المحتويات
ثانيًا: أزمة الأردن أزمة بنيوية
ثالثًا: في عمق الأزمات الأردنية
رابعًا: الأزمة الحالية وإمكانات الخروج منها
خامسًا: الأردن دولة تحكمها التوازنات
أولًا: مقدمة
عمت تظاهرات شعبية واسعة أغلب المدن الأردنية في 30 أيار/ مايو 2018 احتجاجًا على قانون الضريبة على الدخل الذي أصدرته حكومة هاني الملقي، بدعوى تخفيف الأعباء على الميزانية المُرهقة بكلفة الدين العام وضعف الواردات الحكومية، ومواجهة شروط ومتطلبات صندوق النقد الدولي.
احتجاجات دامت أسبوعًا وكانت ذات مطالب اقتصادية، ولم تُطرح فيها شعارات سياسية، لكنها شملت كل شرائح المجتمع من الطلبة والنقابات المهنية والفاعليات الاقتصادية وعامة الناس، وغابت عنها الأحزاب السياسية الإسلامية منها واليسارية، التي كثيرًا ما كانت مُحرّكًا للاحتجاجات الشعبية فيما سبق.
مارس المتظاهرون كما القوى الأمنية ضبطًا عاليًا للنفس، وقدّم المتظاهرون نموذجًا راقيًا للتعبير عن احتجاجاتهم، بما فيها تنظيف الشوارع والساحات التي تجمّعوا فيها بعد نهاية فاعلياتهم اليومية، كما لم تُسجَّل حوادث عنف تُذكر، لا بين المتظاهرين ولا بين رجال الأمن والشرطة.
تركت زيارة ولي العهد الأردني الأمير حسن إلى ساحة التظاهر الرئيسية في عمان في اليوم الرابع للتظاهر، وتوجيهه القوى الأمنية بحماية المتظاهرين، أثرًا إيجابيًا في أنفس المحتجين، لكن العامل الأهم الذي أنهى عمليًا التظاهرات الأردنية، ولو بشكل موقّت، هو الكلمة التي ألقاها العاهل الأردني، وأثنى فيها على المتظاهرين، وأكّد على حقهم في التظاهر، وأبدى تعاطفًا مع مطالبهم التي قال أنها مُحقّة، وأمر بوقف قانون الضريبة الجديد وتجميد الأسعار التي رُفعت في سياقه، وقبِل استقالة رئيس الوزراء هاني الملقي، وكلّف وزير التربية والتعليم في وزارة الملقي عمر الرزاز بتأليف حكومة جديدة، كما دعا إلى حوار وطني شامل حول النظام الضريبي في الأردن وسبل تجاوز الأزمات الاقتصادية التي يُعاني منها الأردن بشكل دوري.
أثارت إجراءات النظام الأردني وطريقة تعامله مع المتظاهرين، نقاشًا واسعًا في أغلب دول المنطقة حول طريقة النظم المرنة، ومنها الأردن والمغرب، مع الاحتجاجات الجماهيرية، وبين طرق الأنظمة الصلبة والاستبدادية في مثل هذه الحالات؛ فهذه الأنظمة العسكرية، التي لا تعترف بالأزمات ولا تقبل الإصلاح وتخنق الحيز العام، أدت معالجاتها الأمنية إلى تدمير بلدانها وقتلت وهجّرت شعوبها ودمرت مقدراتها، كما هو حاصل في سورية وليبيا والعراق واليمن والجزائر سابقًا، آخذين في الحسبان الاختلافات البينية بين كل تجربة وأخرى من هذه التجارب المريرة. فالأنظمة المرنة تنطوي على شعور وثقة باستقرارها النسبي، كما يُساعد نظامها البرلماني بتحميل المسؤولية لحكوماتها، التي يمكن أن تتبدل باستمرار من دون حدوث خضّات عميقة يمكن أن تؤثر في استقرار النظام كله، أو أن تُهدِّد شرعيته، وهذه ميزة لا تتوافر عليها الأنظمة الصلبة.
لقد توقفت التظاهرات وأُعطيت حكومة الرزاز مهلة مئة يوم لمعالجة الوضع الاقتصادي؛ وعليه، ربما يكون الأردن قد تجاوز أزمته الراهنة، أو أنه أجّلها على أسوأ تقدير، ذلك أن هذا التجاوز ما زال في إطار البحث عن حلول لها، ويُعوّل الأردن كثيرًا على تحالفاته الإقليمية والدولية في أن تمد له يد المساعدة كما حصل في المرات السابقة.
ثانيًا: أزمة الأردن أزمة بنيوية
تتأتى أزمة الأردن من عوامل عدة، سياسية واقتصادية وديموغرافية؛ فالأردن دولة حديثة نسبيًا وجدت على هامش ترتيبات سايكس بيكو نهاية الحرب العالمية الأولى وترسيخًا لنتائجها، فقد نشأت إمارة شرق الأردن في أيار/ مايو 1921، وتحولت إلى المملكة الأردنية الهاشمية في ديسمبر/ كانون الأول 1948 بعد ضم الضفة الغربية إلى الإمارة بعد نكبة فلسطين 1948 (24 نيسان/ أبريل 1950). والأردن دولة شبه صحراوية فقيرة جدًا بالموارد الطبيعية وقليلة السكان، إذ لم يتجاوز عدد سكانها 6.5 مليون نسمة بحسب إحصاءات العام 2011، نصفهم من الفلسطينيين، وهذا التركيب السكاني تركيب قلق يتمظهر في الاقتصاد والوظائف العامة وعدم تكافؤ الفرص. والأردن يقع بين ثلاث دول متخمة بالصراعات الحادة (العراق – سورية – فلسطين)، وتأثر بشكل مباشر بتداعياتها، فقد استوعب أكثر مليون لاجئ عراقي في عقب الغزو الأميركي 2003، ولديه أكثر من 1.3 مليون لاجئ سوري، وكثيرًا ما اشتكى الأردن من التكلفة الاقتصادية التي رتبها اللجوء السوري على اقتصاده على الرغم من المساعدات التي يتلقاها من المنظمات الدولية أو الدول العربية للتخفيف من هذه الأعباء. يقول عماد الفاخوري وزير التخطيط والتعاون الدولي في حكومة الملقي إن التكلفة الإجمالية لاستضافة اللاجئين السوريين “بلغت 10.5 مليار دولار، وهذه التكلفة تعادل 4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي و16 في المئة من الإيرادات الحكومية السنوية”، وبغض النظر عن مدى صحة هذه الأرقام، التي يمكن أن تشوبها بعض المبالغات لتبرير الشكوى الأردنية الدائمة، إلا أن اللاجئين السوريين شكّلوا عبئًا لا يستهان به على الاقتصاد الأردني المثقل بالأعباء أصلًا.
كذلك، يرتبط الأردن بالقضية الفلسطينية ارتباطًا عضويًا، ليس فحسب لأن نصف سكانه من الفلسطينيين، بل لأن نشوء الأردن بالأساس كان جزءًا من ترتيبات نشوء “إسرائيل” ووعد بلفور، وهذا يقتضي أن يكون الأردن حاضرًا في حالتي الحرب أو السلم وبكل ما يتعلق بهذه القضية، كما أن الأردن مسؤول عن رعاية الأماكن المقدسة في فلسطين، ويعتبرها جزءًا مكونًا في شرعية النظام، ومع تواتر الحديث عن صفقة القرن التي تريد الولايات المتحدة فرض تسوية على الجانب الفلسطيني بموجبها وفقًا للمصالح الإسرائيلية في القدس والمستوطنات بعد أن نقلت سفارتها إلى القدس، وما أشيع عن موافقة بعض الأطراف العربية الفاعلة على مثل هذه الصفقة، فإن الأردن يبدو محرجًا من الموافقة على مثل هذه الصفقة بحكم طبيعة علاقته بالقضية الفلسطينية، الأمر الذي دفع بعض الأطراف العربية إلى تقليص مساعداتها للأردن، ما فاقم من أزمته الاقتصادية، وعلى وجاهة هذا الطرح من زاوية معينة، حيث كان الموقف الأردني أقرب إلى رفض الصفقة في مؤتمر منظمة المؤتمر الإسلامي في أنقرة في 13 كانون الأول/ ديسمبر 2017، إلا أنه غير كاف لتفسير الموقف الأردني، وليس دليلًا على أن هناك دول قطعت أو خفضت مساعداتها على خلفية الموقف الأردني من الصفقة؛ فعلاقات الأردن وتحالفاته الإقليمية والدولية كثيرًا ما شكّلت مظلة أمان له في معظم الأزمات التي تعرض لها، ليس أدل على ذلك أن الأردن أخذ مهلة خمسة عشر عامًا ليوقّع اتفاق سلام وادي عربة عام 1994، بعد أن وقّعت مصر اتفاق كامب ديفيد عام 1979، وليس هناك ما يمنع من أن يتأخر الأردن عن ركب الموافقين على الصفقة في حال دخولها حيز التنفيذ.
الأردن بلد دائم القلق من تداعيات الصراعات المحيطة به، ويخشى من انتقالها إلى الساحة الداخلية، التي لا تتوافر على حصانة متينة تجاه مثل هذه الصراعات، أكان لجهة الميليشيات الشيعية المنتشرة في العراق وسورية كأداة إيرانية في مشروعها التوسعي في المنطقة، ويتهدد الأردن كغيرها من دول المنطقة على المدى البعيد، أو لجهة التنظيمات الإسلامية المتطرفة كـ “القاعدة ” و”داعش” و”النصرة” في حال قررت التسلل عبر الحدود، وزعزعة الوضع الأمني، كما حصل في مخيم الركبان في 21 حزيران/ يونيو 2017، أو عملية أنابيب النفط.
وبالقدر ذاته يخشى الأردن حدوث حرب إسرائيلية – إيرانية بالقرب من حدوده الشمالية، وما يمكن أن تتركه من تداعيات إضافية، أو اضطراره إلى المشاركة فيها، حرب ما تزال كل مقوماتها قائمة في الواقع.
كان الاقتصاد والهموم المعيشية دائمًا العوامل الأساسية في توليد الأزمات في الأردن، بحكم كونه دولة فقيرة في مواردها الطبيعية، واقتصادها ريعي يُعاني كثيرًا من الإعاقات البنيوية التي تمنع تحوله إلى اقتصاد ناهض وفي مقدّمها نقص التمويل وضعف الاستثمار، كما أن المساعدات التي تُقدّم إليه لا تُوظّف في ترسيخ تنمية مستدامة تُخرج الأردن من عثراته الاقتصادية، بل توظَّف في المعالجات الآنية، وسد بعض العجوزات في الميزانية أولًا بأول.
ثالثًا: في عمق الأزمات الأردنية
ليست هذه أول مرة يشهد فيها الأردن موجات احتجاجية، فمنذ موجة عام 1989 الاحتجاجية التي بدأت في مدينة معان الجنوبية وامتدت إلى بعض المدن الأردنية على خلفية الأوضاع الاقتصادية السيئة، وانتهت باستقالة رئيس الحكومة آنذاك زيد الرفاعي، وتكليف زيد بن شاكر برئاسة الحكومة، استمر الأردن يتعرض إلى مثل هذه الظاهرة بسبب الصعوبات الاقتصادية التي يُعانيها وضغط الحالة المعيشية لقطاعات واسعة من سكانه، فضلًا عن تظاهرات عام 2011 التي كانت ذات مطالب سياسية منها مطلب تغيير مواد الدستور وتغيير قانون الانتخاب، وكانت هذه الشعارات جامعة لكل المتظاهرين، وربما ذهب البعض إلى عَدِّها امتدادًا لما كان يشهده الإقليم آنذاك، أو مقدمة لربيع أردني لم تكتمل شروطه.
على خلفية حوادث عام 1989، قرر الأردن اعتماد إصلاحات اقتصادية ذات طابع ليبرالي، وأخذ ببرنامج إصلاح هيكلي بناءً على نصائح صندوق النقد الدولي، وهذا كان معناه انسحاب الدولة من جميع أشكال الدعم الحكومي للسلع والخدمات الأساسية، وكذلك الدخول في برنامج خصخصة اقتصادية واسعة طالت المشاريع الاقتصادية الكبرى كالفوسفات والبوتاس والنقل والاتصالات. ومع حلول العام 1996 كان الأردن قد أنجز القسم الأكبر من برنامج الخصخصة، وهذا حصر اعتماد الدولة على الضرائب، وتحديدًا ضريبة المبيعات، وزاد من اعتماد الدولة على القروض من المؤسسات المالية الدولية ودول الخليج وتحويلات الأردنيين العاملين في الخارج، لكن هذا البرنامج الاقتصادي واجه معوقات داخلية لا يُستهان بها، تحملت وزر تداعياته الشرائح الفقيرة، كما كان له تداعيات على الحالة الاجتماعية التي يمكن أن تُهدد استقرار الأردن، فضلًا عن تأثيره في الفلسطينيين عمومًا ممن لا عمل لهم في القطاع الحكومي ومنوط بهم العمل الحرفي أو العمل في شركات القطاع الخاص، وهذا مصدر آخر للاحتقان.
يذهب الكثير من المحللين والمتابعين للشأن الأردني إلى أن أهم هذه المعوقات هو الصراع الخفي بين تيارين يتحكمان في المستويين الاقتصادي والإداري يمنعان استكمال برنامج الإصلاح الهيكلي، أولهما تيار البيروقراطية المحافظ، ويتألف من موظفين حكوميين في موقع القرار، ونواب في البرلمان وسياسيين وممثلي العشائر، شعروا أنهم بدأوا يفقدون امتيازاتهم التي كانوا يتمتعون بها على مدى عقود، ومن ثمّ ستتراجع قدراتهم على خدمة من يُمثّلون عشائريًا أو مناطقيًا، وأعضاء هذه الفئة ينتشرون في جميع قطاعات الدولة ومؤسساتها الإدارية والسياسية والعسكرية، وما يربط بينهم هو وحدة الهدف، وهو الحفاظ على امتيازاتهم وعدم التفريط بها.
ثانيهما تيار ليبرالي صاعد يمتلك كفاءات علمية وخبرات اقتصادية تستطيع التعامل مع خصخصة السوق والاستفادة منه، وهو يسعى لدفع عملية الخصخصة قُدمًا غير عابئ بالتكاليف الاجتماعية لها التي تنتج من شروط التقشف المتزايدة التي يفرضها صندوق النقد والبنك الدوليين.
هناك ميل لدى البعض للصق صفة الدولة العميقة بأصحاب التيار البيروقراطي الذي يحاول إعاقة التوجهات الاقتصادية الجديدة، في حين يسعى التيار الليبرالي الصاعد لتفكيك مرتكزات هذه الدولة العميقة وإحداث تغيير واسع في هيكلية الدولة والنظام السياسي القائم، من خلال رفعه شعارات الدولة المدنية، فهل المهمة التي يضعها التيار الليبرالي لنفسه ممكنة في ظل التحالف العضوي القائم بين المسؤولين السياسيين وكبار رجال الأعمال؟
تواجه هذه المهمة صعوبات كثيرة، لكنها ليست مستحلية، خاصة إذا أمكن الفصل بين رجال السياسة ورجال الأعمال، ومن ثمّ إمكانية الاستهداف الفردي لأعضاء التيار البيروقراطي المحافظ. ومع ذلك، يبقى موقف البلاط الملكي حاسمًا في هذا السياق، فمن المعروف أن هذا النمط من الأنظمة لا يميل إلى قبول الإصلاح السياسي الذي يمكن أن يمسّ أو يحدّ من سلطتها، في حين يمكن أن يتساهل مع الإصلاح الاقتصادي عندما تلح الحاجة إليه، وبما أن أي إصلاح اقتصادي لا يرافقه إصلاح سياسي مناسب سيبقى مبتورًا وعرضة للنكوص أو المراوحة في المكان، فإنه ستبقى الإصلاحات الأردنية غير مكتملة ومولدة للأزمات.
رابعًا: الأزمة الحالية وإمكانات الخروج منها
اندلعت الموجة الجديدة من الاحتجاجات، وهي الأوسع، على خلفية قانون الضريبة الجديد الذي أصدره رئيس الوزراء السابق هاني الملقي كما سلف ذكره، ويهدف إلى تغطية عجز الميزانية الكبير الذي يصل إلى حدود 840 مليون دولار، والقانون الجديد يفرض ضريبة على كل أردني بلغ الثامنة عشر من عمره. هذا القانون، بحكم ارتفاع العتبة للرواتب والدخول المرتفعة التي يبدأ عندها عمل القانون، ظهر أنه يستهدف الطبقة الوسطى في المجتمع الأردني، إلا أن غياب الشفافية والحوار حول القانون الجديد أثار ذعر قطاعات واسعة من المجتمع الأردني، ووفقًا للقانون الجديد الذي جاء تعديلًا للقانون رقم 34 لعام 2014 جرى تصنيف الدخول إلى ثلاثة شرائح، حيث يفرض على الشريحة الأولى وهي أول عشرة آلاف دينار من الراتب، ضريبة تبلغ 7 في المئة، وثاني عشرة آلاف 14 في المئة، و20 في المئة على المبلغ الذي يزيد على عشرين ألفًا، كما أُلغيت كل الإعفاءات الإضافية الممنوحة للأسر المقدرة بأربعة آلاف دينار سنويًا والمخصصة لفواتير العلاج والتعليم، لكن القانون يزيد في الضرائب على البنوك وشركات التأمين 40 في المئة بعد أن كانت 35 و24 في المئة على التوالي، وشركات تعدين المواد الأساسية 30 في المئة بعد أن كانت 24 في المئة، في حين استثنيت شركتا الاتصالات وتوزيع الكهرباء من الزيادة وبقيت 24 في المئة، وقد جاء القانون الجديد على خلفية اتفاق جديد مع صندوق النقد الدولي يتلقى الأردن بموجبه قرضًا قيمته 730 مليون دولار لدعم الإصلاحات المالية والاقتصادية، وتخفيض المديونية العامة من 94 في المئة إلى 77 في المئة من الناتج المحلي حتى العام 2021.
جاء تدخل العاهل الأردني لتطويق الأزمة سريعًا، حيث أقال الحكومة السابقة، وكلف الرزاز بتأليف حكومة جديدة، وأوعز بتجميد ارتفاع الأسعار، وهاجم المسؤولين الحكوميين الفاسدين وضعيفي الأداء.
يتمتع رئيس الوزراء الجديد بسيرة مهنية مميزة وقدرات تحاورية فعالة مع النظام البيروقراطي ومع عامة الشعب كما تشهد تجربته، وهي خبرات افتقد لها نظراؤه السابقون، كما أنه كان موظفًا سابقًا في البنك الدولي وعمل في القطاعين العام والخاص في الأردن، ولقي تعيينه ترحيبًا في أوساط التيار الليبرالي، لكنه على الرغم من مباشرته الحوار مع النقابات المهنية ومع البرلمان حول سبل معالجة الأزمة، يواجه تحديات حقيقية، منها ما يتعلق بإقناع جمهور لا يثق بالوعود الحكومية، وخاصة أن معالجة مشكلات الاقتصاد الأردني تتطلب فرض ضرائب لا تحظى بشعبية، كما أنه سوف يواجه صعوبات في إعادة التفاوض مع صندوق النقد الدولي للتخفيف من شروطه وتقديم قروض جديدة، كما مع بقية الدائنين حول جدولة ديونه البالغة 32 مليار دولار وتشكّل ما نسبته 95 في المئة إلى الناتج المحلي، وتكلف خدمتها ما نسبته 10 في المئة من ميزانية المملكة التي تبلغ 13 مليار دولار.
عزا العاهل الأردني صعوباته الاقتصادية إلى انقطاع غاز سيناء وما كان يدرّه على الأردن من عائدات، وما يوفره من غاز بسعر تفضيلي بسبب الوضع الأمني المضطرب الذي تشهده سيناء، كما أرجعها إلى انخفاض المساعدات التي كانت تُقدّمها دول الخليج، وأكثر هو ومسؤولوه من الحديث عن الأعباء التي رتّبها اللجوء السوري على الاقتصاد الأردني، وعن إغلاق الحدود بين البلدين، حيث بلغ حجم التبادل التجاري مع سورية 630 مليون دولار عام 2013، إذ كانت معظم الصادرات الأردنية إلى تركيا وأوربا تتم عادة عبر سورية، الأمر الذي أثر سلبًا على قطاع المواد الغذائية والإنتاج الزراعي والملبوسات، إلا أن الثابت أيضًا أن الأردن كان يُعوّل بشكل دائم على علاقاته وتحالفاته على المستويين الإقليمي والدولي في تجاوز أزماته أو التخفيف منها، وفي المقابل، كان هناك حرص دولي وإقليمي لأسباب عديدة على استقرار الأردن والتخفيف من تداعيات أزماته الاقتصادية، وذلك لأن الأردن دولة تعتمد على المساعدات بشكل دائم، ومن هنا فقد دعت السعودية في 11 حزيران/ يونيو 2018 إلى مؤتمر قمة في مكة ضمّت إليها كلًا من الكويت والإمارات والأردن، وقررت تقديم مساعدات قدرها 2.5 مليار دولار، بعضها مخصص لدعم مباشر للميزانية، وبعضه ودائع في المصرف المركزي لتحسين التصنيف الائتماني للأردن، وبعضه الآخر ضمانات للبنك الدولي، وبعضه لدعم مشاريع تنموية.
بالنسبة إلى الولايات المتحدة التي كانت ترتبط بعلاقات استراتيجية مع الأردن خلال عهد كل الإدارات الأميركية، يمكن لها تقديم المساعدة إلى الأردن من خلال تدخلها لدى صندوق النقد الدولي لتمديد برنامج مساعداته الجاري من أجل توفير المزيد من الوقت أمام حكومة الرزاز لتُنضج برنامجًا ضريبيًا أكثر وضوحًا وقبولًا، وذلك لأن المساعدات الخليجية ستحتاج إلى بعض الوقت حتى يمكن توزيعها وتفعيل مردوداتها، علمًا بأن الولايات المتحدة كانت قد التزمت في شهر شباط/ فبراير 2018 تقديم مساعدات قيمتها 6.375 مليار دولار، تُقدّم على مدى السنوات الخمس المقبلة.
في الوجه الاقتصادي للأزمة، أصبحت الكرة حاليًا في ملعب حكومة الرزاز الجديدة، وهو تحد ليس من البساطة تجاوزه، أيًا كانت قدرات الرجل، فثمة معوقات داخلية وأخرى موضوعية، وهناك بُعد سياسي يتعلق بطبيعة وآلية عمل النظام السياسي القائم، كما تؤثر الصراعات المحتدمة التي تدور في الإقليم وتحيط بالأردن من أكثر من جهة، ولا يستطيع تفادي تداعياتها، لكن من المتوقع أن تستطيع هذه الحكومة على الأقل نزع فتيل الأزمة، وترحيل تداعياتها إلى أمد ما.
خامسًا: الأردن دولة تحكمها التوازنات
بحكم نشأته وموقعه وندرة موارده وطبيعته وحدوده، والدور الوظيفي المنوط به دولةً ونظامًا، بات الأردن دولة هشّة وعرضة للهزات والأزمات السياسية والاقتصادية، وإن كان الطابع الغالب على أزماته هو البعد الاقتصادي. هذا الوضع حتم على النظام الأردني تركيز جهده على إدارة وضبط التوازنات التي تتحكم فيه، وقد اكتسب خبرة واسعة في هذا المجال، خبرة ميزته عن جميع أنظمة المنطقة بطريقة تعامله مع المشكلات المتكررة واستيعابها، سواء أكانت داخلية أم خارجية. فعلى المستوى الداخلي، يترتب على الأردن إدارة التوازن بين الأردنيين والفلسطينيين، وبين العشائر والحضر، وبين المدن والأرياف، كما وبين شريحة الأغنياء الضيقة وعامة الشعب الفقيرة، ولا يعتمد النظام الأردني في إدارته وضبطه للتوازنات الداخلية أساليب عنفية إلا في أضيق الحدود، بل يعول على الأعراف والمبادرات وتدخل الوجاهات وشيوخ العشائر وأصحاب النفوذ الاجتماعي.
أما على الصعيد الخارجي، فيحرص الأردن على أن تكون علاقاته جيدة أو مقبولة مع الأطراف كافة، ويتجنب الاستقطابات الإقليمية والدولية ما أمكنه ذلك، وقليلة هي النزاعات التي انحاز فيها الأردن إلى طرف، ربما كان أكثرها وضوحًا وقوفه إلى جانب العراق إبان الحرب العراقية – الإيرانية.
في الصراع العربي الإسرائيلي، لم يعتمد الأردن خطابًا واضح العداء لإسرائيل التي كان يصفها بـ “الدولة المعادية” حتى توقيع اتفاق وادي عربة، على غرار خطاب الأنظمة التي كانت توصف بالتقدمية، وبنت شرعيتها السياسية على تبنّي القضية الفلسطينية والعداء للكيان الصهيوني، مع ذلك فإن هذا الموقف الأردني لم يمنعه من المشاركة في ثلاثة من الحروب العربية – الإسرائيلية الأربعة، وهذا يندرج في سياق التوازنات التي يديرها الأردن في حدود تموضعه الجيوسياسي.
أما في القضية الفلسطينية، فيتبع الأردن سياسة خاصة، فقد مثّل القضية لفترة طويلة بحكم علاقة الأردن بفلسطين، وبحكم رعايته للأماكن المقدسة فيها، وفي مؤتمر مدير للسلام عام 1991 كان الوفد الفلسطيني جزءًا من الوفد الأردني، وعندما شقت منظمة التحرير الفلسطينية مسار أوسلو الذي بدأ بشكل سرّي وانتهى بتوقيع اتفاق أوسلو، فإن الأردن لم يُزاود على القيادة الفلسطينية، بل تابع علاقته معها على مسيرته الأولى، ووقع بعد عام من تاريخ أوسلو اتفاق وادي عربة الذي أنهى حالة الحرب مع “إسرائيل”.
إلى ذلك، يُحافظ الأردن على علاقات جيدة ومتوازنة مع دول الخليج كافة، ويتجنب الخوض في مشكلاتها البينية، والشيء ذاته مع أغلبية دول العالم التي تعنيه، أما علاقات الأردن الاستراتيجية فهي راسخة مع كل من الولايات المتحدة وبريطانيا، لدرجة أن الأردن بات في العقود الأخيرة ركيزة أساسية في الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط.
من ذلك كله يبدو الأردن مطمئنًا إلى تحالفاته الدولية والإقليمية، تحالفات تضمن له دائمًا مدّ يد العون في أزماته الاقتصادية، كما تبدي تفهمًا لحساباته الداخلية والعربية على الصعيد السياسي، وتأخذ حساسياته في الحسبان، وتعفيه من الضغوط المحرجة.
سادسًا: خاتمة
في الأزمة الأخيرة التي أخرجت تظاهرات عارمة في أكثر من مدينة أردنية، ذات مطالب اقتصادية تركزت حول قانون ضريبة الدخل الجديد، وغاب عنها الطابع السياسي أو أي أهداف سياسية، تشجعت قطاعات واسعة من المواطنين للمشاركة فيها، وكعادة الحكم الأردني تجنب استخدام العنف لمواجهة هذه الاحتجاجات، بل لجأ كعادته إلى إقالة الحكومة ووقف العمل بالقانون الجديد فاسحًا المجال أمام الحكومة الجديدة للبحث عن وسائل مُعالجة تحظى بقبول شعبي، معتمدة على ما يمكن أن تتلقاه من مساعدات من الدول الأخرى أو تخفيف شروط الإقراض من المؤسسات المالية الدولية.
ربما تجاوز الأردن هذه الأزمة، وهذا مهم، ليس فقط للأردن بل لدول الجوار العربي، التي أنهكتها الصراعات المحتدمة على أراضيها بفعل التدخل الخارجي المفتوح، ولا ينقص المنطقة أن يُفتح جرح آخر في جسدها.
الاستنتاج بأن احتجاجات الأردن هي شكل من تجليات ثورات الربيع العربي، قد يجد بعض مبرراته في الأزمات المزمنة التي تجتاح الواقع العربي، ومنه الأردن، لكن تجربة الثورة السورية على وجه الخصوص وثورات ليبيا ومصر واليمن، وحجم التدخل الخارجي فيها ومحاولته إجهاض هذه الثورات، وتعويم الثورات المضادة، وحجم الخسائر البشرية والمادية والتهجير الحاصل، تجعل من المنطقي أن يكون الشعب الأردني أكثر حذرًا حيال لعبة الأمم التي تتفاعل في المنطقة، وأهم ما أفصحت عنه مناهضة تطلعات شعوب المنطقة نحو الحرية والديمقراطية في هذه المرحلة التاريخية على الأقل.