في معرض انشغالهم بصناعة دستورهم المقبل، ستواجه السوريين عقبات كأداء ناجمة عن أسباب عدة، أولها، وأبسطها؛ انعدام التجربة والخبرة، فباستثناء دستور العام 1950، لم يحصل أن ساهم السوريون في صناعة دستورهم، أو تعديله، بل كانت الدساتير وتعديلاتها تفرض دائما عليهم، سواء من سلطات استعمارية قبل العام 1946 أم سلطات مستبدة بعده، وثانيها؛ ما تركته أنظمة الاستبداد من أمراض في بنية المجتمع، ومن شروخ عميقة بين فئاته؛ وثالثها؛ ما تركته هذه الحرب الكارثية، بنكهتها الطائفية، من آثار خطرة على حياتهم وعلاقاتهم وطرائق تفكيرهم. هذه الأسباب مجتمعة، إضافة إلى أسباب أخرى أقل أهمية، أدت إلى نقص خطير في الثقة بين الفئات، وإلى ارتفاع درجة الحقد والكراهية بينها إلى مستويات غير مسبوقة، الأمر الذي سينعكس حتمًا على صناعة تلك الوثيقة المهمّة، التي ستضع الإطار القانوني والسياسي لحكم البلد، وتُحدد مساراته.

ولعلّ علاقة الدين بالدستور، ونوع الأحكام الدينية التي سيتم إدراجها ضمن بنود الدستور، وطريقة صوغ هذه الأحكام، هي ما سيشكل نقطة الخلاف الجوهرية الأكثر صعوبة واستعصاءً؛ فهي مواد خلافية أساسًا، وعادة ما تنال، في بلداننا العربية خصوصًا، حصة الأسد من الوقت والخلاف والنقاش. وتزداد حدة هذه الخلافات في البلدان ذات التنوع الديني والمذهبي كسورية، والتي تضمّ في الوقت نفسه، قوىً، وجماعات عَلمانية كثيرة، ترغب في إبعاد المقَدّس عن الدستور والشأن العام. يضاف إلى كل ذلك، الأبعاد الاستثنائية المشار إليها أعلاه، والتي ستكون عليها سورية ما بعد الحرب، إذ ستحاول طائفة الأكثرية السنية، في ردة فعل على تجربتها السيئة مع نظام الأسد، وعلى ما أصابها من عنف مهول خلال الثورة، وضمانةً لعدم تكرار ذلك، إقحام ما أمكن من أحكام دينية في الدستور، تجعل القيادة والتحكم في متناولها، وفي المقابل، وخوفا من ردة فعل طائفة الأكثرية، ستحاول الفئات الدينية الأخرى، ومعها القوى العَلمانية، إبعاد الدين عن الدستور قدر الإمكان، وستكون منازلة قاسية محكومة بتصلب وتشنج وهواجس من كلا الفريقين.

علاقة الدين بالدستور، تختلف -من حيث الشكل والمضمون والمستوى- بين دولة وأخرى؛ فعلى نطاق الدول الإسلامية (ذات الأغلبية السكانية المسلمة) نجد دولًا تُقصي الدين تماما عن الشأن العام، وبالتالي عن الدستور، كالدول العَلمانية، ومنها تركيا وإندونيسيا وأذربيجان،  ويبلغ عددها11 دولة من أصل 44، ليس من بينها دولة عربية واحدة، وهناك في المقابل دول تدمج الدين بالدولة، فيكون الدين هو الموجه الأول في الشأن العام، وتُعدّ دولًا دينية إسلامية، ومنها إيران والسعودية والباكستان وأفغانستان، وعددها10 دول من أصل 44 دولة، منها 5 دول عربية وبين من يُقصي الدين ومن يدمجه، تتوزع باقي الدول الإسلامية على درجات مختلفة.

ستحاول هذه الدراسة الخوض في هذه الإشكالية، إشكالية النص الديني والدستور، متجاوزة مسائل عديدة لا يتسع لها المجال، رغم أهميتها بالنسبة إلى موضوعنا. منها مدى فعاليّة أو صُورية الأحكام الدستورية؛ حيث يتعلق الأمر بمستوى استبداد السلطات الحاكمة أو ديمقراطيتها، ومنها مستوى استقلالية القضاء، ومكانة المحاكم المكلفة بالنظر في القضايا الدستورية. ومنها مدى سطوة الجماعات الإسلامية ونفوذها، ومدى تأثيرها على السلطات الحاكمة، ومنها الآراء المختلفة والمتضاربة حول تعريف الشريعة، ومدى شمولها التراث الفقهي، الواسع والخلافي.

يمكنكم قراءة البحث كاملًا بالضغط على علامة التحميل