ترجمة أحمد عيشة

(*) الآراء الواردة في هذه المادة لا تمثل بالضرورة آراء المركز ولا مواقفه من القضايا المطروحة

تداولت وسائل الإعلام الإخبارية على نطاق واسع صور الأروقة الحضرية المدمرة من جميع أنحاء سورية، منذ اندلاع الصراع المسلح في أوائل عام 2011. غالبًا ما تُستخدَم هذه الصور كدليل على عبث الصراع والشر المتأصل؛ فالدمار الحضري الظاهر، في مدن مثل حلب وحماة وحمص ومحيط دمشق- دمار كبير لم نشهد مثله منذ الدمار الحضري الواسع النطاق الذي سببته الحرب العالمية الثانية. تسلط هذه الصور الضوء على حقيقة أن تدمير البيئة العمرانية امتد إلى ما هو أبعد بكثير من الأهداف العسكرية أو الأضرار “الجانبية”، ليشمل، على سبيل المثال، أحياء سكنية كاملة.

يمكن فهم مفهوم إبادة المدن/ الحواضر على نطاق واسع على أنه تدمير متعمد للبيئة العمرانية. إنه من بين التحليلات المركزية التي سعى من خلالها العمل المعاصر في الجغرافيا السياسية إلى تجاوز الفكرة القائلة بأن مثل هذا التدمير ينتج ببساطة عن الشر المتأصل في الصراع. كما لاحظ مارتن كاوارد Coward، وقد استُخدِم المصطلح لمقاومة رمي التدمير واسع النطاق للبيئة العمرانية في “سلة المهملات المفاهيمية”، لـ “التدمير الوحشي”.

على الرغم من التدمير الواسع النطاق للبيئة العمرانية في سورية، لم تُطبَق فكرة إبادة المدن/ الحواضر على الدمار الهائل للبلاد. تحاول هذه الدراسة، التي هي نظرية بالأساس والتوجه، أن تستدرك هذه الثغرة في الدراسات حول الحرب الأهلية المستمرة في سورية. ومع ذلك، فإنني أطبق المفهوم على الصراع السوري، ليس لإلقاء نظرة ثاقبة على هذا الصراع فحسب، بل لمعرفة كيف نفهم “إبادة المدن/ الحواضر”، ولكشف قيود المفهوم. وعند القيام بذلك، آمل أن يتوسّع نطاق تطبيقنا للمصطلح إلى أبعد من أعمال التدمير (وكما سنرى، الإعمار) ليشمل تصورًا مفاهيميًا لإبادة المدن، باعتبارها عملية مستمرة وواسعة.

وهكذا، لا تفصّل هذه الدراسة الدليل العملي لهدم البيئة العمرانية منذ بداية الانتفاضة السورية. على سبيل المثال، لا تنطوي على تدمير المباني “الرمزية” أو “التراثية الثقافية”، التي يمكن عدّها شكلًا مميزًا لإبادة المدن/ الحواضر. وبدلًا من ذلك، وتماشيًا مع كاوارد، أؤكد على عناصر البيئة العمرانية تلك التي غالبًا ما يتم استبعادها من تحليلات التدمير الحضري، على سبيل المثال، عالم الأعمال (البزنس) والمساكن والبنية التحتية. بالإضافة إلى ذلك، تشتمل هذه الدراسة على مفهوم إبادة المدن بما يتجاوز فكرة التدمير. وعلى وجه التحديد، هي تعتمد على معارف أخرى موسعة إلى حد ما درسها باحثون آخرون، سلطت الضوء، بطريقة معاكسة للحدس، على (إعادة) إعمار البيئة العمرانية كشكل من أشكال إبادة المدن.

تبدد هذه الدراسة بعض الغموض المستمر حول ما تنطوي عليه إبادة المدن -سواء أكان ماديًا أم غير مادي- من خلال التمحيص بعناية في كل مما يُستهدَف ماديًا في السياق السوري، وما هو على المحك/ في موقع الخطر، سياسيًا أو أيديولوجيًا. من خلال هذه المناقشة للأهداف والمخاطر، أضيف بعدًا آخر لفهمنا لإبادة المدن. وعلى وجه التحديد، أوضح كيف يمكن أن يشمل المفهوم أيضًا صراعًا على الترتيبات الحضرية، وهو ما أفهمه على أنه عدد من “الشبكات المنظمِة التي توفر نظامًا مؤقتًا للحياة الحضرية” التي توجد في المدينة، ولكنها تمتد أيضًا خارج حدودها. يمكن أن ينطوي هذا الصراع على تدمير أو إعمار البيئة العمرانية، ويمكن أن يشمل أيضًا عمليات بين ذينك القطبين، مثل منح أو منع الوصول إلى البنية التحتية مثل الكهرباء أو شبكات المياه أو الطرق. علاوة على ذلك، أوضح، من خلال فرض عنيف وقسري للترتيب في المناطق الحضرية، كيف يمكن أن تكون إبادة المدن على نحو مفارق مولدة لمساحات جديدة، مثل بيئة سرية أو تكوينات بنية تحتية جديدة.

أزعم أن إبادة المدن هي الفرض العنيف، أو النضال من أجل الترتيبات الحضرية التي تهدف إلى إصلاح بيئة حضرية معينة ضمن جيب عرقي و/ أو سياسي متجانس. ومع ذلك، فإن مثل هذه الجهود لفرض التجانس غير مجدية، لأن الترتيب الحضري -حتى لو فرض ذلك التجانس بعنف- يخلق بالضرورة إمكانية إعادة الترتيب/ الاصطفاف والتعددية. كما يلاحظ كاوارد، بالاعتماد على عمل مارتن هايدغر، والتركيز على فكرة أن “المباني” تشكل قوام المساحة المشتركة، والتغيير الذي لا يمكن التحكم فيه، “البيئة العمرانية هي دائمًا مساحة مشتركة بالفعل”. ونتيجة لذلك، كما سأوضح أدناه، يمكن أن يكون فرض ترتيب/ نظام حضري (إبادي) على نحو مفارق مولدًا ومسببًا في تكوين مساحات جديدة أو إنشاء ترتيبات/ أنظمة حضرية جديدة.

أخيرًا، لإلقاء الضوء على التكوينات الاجتماعية المكانية [يعالج المنظور الاجتماعي المكاني، في أبحاث التحضر كيفية تفاعل البنية التحتية مع المجتمع، ويفترض أن الفضاء الاجتماعي يعمل كمنتَج ومُنتِج للتغيرات في البيئة الحضرية] المتميزة التي تولدها إبادة المدن، من الضروري مراعاة مجال هذه الترتيبات، ومراعاة حجمها أيضًا. وهذا يتطلب التحوّل من التفكير من حيث الأسطح والمناطق، إلى التفكير ثلاثي الأبعاد أيضًا، من حيث الارتفاع والعمق. إن التفكّر في آليات السيطرة على الأجواء (الفضاء السري) التي تشكّل الترتيبات الحضرية توفّر فهمًا أكثر اتساعًا لعملية إبادة المدن.

يمكنكم قراءة البحث كاملًا بالضغط على علامة التحميل