المحتويات
مقدمة:
يبدو من المسلم به أكثر فأكثر في عالم اليوم أن الاستراتيجية تأخذ منزلة مهمة جدًا في السياسات كلها، وفي إدارة شؤون الدول، وقيادتها. ومما لا شك فيه تلمس وجود رابط عضوي بين الاستراتيجية وعلم السياسة. ولذا بهدف الإحاطة بموقع الاستراتيجية من التاريخ السياسي والعسكري العربي، وكذلك من ناحية تطور هذا المفهوم نظريًا وعمليًا، لا بد من التطرق لعلم السياسة بشكل مستقل والتطور في الاستراتيجيات الدولية، وذلك قبل التعمق في رحلة البحث عن مآلات الاستراتيجية في عوالم العرب، واحتمال بلورة فكر استراتيجي عربي يواجه حالات التفكك الراهن، ويكون الغلاف للمشروع النهضوي المنشود.
تختلط في حقبتنا مفردات الاستراتيجية والجيو-استراتيجية والجيوبوليتيك في مقاربات صناع القرار ومراكز البحث والأكاديميات العسكرية والسياسية، علمًا أن ذلك يتداخل مع الحقول الفرعية التي تتناولها العلوم السياسية: النظرية السياسية، والفلسفة السياسية، والمدنيات وعلم السياسة المقارن، والأنظمة القومية وتحليل السياسات بين الأمم والتطور السياسي والقانون الدولي وتاريخ الفكر السياسي والحريات العامة وحقوق الإنسان. وأصبحت الجامعات تعترف بعلم السياسة بوصفه علمًا أو فرعًا من العلوم الاجتماعية والإنسانية منذ نهاية القرن التاسع عشر، وترسخ هذا الاعتراف بإنشاء كل من المدرسة الحرة للعلوم السياسية في باريس في عام 1872، ومدرسة لندن لعلم الاقتصاد والسياسية، وقد تأكدت أهمية هذا العلم باعتماده مادة للتدريس في الجامعات الأوروبية بصفة عامة، والجامعات الأميركية بصفة خاصة. وقد أدى وجود عوامل عدة للاهتمام بعلم السياسة، وقد اقترن ذلك الاهتمام بمزيد من الاتجاه نحو الدراسة الاستقرائية لمختلف الظواهر السياسية كالأحزاب السياسية والرأي العام وجماعات الضغط والمصالح وغيرها، خاصة في الولايات المتحدة، حيث غلبت فيها النزعة المنهجية لدراسة الوقائع والجزئيات إلى درجة أحدثت تطورًا منهجيًا جديدًا جعل علماء السياسة فيها يتبنون نظريات جديدة.
تمتاز الاستراتيجية في منزلتها الكبيرة ضمن العلوم الإنسانية والعلم العسكري، وتطمح أن تكون علمًا شاملًا يقدم الخلفية، ويرسم الإطار النظري لأنواع الصراعات جميعها. ومهما كانت التباينات حول شموليتها أو تنوع اختصاصاتها، تنشأ الاستراتيجية في مطبخ صناع القرار أو عند النخب السياسية والفكرية والعسكرية المتمكنة علميًا ومعرفيًا. وعبر التاريخ تطور علم الاستراتيجية بصورة تدريجية حتى أصبح في العصر الحديث فرعًا مستقلًا يدرس في الأكاديميات العسكرية. وبالطبع ثمة لبس في التعبير لا يتوقف فقط على استراتيجيات خاصة بالشأن السياسي، بل يصل إلى عالم الأعمال (استراتيجية تسويق وبيع وإعلان). وتترابط الاستراتيجية مع الاستشراف والرؤية لصلتها بالمستقبل وتصوره والتخطيط له. وفي هذا الصدد رأى الاستراتيجي الصيني الشهير سون تزو: ((إن الأكثر تميزا من القادة بيننا هم هؤلاء الأكثر حكمة والأكثر استشرافا و رؤية)). واليوم بعد عشرين قرنًا على هذا الإسهام في التأسيس للاستراتيجية علمًا ومقولة، أتى القانون العسكري الياباني متأثرًا كثيرًا بذلك مع تعليم الفنون والنظريات العسكرية جنبًا إلى جنب، ثم أتى فريدريك الثاني (1194– 1250) الإمبراطور الروماني، ليؤكد أهمية ((قراءة الأدب وفنونه في الحياة العسكرية)).
من دون الذهاب بعيدًا في التخطيط الاستراتيجي (الربط بين النظرية والعمل التطبيقي والتوقعات) والفكر الاستراتيجي وتطور علوم الاستراتيجية: التطبيقات الروسية والبروسية والفرنسية وغيرها، ومن الأسماء البارزة Clausewitz كارل فون كلاوزفيتز الذي أبرز الصلة بين السياسة والحرب، إذ رأى أن ((الحرب ليست فنًا ولا علمًا هي أكثر من ذلك هي شكل من أشكال الوجود الاجتماعي، إنها نزاع بين المصالح الكبرى يسويه الدم… ومن الأفضل بدلًا من مقارنتها بالتجارة التي هي أيضًا نزاع بين المصالح والنشاطات البشرية. وهي أكثر شبها بالسياسة التي تعتبر بدورها، ولو بجزء منها على الأقل، نوعًا من التجارة على مستوى عال. إن السياسة هي الرحم الذي تنمو فيه الحرب، وتختفي فيه الملامح التي تكونت بصورة أولية، كما تختفي خصائص المخلوقات الحية في أجنتها…)).
نجد مفهوم أو مصطلح الاستراتيجية في اللغات الأوروبية أو اللغات الإغريقية/اللاتينية المختلفة. وترتبط بمصطلحات فن القيادة والحركة والقوة والخديعة والوسائل والتخطيط منذ أيام الإسكندر المقدوني إلى نابليون بونابرت ومونتغمري. ومنذ القرن الثامن عشر بدأ الفرز بين الاستراتيجية والحرب، وتم تبني مفهوم ثلاثي الأبعاد من السياسة والحكومة والحرب، إذ تحدد السياسة أهداف الحرب في إطار حكومة البلد، ومن هنا عدّ كلاوزفيتز ((الحرب استمرار للسياسة بوسائل أخرى. الحرب ليست فقط عمل سياسي، لكن أداة سياسية حقيقية، متابعة للأهداف السياسية، تحقيق لها بوسائل أخرى)). أما الجنرال الفرنسي لوسيان بوارييه فقد روج للاستراتيجية الكاملة (في تخطي للجدل حول الأولوية للسياسة) ورأى في الاستراتيجية سياسة في إطار الفعل أو التطبيق بمناورة ومهارة. وهكذا فضل الفرنسيون في الخمسينيات من القرن الماضي مفهوم الاستراتيجية العامة. أما الأميركيون منذ بدايات القرن العشرين، فقد فضلوا الحديث عن استراتيجية قومية، قسموها مؤخرًا إلى استراتيجية الأمن القومي (تتعلق بالاستراتيجية الكبرى) واستراتيجية الأمن العسكري. وقد ميز الروس في حقبة الاتحاد السوفياتي بين السياسة العسكرية والاستراتيجية العسكرية. ويمكن أن نفسر رفض الروس الاستراتيجيةَ الكبرى على أنه رفض من جانب الحزب الشيوعي لإخضاع الغايات السياسية للوسائل، في إشارة واضحة إلى اقتسام سلطته المطلقة مع المتخصصين.
إذًا، الاستراتيجية اليوم في صلب نظريات الأمن القومي وإدارة الدول. وقد تطورت بعدما كانت تدعى في الماضي “علم عسكري” (خاصة في العصر الروماني)، أو “فن الفروسية” (في العصر الوسيط)، أو ” فن الميليشيات أو الوحدات” (مع بداية العصر الحديث)، حتى وصلت إلى “فن الحرب”(تسمية بدأت تفرضها نفسها مع بداية القرن الثامن عشر)، إلى أن أصبحت اليوم تتويجًا للتخطيط والرؤية.
وبحسب الكاتب الفرنسي هيرفيه كوتو Hervé Coutau: ((أنه لا المصريين القدماء ولا الأشوريين، ولا حتى الفرس لم ينتجوا اتفاقيات عسكرية أو مفاهيم تقترب ولو من بعيد من مفهوم الاستراتيجية أو التكتيك)). ويضيف: ((بالنسبة للشرق الأقصى، فقد تحدث الهنود عن مفاهيم أقرب للسياسة منها إلى الاستراتيجية. أما الحضارة اليونانية، فقد تحدثت من خلال مؤرخيها عن وعي بالأبعاد العليا والراقية لفن الحرب وعن العلاقة بين الحرب والسياسة وهذا ما ندعوه اليوم “استراتيجية “. ولكن هذا لا يعني صياغة علم أو نظرية للاستراتيجية حسب المفهوم الحديث)).
العرب والمسار الاستراتيجي
ترتبط مبادئ الاستراتيجية عند العرب بتاريخ الحروب منذ نشأة الإسلام. ووفق النظرية الإسلامية الكلاسيكية يقسم العالم إلى “دار السلام” و”دار الحرب”. وهكذا على وقع الفتوحات في البدايات، ومعارك إمبراطوريات الخلافة الإسلامية مع خصومها من الفرس والبيزنطيين والمغول والصليبيين، كان العرب هم النواة المقاتلة، وارتبط تاريخهم العسكري بخلفية “الجهاد” و”الحرب المقدسة”. ويرى اللواء الركن محمد جمال الدين محفوظ أن ((الباحث المحقق لا يجد في الإسلام كل ما تحتويه النظريات العسكرية المعمول بها في الشرق أو الغرب فحسب، بل إنه ليكتشف بالتحليل والمقارنة أن نظريات الإسلام الحربية تتجاوز تلك النظريات وتتفوق عليها سواء من الناحية الفنية البحتة أو من حيث نبل المقاصد والأهداف)). بعيدًا عن الشحن العاطفي يمكن القول بالفعل أنه نشأت في المدينة بعد الهجرة أول مدرسة عسكرية في تاريخ العرب. استمرت نظريات العسكرية الإسلامية في شؤون الحرب والقتال المختلفة في بلورة استراتيجيات متأقلمة مع وقائع الحقبات التاريخية حتى الانهيار العسكري في الأندلس اواخر القرن الخامس عشر.
بعيدًا عن أمجاد لم يصنعها العرب وحدهم بل كانوا أبرز المسهمين فيها قبل بدء الانحطاط؛ أتى العهد العثماني ومرحلة السيطرة الاستعمارية ليطيلا السبات الاستراتيجي العربي قبل بدء الإرهاصات للمحاولة النهضوية الأولى عشية الحرب العالمية الأولى. لكن منذ “اتفاق سايكس – بيكو” و”وعد بلفور” إلى الحرب ضد العراق في عام 2003 ومرحلة التفكك العربي من ضمن مخاض “الربيع العربي” منذ بداية العقد الثاني في هذا القرن؛ تزامنت الهجمة الخارجية المستمرة على العرب جغرافيًا وتاريخيًا وإنسانيًا مع فشل دول الاستقلال والمحاولات النهضوية بسبب عدم قيام التحول الثقافي المنشود وإيجاد النموذج الملائم للحداثة على الطريقة العربية.
يمكن القول إن الاستراتيجيات العربية الرسمية حيال المسألة الفلسطينية أو إبان الحرب الباردة وما بعدها لم يحالفها النجاح، وكانت مفخخة من داخلها بعناصر الانقسام والشعور الوطني الضيق أو التبعية للقوة الخارجية. عبر تاريخهم المعاصر لم يجمع العرب عناصر قوتهم ومن لا يحسن الحرب لم يحسن في خيارات السلام، نظرًا لغياب الاستراتيجيات الناجعة وترنح النظام الإقليمي العربي في إثر حرب 1967 قبل القضاء عليه في إثر سقوط بغداد في إبريل 2003.
أضاع العرب الخيارات وتحديد اتجاهات البوصلة الإقليمية والدولية إبان الحرب العالمية الأولى وانهيار الامبراطورية العثمانية، وخرجوا خاسرين من حبكة إعادة صياغة خريطة الإقليم، لم يتنبهوا بقدر كاف إلى حجم ما جرى في الحرب العالمية الثانية (1939 1945) التي كانت آخر مواقع الصراع الكبرى على مسرح التاريخ الإنساني، حيث صُهِر العالم كما نعرفه الآن، وظهرت القوى الغالبة في هذا العصر. وكانت الولايات المتحدة الأميركية هي القوة التي انتصرت في تلك الحرب، وكان شريكها الأكبر في تحقيق النصر هو الاتحاد السوفياتي، لكن وسيلة النصر لدى كل منهما حددت وحسمت أيهما يملك الزمان الجديد، أو على الأقل يسيطر عليه. لكن الحرب الباردة حسمت الأمر لمصلحة واشنطن، ودفع العرب الثمن خلال الحرب الباردة كما في ترتيبات ما بعدها إثر حرب الخليج الثانية التي سببها الغزو العراقي للكويت، والتي تزامنت مع سقوط الاتحاد السوفياتي.
وهذا الإخفاق في الترقب والمتابعة الاستراتيجية عند اللاعبين العرب ربما يتصل بتهميش التفكير الاستراتيجي في بلاد العرب، ليبقى مهيض الجناح من دون ميزانيات كافية وبيئة حرة وطبقة سياسية تعلي المصلحة العامة على الاختلافات والتفرقة في مواجهة المخاطر والتحديات. وصياغة الاستراتيجيات لا يمكن أن تأتي من فراغ أو تبعًا لرغبة أو نزوة الحاكم، بل يجب أن يتوج مسارًا يجمع بين التفكير والتدبير والواقعية السياسية. ولهذا نستنتج ندرة في الفكر الاستراتيجي في البلدان العربية، والقليل من المفكرين أو الضالعين في هذا الشأن. ومن دون شك، تلعب عوامل التفكك والتفرقة والتبعية والغيبية (الاسطورة الدينية) دورًا أساسًا في حالة غياب الوزن الاستراتيجي وغياب الرؤية الاستراتيجية. ويتفاقم ذلك مع غياب المشروع الاستراتيجي العربي المشترك في مواجهة المشروعات الإقليمية والخارجية الأخرى، ويسري أمر الانكشاف الاستراتيجي على غياب المشروعات الاستراتيجية الخاصة بالأمن الوطني لدول بمفردها، ومنها الدول التي كانت يومًا دول المواجهة مع إسرائيل، أو الدول التي تعاني التوسع الإيراني، أو تلك التي تواجه التحديات حول مصادر مياهها أو ممراتها.
لم تنفع القصائد والتذكير بالبطولات وبيع الوهم في غياب تجميع عناصر القوة الذاتية لبناء أي مشروع استراتيجي استنادًا إلى الإمكانات والقدرات والأهداف قبل التعويل على التحالفات والرهان على الخارج. من أهم الأدوات لمواجهة الخصوم، ضمن صناعة موازين قوى مواتية، يلورة قواعد من التأثير والفاعلية، ورصد المخاطر والتحديات على الامتداد الجغرافي. ويتوقف نجاح أي مشروع على حسن إدارة الصراع، وإدارة الأزمات، وإدارة الفرص، ما ينقل المعنيين من دائرة القول والاهتمام إلى الفعل والفاعلية الاستراتيجية.
بدأ الزمن العربي العسير في حزيران/ يونيو 1967، وتهاوى النظام الاقليمي العربي مع الدخول الأميركي إلى بغداد في 2003. والآن في حقبة الزمن الرديء يتأكد الانكشاف الاستراتيجي العربي من حوض وادي النيل (تهديد الأمن المائي والاستقرار من أزمات السودان إلى سيناء وليبيا) إلى حروب سورية والعراق التي تنخر في المشرق الذي تبقى فيه الدولة الفلسطينية سرابًا، مرورًا بمنطقة شبه الجزيرة العربية التي تتعاظم حولها المخاطر من حرب اليمن إلى أمن الخليج ووضع سوق الطاقة. ولا تشذ الدول العربية في شمال أفريقيا والقرن الإفريقي عن تداعيات غياب الحصانة الذاتية في أكثر من مكان، ومساعي القوى الإقليمية والعالمية الأخرى لفرض معادلاتها على مقاربات أمن المواقع العربية في غياب الحد الأدنى من آليات الاندماج نتيجة انهيار كثير من الدول المركزية، وغياب الرغبة في التنسيق بين بعضهم، وعدم حسن استخدام عناصر القوة عند بعضهم الآخر.
والأدهى اليوم الترويج للواقعية بأي ثمن في أروقة السياسة العربية المعاصرة من أجل الاستسهال وعدم استخلاص الدروس وصياغة استراتيجيات واستشراف آفاق. ويمكن تفسير ذلك بغياب الخيار الديمقراطي أو احترام الكفاية ومفهوم خدمة الوطن في مواقع القرار العربي. أشار ابن خلدون يومًا إلى ترهل الأمم وانتقالها من العز و العزة المرادفة للعصبية بحسب تعبيره، ولا يعود ذلك للعوامل الداخلية فحسب، بل للعبة أمم مديدة شددت على تجريد العرب من ثرواتهم وعناصر قوتهم، ولم يتمكنوا مواجهتها بسبب عدم استيعاب تغييرات المناخ العالمي في اللحظة المناسبة، مثل الرهان على انكلترا أو فرنسا في لحظة معينة أو التعويل على ألمانيا النازية، وكذلك غياب القراءة الجيدة للتاريخ عند انهيار الاتحاد السوفياتي، وفي الإجمال ثمة قصور في التعامل مع حجم المصالح العالمية في المنطقة، وسوء تقدير يقتضي ضرورة تطوير أساليب فهم الآخرين وطرق المواجهة.
يتبين لنا بوضوح انعكاسات الانكشاف الاستراتيجي في التجاذبات حول الموارد وطرق المياه والنفط والغاز. ومن المفارقات اللافتة تمادي غياب التنبه إلى أهمية الموقع الجيوبوليتيكي الفريد للعالم العربي في قلب الكرة الأرضية. تحتضن الجغرافية العربية مجالًا طبيعيًّا بشريًّا، واجتماعيًّا، واقتصاديًّا وسياسيًّا يمتد من الخليج العربي شرقًا إلى المحيط الأطلسي غربًا، ومن البحر المتوسط شمالًا إلى البحر الأحمر فالمحيط الهندي جنوبًا. تصل المساحة فيه إلى حوالى 13.6 مليون كلم2، تُقيم عليها كتلة سكانية تقدر بحوالى 360 مليون نسمة، وهي تتميز بوحدة المدى الجغرافي وبالتفاعل الكثيف بين وحدات النظام الإقليمي فيها. بيد أن ما أنعمت به الطبيعة لم يتمكن البشر المحافظة عليه، وكان لتبديد عناصر القوة وغياب إتقان لغة الواقعية السياسية في ما يخص التوازنات والتحالفات ولعبة المصالح والمحافظة على الثروات؛ أكبر الأثر في الوصول إلى هذا الانكشاف الاستراتيجي. إزاء التدهور نحو الانحطاط لا بديل من مشروع تجديد عربي نهضوي قبل فوات الأوان.
في زمن الاضطراب الاستراتيجي عالميًّا وفي زمن الزلازل الإقليمية المتواصل (منذ دخول القوات الأميركية إلى بغداد في إبريل 2003، بدأ زمن الانكشاف الاستراتيجي العربي مع صعود ثلاث قوى إقليمية غير عربية أي إسرائيل وتركيا وإيران. وتفاقم تهميش الموقع العربي مع انهيارات السنوات الأخيرات في سياق الفوضى التدميرية غير الخلاقة، وإفشال بزوغ تحولات “الربيع العربي”) تكمن أهمية تجميع عناصر القوة تجميعًا عقلانيًّا ومحسوبًا في الزمان والمكان وتحديد الأهداف وفق طبيعة المرحلة.
يطرح كل تموضع استراتيجي أسئلة كثيرة حول طبيعة المخاطر وأولوية التهديدات والتحالفات مع اللاعبين الكبار. والسؤال الأول يدور حول الأفضلية بين المشروعات العربية المشتركة أو المشروعات بالشراكة مع قوى إسلامية أخرى أو حليفة، والجواب واضح، إذ لا شيء يمنع وجود هيكليات عدة، وفي أوروبا أكثر من مثل؛ إذ تشارك دولة مثل فرنسا في تحالفات عدة لا تتناقض أهدافها. والأهم هو إيجاد مؤسسات، ورصد إمكانات، وعدم البقاء في المجال النظري. أما السؤال الثاني حول طبيعة المخاطر فمن الواضح اليوم أن الحدود الدولية للعالم العربي يواجهها نمطان من المشكلات على الأقل:
- مشكلات الحدود الخارجية.
- احتمالات التقسيم كما حصل مع السودان او احتمالات البلقنة الداخلية من العراق الى سورية وليبيا واليمن، وربما بلدان عربية أخرى. أضف إلى ذلك أن العالم العربي يتعرض لتهديد بحبس المياه عنه؛ إذ تنبع أنهاره الكبرى (كالنيل ودجلة والفرات) من أراضٍ أجنبية، وترتبط الأوضاع الجيوبوليتيكية للحدود العربية بما يسمى “حروب المياه”، ولا يمكن التقليل من أهمية موارد البترول والغاز في مقاربة مصادر الخطر.
من خلال قرن الفشل الاستراتيجي العربي أي القرن العشرين، ومع البدايات العنيفة في هذا القرن، يبدو العالم العربي مسرحًا أو ملعبًا للنفوذ، وليس فاعلًا في تقرير مصيره. إضافة إلى العجز أمام إسرائيل، يبرز الآن المشروع الإمبراطوري الإيراني، وغول الإرهاب والفتنة، ولذا يجب التأكيد أن مصير هذه المنطقة يجب أن يبقى بعهدة أبنائها، وبأن مشروعات التقسيم وإعادة التركيب والخرائط الجديدة ليست قدرًا دوليًّا، وأن أي تركيبة بديلة من سايكس بيكو لن تمر على حساب المكون العربي في الإقليم، ولا على حساب وحدة شعوب الدول وأراضيها.
أمام تداعيات غياب الحصانة الذاتية في أكثر من مكان، ومساعي القوى الإقليمية والعالمية الأخرى لفرض معادلاتها على مقاربات أمن المواقع العربية، لا يمكن القول بأن هناك رؤية جيوبوليتيكية واضحة للعالم العربي المعاصر، فعلى مدى قرون عدة شغل العالم العربي “بإزالة عدوان” الأطماع الجيوبوليتيكية للقوى العالمية التي اجتاحت أراضيه، واستغلت ثرواته.
إذا ما قدر للعالم العربي أن يُفيق من مشكلاته، لا بد من مقاربة المصالح الجيوبوليتيكية وفق التبادل والتكامل أو وفق موازين القوى مع ما يجاوره من دول ومشروعات وتكتلات، ومن هنا لا بديل من مشروع استراتيجي عربي يبدأ بالحد الأدنى، ويتطور مع الأخذ بالحسبان أن للعالم العربي رصيدًا حضاريًّا كبيرًا في الدوائر التي تحيط به، من مثل دائرة البحر الأبيض المتوسط والدائرة الأفريقية ووسط وشرق آسيا. ومع حد معقول من التجمع الاستراتيجي ومن الشورى الديمقراطية الداخلية. ستصبح الفرصة سانحة أمام التفاعل الحضاري مع الأصدقاء وفرض الاحترام مع جيرانه، القوي منهم والضعيف، وهذا كفيل بأن يجعل العالم العربي -حتى بعد نفاد النفط- قوة لا يستهان بها.
.