في منتصف التسعينيات، زرتُ إحدى مؤسسات (القطاع العام) في دمشق، بهدف إنجاز دراسة علمية للحصول على درجة الماستر في علم الاجتماع، وكان من متطلبات مقابلتي للعاملين في المؤسسة، الحصولُ على موافقة المدير العام، علمًا أنني أحمل معي موافقة وزير الصناعة، ولذلك رافقني أحد العاملين في مكتب الباب الخارجي للمؤسسة، وعند الدخول إلى مكتب المدير العام، استقبلتنا السكرتيرة، بمظهرٍ كنا قد اعتدنا رؤيته في مؤسسات كهذي، حيث بدت وكأنها قادمة من سهرة ليلية، وما كان من مرافقي إلا أن طرح عليها سؤالًا ممازحًا: “ما الواسطة التي أوصلتكِ إلى هنا (مكتب المدير العام)؟ هل السيد الرئيس واسطتك؟”؛ فأجابته بكل برود: “لا، بل هناك من هو أهمّ (وأشارت إلى القسم السفلي من جسدها). إنه أكبر واسطة في بلدنا”.

عند خروجنا من مكتب المدير العام؛ سألتُ مرافقي عن قصة هذه الموظفة الآمرة الناهية لدى المدير العام، فأجابني بأنها توظفت عاملة إنتاج، وفي إحدى جولات المدير العام على الأقسام الإنتاجية، اختارها لتكون مديرة مكتبه، لما تحمله من “مهارات ومبادرات وخبرات في التنسيق الإداري والمهني”، كما أشارت هي بنفسها؟

هناك مئات القصص المشابهة على امتداد المؤسسات السورية، في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والسياسية كافة، وهي حالة “طبيعية” في نظام استبدادي، حيث يشكّل الاستبداد البيئة الاجتماعية الثقافية الحاضنة للفساد.

لكن الحالة غير الطبيعية هي ظهور هذا الفساد في مؤسسات المقلب الآخر. أي في المؤسسات المحسوبة على المعارضة السورية، حيث وصل الأمر في بعض المؤسسات إلى وجود حالات مشابهة للحالة السابقة الذكر في مؤسسات النظام!

قصدتُ من سرد هذه الحالة العيانية، التي يمكن تعميمها على المؤسسات الحكومية في النظام السوري، وعلى العديد من المؤسسات التي أنشأتها المعارضة بعد عام 2011، التدليل على بنية أصالة ثقافة الفساد، في مؤسسات المجتمع السوري.

عرّف علماء السوسيولوجيا الفساد بأنه علاقة اجتماعية يتم من خلالها انتهاك قواعد السلوك الاجتماعي التي تتعلق بالمصلحة العامة للمؤسسات، وأهم صورها السلوك المنحرف المتمثل في اللجوء إلى الوسائل والطرق غير المشروعة اجتماعيًا وقانونيًا، للوصول إلى الأهداف الذاتية؛ وهو ما يلحق الأذى بالمجتمع المعني عامة، وبالحدود الدنيا بشريحة العاملين في المؤسسة المعنية بالتحديد، نتيجة ما يسبب لهم من أضرار اجتماعية وأخلاقية نتيجة تعميم الصورة النمطية لهؤلاء المتنفذين المنحرفين على بقية العاملين في المؤسسة المعنية.

وعلى ذلك؛ يمكن توصيف الفساد في المجتمع السوري كظاهرة مركبة سائدة في المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية كافة.

يتجسد الفساد عن طريق إساءة استعمال السلطة الإدارية، من خلال سلوك بيروقراطي شخصي يستهدف تحقيق منافع ذاتية بطرق غير شرعية للمتنفذين الإداريين، وعادة ما يمارس هذا الفساد في مؤسسات القطاع العام السوري؛ لكونها هشة وضعيفة نتيجة غياب القانون واللوائح التنظيمية الخاصة بكل مؤسسة.

الفساد في المؤسسات السورية صار ثقافة قيمية، تتجسد في سلوك شخصي للمتنفذين فيها، بل أصبح من المتطلبات الوظيفية لاختيار المديرين والوزراء، الذين تتوفر مهارات وقيم الفساد في سيرهم العلمية والمهنية، ولكن أساس ثقافة الفساد هو وجود خلل في النظم الإدارية الفاسدة، أي غياب اللوائح القانونية الناظمة لعمل هذه المؤسسات، التي تسمح بوجود ثغرات وأبواب تسمح أو تشجع على الفساد، وبالتالي انعدام المحاسبة والعقاب بحق أي مسؤول فاسد عديم الأخلاق والضمير من أصحاب السلطة والمال.

أما في مؤسسات المقلب الآخر -أي المعارضة السورية في الخارج- التي تعد حديثة العهد، أي ما بعد 2011، فقد تماهى بعض المتنفذين فيها مع متنفذي مؤسسات النظام السوري، واستغل قسوة الظروف المادية والمعيشية للسوريين في الغربة، في تشغيلهم بأجور بخسة لا تكاد تكفيهم قوت عيشهم، بل تطاول البعض منهم على استغلال العنصر النسائي، من خلال العلاقات اللاأخلاقية معهن، مقابل توظيفهن في هذه المؤسسات؛ ما جعلهن لقمة سائغة لدى أصحاب النفوذ والمال، ولذلك شاع الابتزاز الجنسي بحقهن إلى حدود اللامعقول، كما يحصل في مؤسسات النظام السوري.

ولا يمكن وصف هؤلاء الأشخاص المعارضين، الذين يمارسون هذا الفساد، إلا بأنهم منحرفون أخلاقيًا حصرًا، لأن سلوكات كتلك لا يمكن إطلاقًا أن تصدر عن إنسان عاقل متوازن، في مؤسسات مدنية وإنسانية. وأغلبهم -كما يبدو- يحمل في داخله شخصية “رامي مخلوف” ولكنها تبدو وضيعة جدًا مقارنة بالمكانة السياسية التي يوجدون فيها.

قد يقول البعض إن الفساد موجود في الدول كافة، الغنية منها والفقيرة، المتقدمة والمتخلفة، ولكن بنسب مختلفة، أي نسبة الفساد في الدول المتخلفة والفقيرة أعلى بكثير، لغياب القانون والشفافية في مؤسساتها، وقد يكون هذا الفساد العامل الرئيس وراء استمرار تخلفها وفقرها، حيث تؤكد المؤشرات الاقتصادية أن الفساد يزيد نسبة الفقراء، ويعوق التنمية الشاملة والمستدامة، ويقلل مستوى الخدمات الاجتماعية الخاصة بالمواطنين، إضافة إلى أنه يسهم في إيجاد بيئة معادية للديمقراطية في المجتمع المعني عامة، وفي المؤسسات المعنية خاصة، التي تتسم بغياب الثقة وانحطاط القيم الأخلاقية وعدم احترام المؤسسات الدستورية والسلطة، لذلك فإن الفساد يعكس حالة من حالات غياب الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل المؤسساتي؛ ما يؤثر سلبًا في قضايا الفقر والأمن الإنساني للمواطنين كافة.

من مؤشرات الفساد في المؤسسات السورية (الحكومية والمعارضة)، شيوعُ ظاهرة الغنى الفاحش والمفاجئ لدى بعض المتنفذين فيها، وشيوع ظاهرة المحسوبية والولاء لذوي القربى في شغل الوظائف والمناصب، بدلًا من الكفاءة والمهارة والدرجة العلمية والمهنية والنزاهة، وغياب مبدأ تكافؤ الفرص في شغل الوظائف وضعف الرقابة أو ظهورها بشكل شكلي مع إهمال نتائجها، إضافة إلى الاستغلال السيئ للوظيفة لتحقيق مصالح ذاتية على حساب المصالح الموضوعية للمؤسسات.

آثار ثقافة الفساد المؤسساتي واضحة في بنية وقيم المجتمع السوري، وتتمثل في انتشار الرذيلة واهتزاز القيم الأخلاقية، وظهور الكراهية المتبادلة، وهي أمورٌ تصعب معالجتها بسهولة في المدى القريب، وأولى خطوات معالجتها محاكمةُ مُنتجي ثقافة الفساد في المؤسسات السورية كافة، والعمل على خلق النظم والمؤسسات (السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية والثقافية) التي تتيح للناس الحفاظ على كرامتهم الشخصية، من خلال الحماية من تهديدات الجوع والمرض والقمع والانهيار والتمزق المفاجئ والسريع، في أماكن العمل، وفي المجتمعات التي يوجدون فيها.