المحتويات
ثانيًا: انعطافة في المسار الأميركي
خامسًا: استقالة ماتيس وخيبة الحلفاء
سابعًا: مناطق حيوية اقتصاديًا وسياسيًا
أولًا: مقدمة
كان لقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بسحب قواته من سورية وقع “القنبلة” على الجميع؛ من مسؤولين في إدارته، إلى حلفائه المحليين والإقليميين والدوليين، وصولًا إلى خصوم واشنطن. فهذا القرار وما رافقه من غموض استراتيجي، أثار ضيق المسؤولين في إدارته وفي الكونغرس، وأطلق انتقادات حادة ضده، حتى من زملائه “الجمهوريين”. فرأى السيناتور الجمهوري ماركو روبيو أن انسحاب القوات الأميركية من سورية سيكون “خطأ فادحًا تتجاوز تداعياته المعركة ضد داعش”، وعدّ السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام أنه سيكون “انتصارًا كبيرًا لتنظيم داعش وإيران ونظام الأسد وروسيا”، بل “سيؤدي إلى عواقب مدمّرة على أمتنا والمنطقة والعالم بأسره”.
ثانيًا: انعطافة في المسار الأميركي
لأشهر خلت، بدا كأن واشنطن تزيد انخراطها في الشأن السوري، حيث قامت بتوسيع قواعدها العسكرية وتدعيمها، وزادت من تسليح حلفائها في “قوات سوريا الديمقراطية” وتدريبهم، وأعلنت نيّتها في تدريب نحو 30 إلى 40 ألف مقاتل محلي، ترافق ذلك مع إرسال دول غربية (فرنسا وبريطانيا وإيطاليا) قوات خاصة إضافية لتنضم إلى الوحدات الأميركية التي تضم ألفي عنصر.
وفي سياق ذلك، وجّهت واشنطن تحذيرًا لتركيا بأن “أي تورط عسكري يستهدف شرق الفرات”، حيث توجد القوات الكردية المتحالفة معها. وكان البنتاغون أقام مراكز مراقبة أميركية على طول الحدود التي تفصل المنطقة التي يسيطر عليها الأكراد مع تركيا، بغرض تجنّب أي احتكاكات بين الطرفين، وطمأنة الجانب التركي إلى عدم حدوث أي اختراق لحدوده.
ولأشهر خلت أيضًا، حاول مسؤولون أميركيون، مدنيون وعسكريون، ومنهم جون بولتون، مستشار الأمن القومي، وجيمس جيفري، المبعوث الأميركي الجديد إلى سورية، العمل على عودة الدور الأميركي وتنشيطه في سورية والمنطقة ككل. ربط هؤلاء الوجود الأميركي في سورية بتحقيق ثلاثة أهداف؛ هزيمة داعش، واحتواء إيران، وتحقيق حل سياسي بموجب القرار 2254.
ذلك كله تجاهله الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وبادر فجأة إلى إعلان أنّ “تنظيم داعش هُزم” في سورية، وعلى القوات الأميركية الموجودة هناك “العودة إلى الديار في انسحاب كامل وسريع”. من هنا، جاءت المفاجأة في “إعلانه”، إذ كان له وقع “القنبلة” على الجميع؛ من مسؤولين في إدارته، إلى حلفائه المحليين والإقليميين والدوليين، وصولًا إلى خصوم واشنطن؛ سواءً في سورية أم في الشرق الأوسط والعالم ككل.
وقد حصلت “المفاجأة”، على الرغم من أن ترامب كان يدعو إلى هذا الانسحاب منذ حملته الانتخابية، وكان على وشك اتخاذ قرار بذلك في شهر آذار/ مارس الماضي، لكن حلفاءه ومستشاريه تمكنوا إقناعه بتأجيله آنئذٍ، بمسوّغ “أن هزيمة داعش لم تكتمل بعد”.
بعد أن أعلن القرار، ليست المناقشة مهمة في مدى صحة قول ترامب بأن “داعش قد هزم” أم لا، فبعض مسؤوليه أنفسهم كانوا قد صرّحوا قبل ساعات من إعلان قراره أنّ “داعش ما يزال قائمًا، وما يزال يُشكّل تهديدًا”.
في هذا الصدد، أعرب محللون عن خشيتهم من أن يساعد القرار الأميركي في إعادة ترتيب تنظيم “داعش” لصفوفه، ومعاودة إحياء نشاطه على نحو أكثر فاعلية وخطورة. وبحسب تقرير للبنتاغون يوجد ما لا يقل عن 14000 عنصر من تنظيم “داعش”، على الرغم من انحسار سيطرته في جيوب صغيرة، بعد دحره من مناطق واسعة في العراق وسورية. وحذر مسؤولون أكراد بدورهم من أنّ أيّ هجوم تركي عليهم سيعني انسحاب مقاتليهم من جبهة القتال الأخيرة ضد “داعش” للدفاع عن مناطقهم شمالًا.
وكان ترامب سوغ قراره، ليس بهزيمة “داعش”، بل بقوله إنه “حان الوقت أخيرًا لكي يُقاتل الآخرون”، وغرّد متسائلًا: “هل تريد الولايات المتحدة أن تكون شرطي الشرق الأوسط؟ وألا تحصل على شيء (مقابل ذلك) غير خسارة أرواح غالية وإنفاق تريليونات الدولارات لحماية أشخاص لا يثمنون -في مطلق الأحوال تقريبًا- ما نقوم به؟”.
ثالثًا: الاتصال مع أردوغان
بحسب المعلومات المتداولة، فإن القرار اتخذ بعد اتصال هاتفي مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (14/ 12/ 2018)، علمًا أنّ الأخير كان يُهدّد علنًا، ويحشد قواته والفصائل السورية المسلحة الموالية له، للتوغل شرق نهر الفرات منذ مدة.
الطريف في المعلومات التي يجري تناقلها عن فحوى الاتصال، أنّ أردوغان سأل ترامب عن موعد الانسحاب من سورية، فاستغرب الأخير استمرار وجود قواته، حتى الآن، و”غرّد معلنًا سحبها مباشرة”. وعلى طرافة مثل هذا الأمر وغرابته، وأن يكون سيد البيت الأبيض لا يعرف إن كانت قواته ما زالت موجودة في سورية أم لا؟ مع حساسية هذه المنطقة وأهميتها البالغة، فإنّ ذلك ليس مستبعدًا تمامًا، بالنسبة إلى رئيس كهذا، بخصاله ومواصفاته المعروفة والفريدة، على الرغم من كونه قائد أقوى دولة في العالم؟.
في هذا السياق، افترض محللون أنّ قراره لا يخلو من “المزاجية وعقلية المضاربة وعقد الصفقات”، إذ إنه خطوة تبدو أشبه بـ “خلط لأوراق اللعبة السورية كلها”، للإفساح في المجال أمام ترامب لفتح “بازارات سياسية” مع كل الأطراف المعنية؛ وبخاصة روسيا وتركيا، بما يتصل باحتمالات الضغط أو المقايضة في ملفات داخل سورية وخارجها، وذلك في سياق السباق (الذي انطلق فورًا)، لملء الفراغ الذي ستخلّفه أميركا في المنطقة.
ذُكر كذلك، أنّ عقد بعض صفقات الأسلحة مع أنقرة ربما يكون قد ساهم في اتخاذ قرار ترامب، مثل بيعها منظومة “باتريوت” الأميركية بقيمة 3,5 مليار دولار، وإقرار صفقة مقاتلات “إف 35” للجيش التركي. وترافق ذلك مع تسريبات تفيد بأن واشنطن “تبحث تسليم المعارض التركي فتح الله غولن”.
رابعًا: تداعيات داخلية
إلى ذلك، فقد رجّحت مصادر دبلوماسية أن يكون القرار صدَرَ على خلفية “حسابات تتعلق بالصراعات الداخلية التي تشهدها مراكز صناعة القرار في واشنطن”. وخلص كثيرون إلى أن ترامب اتخذ قراره منفردًا، من دون استشارة أي من أركان إدارته، وربما حتى إبلاغ أيٍّ منهم بقراره، بما في ذلك بريت ماكغورك، المبعوث الأميركي إلى التحالف الدولي للحرب ضد “داعش”، وكذلك المبعوث المكلف بالملف السوري السفير جيمس جيفري.
وعليه، فقد خلق القرار المفاجئ توتّرًا بين البيت الأبيض وبقية أركان إدارته، تمثّل في استقالة جيم ماتيس، وزير الدفاع، أعقبتها استقالة ماكغورك، (نتيجة خلاف قوي مع قرار ترامب)، كما قالت المصادر الأميركية، ما ينبئ بتخبّط كبير داخل الإدارة الأميركية تجاه السياسات الخارجية المُتبَّعة.
خامسًا: استقالة ماتيس وخيبة الحلفاء
لم تكن استقالة ماتيس مفاجئة، بل كانت منتظرة، إذ لطالما تجاهل ترامب نصائحه، وتصادم الرجلان بشأن موضوعات شتى، ومنها قرار الانسحاب من سورية، الذي “كان من العوامل التي ساهمت في استقالته”، كما أكّد أحد المسؤولين. ولكنّ بيان استقالته تضمنّ أيضًا أنّه “لم يعد في استطاعة حلفاء الولايات المتحدة الاتكال عليها”، مفترضًا أنّ “قوّة النظام الأميركي تقوم على التحالفات والشراكات”، ومذكّرًا الرئيس بقتال “الدول الـ 29 في الحلف الأطلسي إلى جانب بلاده بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001”.
شكّل قرار ترامب صدمة لحلفائه الغربيين الذين لم يجرِ التشاور معهم أبدًا به، ورأى عدد من العواصم الغربية أنّ “الأضرار التي سوف تنجم عنه كثيرة وبالغة، وتطيح الأهداف التي كانت منتظرة من الحضور العسكري الأميركي في سورية”.
لخَّصت مصادر دبلوماسية غربية، “ما كان منتظرًا من الحضور الأميركي”، أربعة أمور أساسية: أولها؛ القضاء على “داعش”، وثانيها إيجاد “توازن استراتيجي” مع الوجود الروسي – الإيراني – التركي، وثالثها الإفادة من هذه “الورقة” للتأثير في مسار الحل السياسي المنتظر في سورية، ورابعها “احتواء سياسة طهران الإقليمية بدءًا من سورية”. لكنّ التعليقات الغربية الرسمية انحصر أغلبها في نقطة واحدة؛ هي الحرب على “داعش”، إذ افترضت أنّ “داعش” “لم يمَّحِ من الخريطة ولم تُجتث جذوره بعد”.
السؤال المطروح الآن، وخصوصًا على باريس ولندن وروما، يتصل بمستقبل حضورهم العسكري في شمال شرق سورية بعد الانسحاب الأميركي. فالرئيس الفرنسي -وبعد أن أسف للقرار الأميركي- أعرب عن أنه “لا يجوز ترك “قوات سوريا الديمقراطية” لمصيرها، كما لا يجوز التخلي عن الحلفاء في منتصف الطريق”.
لكن ماكرون لم يُشر إلى ما تنوي حكومته القيام به، وما هو ردّها على الطلبات التي تقدّمت بها “قوات سوريا الديمقراطية” لباريس؛ ومنها: “توفير الدعم الدبلوماسي والضغط على تركيا لمنعها من اجتياح مناطق وجودها، والإبقاء على الوحدات الفرنسية هناك حتى بلورة حل سياسي”.
سادسًا: غموض وتخبط استراتيجي
نقلت مصادر أميركية أنّ قرار ترامب ورحيل ماتيس، و”الغموض الاستراتيجي الذي رافق ذلك”، هو ما أثار ضيق المسؤولين في الإدارة الأميركية وفي الكونغرس. وأطلق انتقادات حادة، على نحو غير معتاد، من زملاء ترامب “الجمهوريين”. فرأى السيناتور ماركو روبيو أن انسحاب القوات الأميركية من سورية سيكون “خطأ فادحًا تتجاوز تداعياته المعركة ضد داعش”. وافترض زميله الجمهوري المتشدد (ليندسي غراهام) أن ذلك سيكون “انتصارًا كبيرًا لتنظيم داعش وإيران ونظام الأسد وروسيا”. بل ذهب حدّ القول إنه “سيؤدي إلى عواقب مدمّرة على أمتنا والمنطقة والعالم بأسره”.
انتقد ماك ثورنبيري، كبير الجمهوريين في لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب، خطة ترامب لسحب قوات من أفغانستان، وهو قرار مفاجئ آخر اتخذه ترامب، وقال إنّ “خفض الوجود الأميركي في أفغانستان، وإنهاء وجودنا في سورية سيُلغي التقدم (الأميركي)، وسيشجع أعداءنا وسيجعل أميركا أقل أمنا”.
توصلت التحليلات أغلبها إلى استنتاج مفاده أن جناحًا واسعًا داخل الإدارة يعارض الانسحاب الأميركي من سورية، ويقوده مستشار الأمن القومي جون بولتون الذي سبق أن صرح مرارًا بأن القوات الأميركية باقية في سورية لضمان عدم عودة “داعش”، وكذلك لمواجهة “تمدّد النفوذ الإيراني”.
سابعًا: مناطق حيوية اقتصاديًا وسياسيًا
يجدر التنبيه إلى أن المنطقة المعنية بالانسحاب الأميركي تشمل نحو ثلث مساحة سورية، (شرق نهر الفرات، وقاعدة التنف، ومدينة منبج). وتوجد في هذه المناطق، إضافة إلى الأكراد عشائر عربية عدة، وتضم عشرات آلاف المقاتلين من الكرد والعرب، فضلًا عن بقايا “داعش”.
وتشمل هذه المناطق؛ الزاوية الحدودية السورية – العراقية – التركية، وكذلك زاوية الحدود السورية – العراقية – الأردنية، وتقع فيها حقول النفط معظمها، ونصف الغاز السوري، إضافة إلى زراعات القطن والحبوب معظمها.
كان المسؤولون الأميركيون يعدّون وجودهم العسكري في هذه المناطق يساهم في الحدّ مما يسمّونه “نشاط إيران الخبيث” في المنطقة عمومًا، بما في ذلك منعها “إقامة جسر بري يصل بين طهران وبيروت”، ومنعها كذلك ترسيخ الوجود “الميلشياوي” الموالي لها الذي بنته خلال سنوات الحرب في سورية وتعزيزه. أما الآن، فإنّ طهران ستنسب إلى نفسها الفضل في “إجبار واشنطن على الانسحاب من سورية”، وستصور الأمر انتصارًا لها في الميدان.
وثمة من يظن داخل أميركا وخارجها، أنّ ما قام به الرئيس ترامب يمكن أن يُقوّض استراتيجيته المعلنة تجاه إيران، وقد يَحدُّ من أثر انسحابه من الاتفاق النووي معها، وتأثير العقوبات المفروضة عليها، ما لم يكن الإجراء مقدّمة لمواجهة أوسع معها، تشمل مختلف مناطق نفوذها ووجود أذرعها العسكرية في المنطقة.
يُذكر هنا أنه كان من بين المطالب (الشروط) الاثني عشر التي وجهها وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إلى إيران لتوقيع اتفاق نووي جديد معها؛ “ضرورة قيام طهران بسحب كافة القوات العاملة تحت قيادتها من أنحاء سورية جميعها”، ويتساءل مراقبون: “إذا لم تقم واشنطن نفسها بما يجب عليها لتحقيق هذا المطلب، فلِمَ قد يفعل ذلك أي طرف آخر؟” (من قبيل المراهنة على روسيا مثلًا، للقيام بذلك).
إلى ذلك، توقع محللون أن يؤدي قرار ترامب إلى تعزيز احتمالات المواجهة العسكرية بين إسرائيل وإيران، فضلًا عن زيادة احتمال نشوب ضربات واعتداءات عسكرية إسرائيلية ضد مواقع في سورية ولبنان بذريعة وجود أسلحة لـ”حزب الله” فيها، مثلما جرى أخيرًا في سورية، إضافة إلى الإعلان الإسرائيلي كشف مستودعات للصواريخ الدقيقة في مواقع مدنية لبنانية، علاوة على كشف “الأنفاق الحدودية” التابعة لـ “حزب الله” التي قد تشكل تمهيدًا لأي عمل عسكري جديد ضده.
ثامنًا: “صاعقة” في “إسرائيل”
كان قرار ترامب نزل كـ “الصاعقة” على رؤوس قادة “إسرائيل”. ووصفه بعضهم بأنه “بمنزلة ضربة لإسرائيل، واستجابة مجانية لمطالب دمشق وطهران وموسكو برحيل القوات الأميركية”، وذلك في توقيت سيئ جدًا بالنسبة إلى تل أبيب، لجهة علاقاتها المتوترة مع موسكو. وعدّت بعض التحليلات في الصحف الإسرائيلية أن القرار “يهدم تمامًا الاستراتيجية الأميركية الأوسع في سورية، ويهدم محور سياسة إدارة ترامب، وهو مواجهة إيران”.
رأى بعض المعلقين أنّ القرار “شكل ضربة لـ “إسرائيل” أكثر من غيرها، ولرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو”، على وجه الخصوص، لأنّه بقيادته “علّقت “إسرائيل” آمالها كلها على الدعم الأميركي المتواصل والثابت”، إذ يوصف نتنياهو بـ “الأسير والمتيّم الكلي” بترامب. وكان قد صرّح في وقت سابق، أن “واشنطن لن تغادر سورية قبل أن تغادرها إيران”.
في هذا الشأن، قالت وسائل إعلام إسرائيلية إن “ضربة” ترامب جاءت في أسوأ توقيت بالنسبة إلى نتنياهو، في ظل ملفات الفساد التي تلاحقه، والانتخابات المبكرة، والاتهامات الداخلية التي توجّه له بأنه “أظهر انضباطًا في المواجهات الأخيرة مع غزة”، خصوصًا بعد فرض القيود على تحركات الطيران الإسرائيلي في أجواء سورية في عقب إسقاط الطائرة الروسية في أيلول/ سبتمبر الماضي.
أشارت صحيفة “هآرتس” إلى أنّ هناك درسًا واحدًا يجب على إسرائيل تعلمه وهو، “لا يمكن الاعتماد على (ترامب)، على الرغم من تعاطفه مع إسرائيل، وعلى الرغم من أنّه محاط بعائلة ومستشارين وأشخاص يهود”.
زيادة على ذلك، رأت الصحيفة أن ترامب قد يغير موقفه على نحو مفاجئ، حتى من إيران، مثلما فعل ذلك سابقًا مع كوريا الشمالية، إذ أعلن فجأة “نهاية التهديد النووي الذي تشكلّه في شبه الجزيرة الكورية”؟، والتقى رئيسها كيم جونغ أون بحفاوة بالغة.
تاسعًا: سيناريوهات عدّة
على النقيض من ذلك، ذكرت مصادر في الكونغرس أن ترامب قد يتراجع عن قراره، إنما من دون إعلان ذلك، وأنّ المخرج الملائم قد يكمن في “التحايل على موعد الانسحاب أو الجدول الزمني المطلوب لإتمامه”، وهذا أحد السيناريوهات المطروحة، على الرغم من ضعفه.
في الواقع، تعدّدت القراءات والتحليلات المتعلقة بمرحلة ما بعد الانسحاب الأميركي من سورية، وقد طُرحت في سياق ذلك احتمالات وسيناريوهات عدة، أهمها هو احتمال الدخول التركي لمنطقة شرق نهر الفرات، (بعد الحصول ليس على ضوء أخضر أميركي فحسب؛ بل على تفويض بذلك)، وذلك بعد نشر فحوى الاتصال الهاتفي الثاني، (البنّاء؛ كما وصفه ترامب) الذي “أطلق خلاله الرئيس الأميركي يَدَ نظيره التركي، لـ”إتمام مهمة القضاء على “داعش”، وملء الفراغ الأميركي شمال شرق سورية”، حيث تنتشر “وحدات الحماية الشعبية الكردية” التي تعدّها أنقرة مرتبطة بحزب العمال الكردستاني (المصنّف لديها إرهابيًا) التي سعت بجهدها كله في ما مضى لوقف الدعم الأميركي المُقدّم لها.
لا تخفي تركيا مطامعها في بناء منطقة نفوذ لها في المناطق التي يسيطر عليها أكراد سورية، وتتمثل مصالحها المعلنة في “القضاء على أي كيان كردي محتمل، وملاحقة “حزب العمال الكردستاني”، إضافة إلى التفكير في إقامة شريط حدودي أمني بعمق 20 – 30 كيلومترًا”. قبل أسابيع حذرت أنقرة من أنّ العملية العسكرية ضد “وحدات الحماية” باتت وشيكة، قبل أن يعود الرئيس أردوغان ويعلن تأجيلها، في ضوء المُستجد الأميركي وبناءً على طلب روسي.
في الأحوال كلها، فقد استبعد المراقبون أن تندفع تركيا لـ”تعبئة الفراغ” على النسق الذي توحي به حملاتها الإعلامية ضد “قسد”، أو على النحو الذي يوحي به “التفويض” الأميركي، ورأوا أن الأمر لا يمكن أن يحصل، على الأرجح، من دون التنسيق في أعلى المستويات بين أنقرة وموسكو وطهران، “رعاة مسار آستانة”، آخذين بالحسبان أنّ “التفويض” الترامبي لأردوغان يمكن أن يصبح بمنزلة “لغم” قابل للانفجار بين العواصم الثلاث.
وقد جاء إعلان دخول القوات السورية إلى مدينة منبج (28/12)، (بعد طلب من “الأكراد” للمساعدة في مواجهة التهديدات التركية)، ليوضح أنّ حسابات الرئيس التركي وتهديداته بدخول المدينة، قد تذهب أدراج الريح، (حتى مع الاستقواء بالتفويض الأميركي)، وقد لا يجد أمامه سوى القبول بـ”الأمر الواقع” الجديد إذا أراد لتفاهمات “مسار آستانة أن تستمر، وخصوصًا أن موسكو لم تخفِ انحيازها في هذا الشأن إلى دمشق. وكانت مصادر إعلامية أشارت إلى أن موسكو أبلغت الرئيس التركي أنها “لن تقبل بأي تعدٍّ على منبج، وأن الأمر يجب أن يُترك للجيش السوري للتقدم نحوها”.
هنا يصبح السؤال مطروحًا بشأن مدى قدرة أنقرة على التوفيق بين تحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة من جانب، (وقد بدا التفويض الترامبي الأخير وكأنه يعيد ضخّ دماء جديدة في هذا التحالف بعد أن خضع لتجاذبات كثيرة خلال السنوات الأخيرة)، وتماهيها من جانب آخر مع السياسات الروسية (وبخاصة تجاه سورية)، واستمرارها شريكًا إقليميًا لها في مسار آستانة. وفي هذا الإطار، ينتظر المحللون القمة المرتقبة قريبًا بين الرؤساء الثلاثة (الروسي والتركي والإيراني) التي يمكن أن تعطي مؤشرات إلى الوجهة التي قد تقررها أنقرة بما يتصل بالسؤال السابق.
بهذا المعنى، تبدو تركيا، والدور الذي يمكن أن تؤديه مستقبلًا، أشبه بـ “بيضة القبان” التي يمكن أن تُثقّل كفة على أخرى في توازنات المنطقة التي تبدو في غاية الدقة والحراجة في الآونة الأخيرة.
عاشرًا: الأكراد
كان الأكراد قد وقع عليهم القرار الأميركي كـ “الصاعقة”، ووصفه بعضهم بـ”الطعنة الغادرة”، وبدت الصورة قاتمة بالنسبة إليهم، وخياراتهم جدّ محدودة. وتوقع محللون ألا يجدوا أمامهم سوى العودة إلى نظام دمشق والتعاون معه، لتفادي الهجوم التركي من جهة، وللمحافظة على الحد الأدنى من المكتسبات التي حققوها خلال السنوات الماضية، من جهة ثانية.
هنا لا بد من التوقف عند عدد من السياسات والخطوات التي أقدمت عليها غيرُ إدارة أميركية، وصبّت في حصيلتها لمصلحة خصوم واشنطن التقليديين لا حلفائها المفترضين. مثل الانسحاب المستعجل وغير المُنظم من العراق، الذي “قدَّمه على طبق من فضة لإيران”!. وكذلك الأمر بما يتعلق بالسياسات والمواقف التي دفعت بعض القوى أو الجماعات في المنطقة؛ إما إلى الارتماء في أحضان خصوم مُعلنين أو مُفترضين لأميركا، (كما يحصل الآن لحلفائها الأكراد في سورية، وكما حصل لأشقائهم أكراد العراق من قبل)، أ إلى الشطط والذهاب نحو التطرف والإرهاب (كما حصل بالنسبة إلى جماعات سياسية وبشرية سورية، كانت أقرب إلى الاعتدال، أو كان يمكن دفعها نحوه، لولا المواقف الأميركية التي أصابتها بالخذلان والإحباط).
طبعًا هذا لا يعني أبدًا أنه كان على إدارة ترامب أن تُفرّط بعلاقات واشنطن الاستراتيجية مع أنقرة من أجل الأكراد، ويُفترَض أنّ الأكراد كانوا على دراية بذلك، وينتظرون اللحظة التي تنتهي فيها الحاجة الأميركية إليهم، لتنتقل بعدها واشنطن إلى مستوى البحث في ما هو أبعد من “داعش”، (والقوى المحلية التي قامت بتوظيفها في سبيل محاربتها)، للبدء في التحضير للمرحلة الأهم، التي لا بد من الاعتماد فيها على قوى إقليمية كبيرة قادرة على الفعل والتأثير في توازنات المنطقة ككل.
في هذا السياق، رفضتْ دمشق اقتراحًا كرديًا بحماية الحدود وإبقاء عناصر “وحدات حماية الشعب” على سلاحهم داخل الحسكة، وطرحت في المقابل أن يكون للكرد وضع خاص داخل سورية، وفتْح الأبواب لهم للانضمام إلى الجيش السوري ضمن وحدة عربية – كردية.
أفادت بعض المصادر أنّ هناك إصرارًا روسيًا على “عودة سيادة الحكومة السورية على الأراضي السورية جميعها، بما في ذلك نقاط الحدود، مع قبول نوع من اللامركزية شمال شرق البلاد وشمالها الغربي”.
في ضوء ذلك كلّه، فإن احتمالات محافظة الأكراد على قدر كبير من الاستقلال تراجعت إلى حدٍّ كبير بعد القرار الأميركي، وهناك من يتوقع أن يتقاسم الأتراك والجيش السوري مناطق نفوذ وسيطرة “قوات سوريا الديمقراطية – قسد”. ومثل هذا الاحتمال يبدو هو الأقرب إلى الواقع، وخصوصًا إذا أراد “ثلاثي آستانة” المحافظة على تفاهماتهم والاستمرار في مسارهم.