحريك العملية السياسية الداخلية في تركيا مجددًا، وذلك بهدف الوصول إلى حلّ واقعي عادل للمسألة الكردية في تركيا.

تكمن المفارقة بأن إيران تحاول جاهدة الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع الإقليم الكردستاني، فالعلاقات الاقتصادية والتجارية والزيارات المتبادلة كلها قائمة ومستمرة، لذا سيكون الخيار الأفضل بالنسبة إلى طهران التصويت على أن يصبح الحكم فدراليًا، لأن طهران بغنىً عن التورط في ملف إقليمي جديد إن لم تكن مضطرة إلى هذا، ولكن إن اضطرت قد تقرر تجاوز المحدِّدات والانضمام إلى المواجهة العلنية.

وتخشى طهران أن ينعكس انفصال إقليم كردستان سلبيًا على دورها الإقليمي، بعد أن ضمنت موقعًا متقدمًا في العراق وسورية خلال السنوات الماضية، وترى أن الخطوة الكردية تتناغم مع التوجه الأميركي الرامي إلى تقليص نفوذها عبر تقطيع جغرافي لأوصال الدول التي تنشط ضمنها. وانطلاقًا مما سبق، يمكن أن نفهم تهديدات الحكومة العراقية والحشد الشعبي بالتدخل العسكري في كردستان العراق، بوصفها رسائل إيرانية أيضًا عن الخيارات المحتملة لطهران، لو استمرت حكومة الإقليم في نهجها الحالي.

أما المملكة العربية السعودية، فقد تطلّعت إلى لعب دور الوسيط بين بغداد وأربيل، حيث دعت وزارة الخارجية السعودية، في 20 أيلول/ سبتمبر، حكومتي بغداد وأربيل للحفاظ على “المكتسبات” وعدم التسرّع في اتخاذ أي مواقف أحادية الجانب، فيما أكدت أنها تتطلع إلى “حكمة” رئيس إقليم كردستان، مسعود بارزاني، بعدم إجراء الاستفتاء لتجنيب المنطقة المخاطر.

أما الأمين العام ل‍جامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، فقد أبدى استعداده لدعم مبادرة نائب رئيس الجمهورية إياد علاوي لحل أزمة كردستان، فيما أكد أن مثل هذه المبادرة والتحرك سيقي العراق من المزيد من الأزمات والمشكلات.

رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، كان واضحًا، ليس في تأييده الاستفتاء فحسب، بل كذلك في أن “يكون للشعب الكردي دولة”، وهو موقف نقله إلى الكونغرس الأميركي قائلًا “من الضروري أن تكون للكرد في العراق دولة مستقلة، فهم شعب شجاع وبطل، كما أنهم أصدقاء للغرب وللقيم الغربية… وأصدقاء لنا”.

غير أن رفض الاستفتاء لا يقتصر على حكومة العراق نفسه، ولا على حكومات الدول الإقليمية والقوى العالمية المؤثرة فحسب؛ فالقوى السياسية الكردية نفسها تتنازعها المصالح والأهواء والتأثيرات الإقليمية، وعلى الرغم من أن الطرفين الحزبيين الكبيرين، حزب الاتحاد الوطني الكردستاني (18 مقعدًا في البرلمان العراقي) وحركة التغيير (24 مقعدًا)، توافقا على مضض مع الحزب الديمقراطي الكردستاني (38 مقعدًا) على قبول إجراء الاستفتاء، فإن حزب العمال الكردستاني التركي، الذي يسيطر على سنجار وجبال قنديل في العراق، رفض عبر أداته السياسية العراقية (حركة المجتمع الكردستاني) الاستفتاء، بل وقال إنه لن يسمح بإجرائه في المناطق الخاضعة لسيطرته في شمالي العراق.

في نهاية المطاف، ستتحول مواقف الأطراف الكردية التي كانت رافضة للاستفتاء إلى مواقف متفهمة، تتبنى الدعوات الكردية لإطلاق مفاوضات الخروج النهائي التي سيدخلها الإقليم وهو في موقع قوة.

رابعًا: هل كان الوقت مناسبًا للاستفتاء؟

يبدو أن إقدام حكومة كردستان العراق على إجراء الاستفتاء كان في منزلة مغامرة غير محسوبة النتائج، قد تقودها إلى الانعزال. ففيما تصرفت قيادة الإقليم على أساس أنه قد آن الأوان لقطف ثمرة الأمر الواقع القائم، وتحويل الإقليم إلى كيان سيادي، فإن سائر المؤشرات- حتى الآن- تدلّ على أن الاستفتاء ينطوي على مجازفة سياسية مفعمة بالمحاذير والمخاطر. فالدولة الناشئة تعرف أنها تحتاج إلى الغطاء القانوني والاعتراف الدولي، فمن سيوفرهما لها؟

كما لا تحتاج قيادة الإقليم إلى من يذكّرها بوطأة الجغرافيا، حيث يهدِّد الانفصال بانهيار اقتصاد الإقليم الذي ترتبط شرايينه بدول معارضة لهذه الخطوة مثل تركيا والعراق وإيران التي تعتبرها تهديدًا لأمنها القومي، الأمر الذي يضع مسؤولي الإقليم أمام تداعيات صعبة، تتمثل في خنق النفط الذي ما يزال المورد الرئيس لكردستان، فضلًا عن حركة التجارة مع دول الجوار واستثماراتها في العديد من المجالات، خاصة أن ديون الإقليم وصلت إلى نحو (20) مليار دولار، في الوقت الذي تتأثر فيه موازنته بصورة كبيرة بأسعار النفط الذي تشكّل عوائده نحو 90% منها.

قد يكون صحيحًا، أو لا يكون، أن التوقيت الذي جرى اختياره لإجراء الاستفتاء لم يكن موفّقًا، ولكن ليس هذا هو الموضوع الأساس، بل إن الأساس هو أن رافضي استقلال الإقليم سيرفضونه في كل وقت، وتحت كل الشروط، وبمختلف الذرائع. ربما العكس هو الصحيح: أي أن الموعد في 25 أيلول/ سبتمبر، قد يكون آخر فرصة لكرد العراق لتقرير مصيرهم، لأن انتظار استتباب الأمر للحكومة المركزية و(حشدها الشعبي)، الذي تمت شرعنته، يعني إطفاء أي أمل في الاستقلال بصورة سلمية، لأن المتوقع أن يستخدم المركز القوة العسكرية، في استئناف لكل تاريخ العراق الحديث مع مسألته الكردية.

في حين أن إجراء الاستفتاء في موعده منح الإقليم ورقة قوية يفاوض عليها الحكومة المركزية، وقد ينتهي الأمر بحلول وسط مرحلية أو بنيل الاستقلال بالتراضي، مع وضع تصوّر واضح لجميع المشكلات الفرعية القائمة، كوضع كركوك المتنازع عليها، أو عودة النازحين إلى مواطنهم الأصلية، أو الحقوق الدستورية للجماعات غير الكردية في الإقليم، من عرب وتركمان وآشوريين وغيرهم، أو موضوع النفط، أو العلاقات بين الدولتين العراقية والكردستانية.. إلخ.

وقد يكون رئيس إقليم كردستان العراق، المُلا مسعود البرزاني، أحسن اختيار التوقيت الذي يُقدّم فيه إلى العالم أوراق اعتماد دولة كردستان العراق المستقلة، وهو ما يؤكده المشهدان، العراقي والإقليمي، وتداخلاتهما الدولية. المشهد العراقي، وبعد الصراع خلال الـ 14 عامًا الماضية، أصبح مهيًّا للقبول بدولة فدرالية متعددة الأقاليم، فما الذي يمنع قيام دولة كونفدرالية، تكون دولة كردستان عضوًا فيها. وللمشهد الإقليمي جوانب متعددة: تركيا التي أعلنت صراحة تحفّظها على الاستفتاء، لا يبدو أنها تعني ذلك واقعيًا، فهي وثّقت علاقاتها بإقليم كردستان، وعقدت معه ما يكفي من اتفاقيات أمنية واقتصادية مستقبلية. ومن مصلحة دولة كردستان المزمعة أن تبني علاقات وثيقة مع تركيا التي تمثل لها منفذًا مهمًا إلى العالم، والبحار المفتوحة، بحكم كونها دولة حبيسة. أما إيران فقد وثّقت مُبكرًا علاقاتها مع كردستان العراق، وأكراد إيران لا يمثلون خطرًا للجمهورية الإسلامية. والمشهد العربي، خصوصًا المحيط الإقليمي للعراق، يعاني من تصدّع شديد، سواء في سورية والصراع المفتوح متعدّد الأطراف على أرضها، أو في الخليج العربي وما يشهده من أزمات وانقسامات وحرب مفتوحة في اليمن.

خامسًا: خيارات ما بعد الاستفتاء

كان للاستفتاء الذي أصرّ البارزاني على إجرائه على الرغم من الاعتراضات والتحذيرات المحلية والإقليمية والدولية العديدة، الكثير من النتائج على الأصعدة كافة، لكنّه بالعموم لم يُحقق أهدافه المتوخاة، وقد لا يحققها نتيجة استغلال الأكراد لظرف غير طبيعي لاتخاذ قرار مصيري لا يخصّهم وحدهم.

بالنسبة إلى أكراد العراق، سلّط الاستفتاء الضوء على حقّهم في تقرير المصير، وطرحه من جديد على مستوى وسائل الإعلام وعلى مستوى السياسة الدولية، كما بثّ الثقة في النفس بين أكراد العراق وسورية، وأعطى إيحاءً بأن الإقليم من القوة (سياسيًا وعسكريًا) بمكان بحيث يستطيع فرض إرادته المنفردة على الحكومة المركزية في بغداد.

بالنسبة إلى العراقيين، كان للاستفتاء تأثير كبير في تنبيههم إلى اللعبة الخطرة التي يقوم بها الأكراد في الإقليم الشمالي، والتي قد تتسبب بخسارتهم جزءًا من جغرافيا بلدهم، كما يمكن أن تتسبب أيضًا بخسارتهم أهم مصادر النفط وأغناها، ومن المتوقع أن تكون ردة فعلهم شديدة، خاصة أن إيران تساند، إن لم نقل تُهيمن، على الحكومة المركزية في بغداد، ومعروف أن طهران ترفض الاستفتاء وترفض أي فكرة لانفصال الأكراد خوفًا من انتقال العدوى إلى إيران.

وربما خوفًا من هذا الأمر بالذات، حاول رئيس إقليم كردستان، مسعود بارزاني، المواربة في سياسته، وإخفاء ما ينوي فعله، فقال في 28 أيلول/ سبتمبر، ردًّا على مبادرة وجِّهت له من قبل نائب رئيس الجمهورية العراقية إياد علاوي: “لقد أكّدنا قبل الاستفتاء، وفي اليوم التالي لإنجازه، أن الاستفتاء لا يعني قيام الدولة مباشرة، بل نحن مستعدون للتريث حتى عامين نتواصل فيها عبر حوار بنّاء ممتد لمناقشة كل الملفات والقضايا التي تجعل منا معًا شريكين في بناء المستقبل”.

بمراقبة مواقف قيادة إقليم كردستان العراق، ومواقف بقية أكراد المنطقة، وخاصة لجهة علو النبرة القومية الكردية إلى مستوى غير مسبوق من التحدي للعرب عمومًا، ومحاولة تصوير القوات العسكرية الكردية في العراق (البشمركة) كأنها جيش عرمرم، ومحاولة تصوير بقية الميليشيات العسكرية الكردية في سورية (الأسايش ووحدات حماية الشعب والمرأة وقوات سورية الديمقراطية وغيرها) على أنها قوات لا تُقهر، يمكن ترجيح أن تمضي زعامة إقليم كردستان العراق في تطبيق نتائج الاستفتاء وإعلان الاستقلال، لكن الأمر لن يكون واقعيًا بهذه البساطة.

وفق الترجيحات، هناك ثلاثة احتمالات تنتظر مصير المناطق التي يحكمها أكراد العراق ذاتيًا، جميعها -لسوء حظ الأكراد- لا يمكن أن تحمل الاستقرار الشامل للإقليم، وهي:

– الاحتمال الأول: المضي في مشروع الانفصال (الاستقلال)

تعترض هذا الخيار الكثير من المشكلات والعقبات التي يمكن أن تُجهضه قبل أن يُكتب له النجاح، فعلى الصعيد الاقتصادي لا يمتلك الإقليم القوة الاقتصادية الكافية لإدارة الإقليم كدولة مستقلة، خاصة إن لم تسمح حكومة بغداد المركزية للأكراد بالاستحواذ على كركوك، فالإقليم كان قد عانى خلال السنوات الأخيرة من ضائقات مالية كبيرة، على الرغم من الدعم المالي الضخم الذي تُقدّمه حكومة بغداد له، كما أن انتشار الفساد والمحسوبيات والحكم الأسري والعشائري يهدد أركان أي دولة قائمة، فكيف به بالنسبة إلى دولة قيد التأسيس. كذلك، يُعاني الإقليم من مديونية مرتفعة، وسوء إدارة ورداءة في التخطيط، قصير وطويل المدى، وهي أولويات أساسية قد تُدمر أي دولة ناشئة.

كذلك، لا يمكن إغفال التناقضات والخلافات الداخلية الكردية-الكردية، حيث تزداد حدّة الخلافات والاتهامات والتناقضات بين الحزبين الأساسيين “الحزب الديمقراطي الكردستاني” و”حزب الاتحاد الوطني الكردستاني”، وهذا ما استدعى تقاسم معظم مؤسسات الدولة الحكومية والأمنية والسياسية، ومواقف الحزبين المتناقضة تجاه الاستفتاء والانفصال تُنبئ بإمكانية انهيار مؤسسات الدولة أو تقاسمها كدولة ضمن دولة، وهذه الخلافات الكردية البينية تنسحب على كل أكراد الجوار، سواء في سورية أو تركيا.

هذا الخيار، سيجعل، بصورة تلقائية، حكومة بغداد المركزية عدوًا للدولة المُفترضة، كما سيجعل إيران -في أحسن الأحوال- صديقًا غير ودود، وكذلك الأمر بالنسبة إلى لتركيا، وهذا يمكن أن يُهدد -فيما لو اتفقت هذه الدول، وهو أمر وارد- بفرض حصار خانق على الدولة المُحدثة، لا يمكن كسره أو الخلاص منه بأي وسيلة، بحكم أن جميع حدود هذه الدولة مُحاصرة، وهي في منزلة جزيرة صغيرة في محيط، لا معابر بحرية لها، ولا خطوط برّية لا تعبر هذه الدول، ويدعم فرضية إمكانية اتفاق هذه الأطراف الثلاثة قيام إيران وتركيا بمناورات عسكرية منفصلة قرب الحدود العراقية الشمالية، وعقد قائد الحرس الثوري الإيراني لقاءات مع الحشد الشعبي في سهل نينوى العراقي. ويُضاف إلى كل هذه المشكلات الإقليمية، مشكلة صعوبة الحصول على اعتراف دولي وأممي بهذه الدولة الجديدة.

– الاحتمال الثاني: عودة المساومات بين الحكومة المركزية وحكومة الإقليم

هذا الاحتمال هو الأكثر ترجيحًا، خاصة إن استوعب حكّام الإقليم وأدركوا كل الصعوبات والمخاطر سابقة الذكر، وهو أيضًا أمر مقبول بالنسبة إلى حكومة بغداد المركزية، التي توافق على دخول “بازار” المفاوضات من جديد، خاصة أنها تُدرك أن أي توافق يحتاج إلى وقت طويل، وهو ما تحتاجه لتقوى عسكريًا ولتضمن قبضة قوية على مصادر النفط العراقي.

قد تدخل بغداد مع أربيل في مساومات طويلة لترسيم حدود الإقليم، ولن تقبل بغداد التنازل عن كركوك أو الموصل أو غيرها من الأراضي ذات الأغلبية غير الكردية، لكن يمكن منح بعض الهوامش الجغرافية غير ذات الأهمية للإقليم، كما يمكن إعادة حسابات توزيع الثروات التي يمكن للإقليم استثمارها من دون الرجوع إليها، وعلى الرغم من أن الإقليم سيرفض عودة الجغرافيا إلى ما قبل 10 حزيران/ يونيو 2014، أي ما قبل تمدد القوات الكردية، إلا أنه سيُدرك، بالترغيب أو بالترهيب، أن الحدود السابقة هي الأساس، وأن الثروات الباطنية هي للعراق المركزي الذي يمكن “مفاصلته” لرفع النسب لا إرغامه على أخذها كلها.

سيلقى هذا الخيار الترحيب من قبل بغداد كونه سيحافظ على وحدة الدولة، ويمكّنها من الاستفادة من ثروات الإقليم، والمشاركة في ضبط سياساته الخارجية والأمنية، وغالبًا ما سيكون هذا الخيار مرحّبًا به من قبل الدول الإقليمية والدولية، وسيكون أقل قسوة على الأكراد من خيارات تحمل مخاطر الحروب والدمار أو الحصار والتجويع.

– الاحتمال الثالث: التأجيل

وهو خيار مُرجّح أيضًا، وسيستند إلى استراتيجية كردية جديدة، تعتمد على تدوير الزوايا والعودة إلى استغلال الظروف والاحتيال على الواقع والعمل تحت ستار، وسيبدأ في الغالب بصرف نظر حكومة الإقليم -طوعًا- عن الاستمرار بتطبيق نتائج الاستفتاء، والتوقف عن الحديث عن الانفصال والاستقلال، والتوجه نحو مفاوضات مع حكومة بغداد المركزية يمكن أن تحصل من ورائها على أي مكاسب جديدة، ومن ثم الانتقال إلى التنسيق مع أكراد الجوار، خاصة في سورية وبدرجة أقل في تركيا، لمراكمة القوة وكسب الأصدقاء، والتوجه نحو تسخير القوى السياسية والعسكرية لأكراد هذه الدول الثلاث لتقوية الموقف الفردي.

وربما أيضًا الذهاب نحو محاولة كسر الجليد مع حزب العمال الكردستاني تمهيدًا للتنسيق السري معه، وكذلك إزالة جدار الخلافات مع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري، الرديف لحزب العمال الكردستاني، لكسب المزيد من الود الأميركي، على اعتبار أن هذا الحزب هو أداة الولايات المتحدة في الشمال السوري، وهذا الثلاثي من وجهة نظر الكثير من الأكراد، يُضاف إليهم الحزبان الكرديان العراقيان، يمكن أن يشكلوا معًا شبكة قوة إقليمية جديدة، يمكن لها أن تتحدى المحيط بشكل أقوى وتحصل على مكاسب أكبر، إذ يعتقد أيضًا بعض الأكراد أن ما يجمع أكراد هذه الدول مع بعضهم بعضًا هو أقوى مما يجمعهم مع دولهم الأم، ومن ثمّ يمكن أن يؤدي توحّد هذه القوى إلى تحقيق حلمها في “كردستان الكبرى”.

هذا الخيار، إن اعتمدت عليه حكومة إقليم كردستان العراق، سيتسبب بعداوة كردية مع كل دول الإقليم، وسيكون في الغالب الأعم مُدمّرًا للمنطقة، ومصدرًا لحروب عربية – كردية – تركية – إيرانية لا تنتهي بسهولة، وسينتج عنها مآسٍ شديدة، وعمليات تهجير ونزوح لم يشهدها الأكراد طوال تاريخهم.

سادسًا: تداعيات الاستفتاء على أكراد سورية

أيّد أكراد سورية- في معظمهم- الاستفتاء، واعتبروه فرصة تاريخية، وخاصة أنصار (المجلس الوطني الكردي) الذين نظّموا تجمعات جماهيرية كبيرة في سورية وأوروبا. ولم تُبدِ “الإدارة الذاتية الكردية” في سورية، ممثلة بـ (حزب الاتحاد الديمقراطي)، أيّ موقف رافض للاستفتاء، غير أنّ وسائل الإعلام المقرّبة من الحزب تُروّج لفكرة أن (الحزب الديمقراطي الكردستاني العراقي) يحاول التغطية على مشكلاته الداخلية بموضوع الاستفتاء، كما قامت قوى الأمن التابعة لـ “الإدارة الذاتية الكردية- الأسايش” باعتقال عدد من مناصري (المجلس الوطني الكردي) عشية احتفالهم دعمًا للاستفتاء.

من جهة أخرى، لم يعد السّجال يقتصر حول أكراد العراق، فقد دخلت الورقة الكردية السورية على الخط، لتتشابك مع الأوراق السورية، المتشابكة والمعقدة أصلًا. فمنذ أن نجحت قوات (قسد) التابعة لـ (حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري) في شمالي سورية في طرد مسلحي (داعش) من مساحات ليست بالقليلة، وإقامتهم “منطقة إدارة ذاتية كردية”، بدأت العمل على دمج ثلاث مناطق تُدار ذاتيًا في شمالي سورية، مع التوجه، من ثم، إلى التفاوض على حكم فدرالي لمناطق الأكراد. ولعلّ هذا ما دفع مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، إلى أن يطالب بعدم تجاهل الأكراد السوريين وبالسماح لممثليهم بالمشاركة في وضع دستور جديد للبلاد؛ ومن ثمّ، فإن الاحتمال المستقبلي، استنادًا إلى تلك الملامح، هو تفعيل ما تعيشه سورية اليوم من تقاسم جغرافيتها كمناطق نفوذ بين القوى الكبرى الدولية والإقليمية.

في هذا السياق تندرج رسالة وزير خارجية سلطة آل الأسد، وليد المعلّم، عبر وسيلة إعلام روسية، إلى الأكراد السوريين، التي مفادها أن إقامة إدارة ذاتية للأكراد في سورية “أمرٌ قابل للتفاوض والحوار في حال إنشائها في إطار الدولة السورية”، لكنّ الأطراف السياسية الكردية السورية المتعددة لم تأخذ كلام المعلّم على محمل الجد.

وليس تفصيلًا بسيطًا أن (قوات سورية الديموقراطية) باتت تسيطر على ربع مساحة سورية، مع ما يحمله ذلك من تبعات استراتيجية وسياسية لجهة تعاظم الدور الذي تلعبه (قسد) في معادلات القوة.

سابعًا: خاتمة

لا يمكن لمن تابع التطورات القائمة في هذه المنطقة، منذ عشرينيات القرن الماضي، أن ينفي حق الأكراد، كما جميع الشعوب الأخرى، في تقرير مصيرهم؛ لكن، بالتأكيد، ليس على حساب مصير المنطقة ومصائر الآخرين، وبمعزل عنها. فمشكلات المنطقة كثيرة ومعقدة. والاعتراف بالحقوق، والتعاطف مع القضايا العادلة، هو أساس قيمي وأخلاقي لبناء وجدان جمعي قادر على تفكيك الأزمات واجتراح حلول قابلة للحياة.

وليس من شكٍ في أن أيّ نجاح، في اللحظة التاريخية الراهنة، سيبقى مرهونًا بإنهاء الحكم المذهبي والتأسيس لمشروع وطني ديمقراطي قائم على أساس مبدأ المواطنة، وليس المحاصصة، من دون أي تمييز عرقي أو ديني أو مذهبي أو جنسي، وتَحرّر القرار الوطني العراقي من أي تسلّط أو هيمنة خارجية. عندها يمكن الرهان على مستقبل بديل أفضل لعراق فدرالي- ديمقراطي، وعندها سيكون هذا هو الرهان الصحيح لكل العراقيين، سواء أكانوا عربًا أو أكرادًا أو تركمانًا أو أيزيديين، مسلمين أو مسيحيين، شيعة أو سنة الخ…، بدلًا من الرهانات الخاطئة التي تُبقي أبواب الصراع مفتوحة على المستقبل.