اسم الكتاب: المراقبة السائلة
اسم المؤلّف: زيغمونت باومان
مراجعة: زياد المبارك
دار النشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر
مكان النشر: بيروت/ لبنان
تاريخ النشر: 2017
المحتويات
أساليب المراقبة المتطورة: إلى أين تتجه الإنسانية؟
آليات المراقبة الذاتية عبر الشبكة
أرسى (زيغمونت باومان) مفهوم (السيولة) في مشروعه الكبير والشهير حول الحداثة وما بعد الحداثة. تعني (السيولة) عند باومان، وفق نظريته، عملية إعادة تعريف وتقييم لبنية الحداثة وما بعد الحداثة، فتصبح الحداثة (سطوة العقل) هي مرحلة يطلق عليها (الحداثة الصلبة)، أما ما بعد الحداثة فهي (الحداثة السائلة) التي تعني تفكك المفهومات الصلبة والخروج من مرحلة الحقيقة الناجزة التي وصلت حد القداسة.
تعني (السيولة)، كما أسس باومان لمفهومها منذ صدور الكتاب الأول في سلسلة مشروعه (الحداثة السائلة)، أنها ذاك الفصل المؤسس بين القدرة (إمكان الفعل) والسياسة (ما يجب فعله). لقد أسست الحداثة (الصلبة) للتطور الذي أعلى من شأن الدولة بحيث باتت تتحكم بالأفراد لصالح الكل الجمعي، أما الحداثة (السائلة) فهي مرحلة تخلت فيها الدولة عن دورها هذا وفتحت السوق أمام الرأسمال الحر والاستهلاك والتحديث المتزايد الفاقد للهدف سوى استشراء الاستهلاك وإشباع الرغبات.
هذا الاستهلاك والإشباع انسحب من السلع المادية إلى العلاقات الإنسانية والتواصل، ما أثر تأثيرًا بنيويًّا في (معنى) الحياة والأخلاق والعواطف، وهو ما أرسى (سيولة) الحياة والخوف والزمن ترقبًا لما يمكن أن يحمله القادم في الغد.
إذن، لقد تحولت صلابة الحداثة إلى سيولتها، ما يعني سهولة الفكاك والخلاص من المنجزات والقيم المتفق عليها، بحيث باتت (المرونة) المرتبطة بالسيولة تسهل عملية التخلي عن كل منجزات الحداثة الصلبة بما فيها العلاقات الإنسانية، سعيا وراء ما هو حديث، منتجًا طغيانًا للفردانية على حساب الجماعة، وبذا باتت الجماعات البشرية فارغة، تخلو من عمق الروابط الإنسانية، معتمدة على العلاقات (اللحظية) ذات الطبيعة الاستهلاكية.
في كتاب (المراقبة السائلة) من ضمن سلسلة نظرية السيولة، نطالع ذاك الحوار الذي أجراه مع عالم الاجتماع “ديفيد ليون”. يعرض باومان (مع ليون) تصوراته لمفهوم (المراقبة في عصر الحداثة السائلة).
يبحث باومان من خلال سبعة فصول في كيفية تسرب أساليب المراقبة إلى أدق تفاصيل الحياة اليومية، وهذه الفصول هي:
– الطائرات من دون طيار ووسائل التواصل الاجتماعي
– المراقبة السائلة: مرحلة ما بعد البانوبتيكون
– البعد والإبعاد والتحكم الإلكتروني
– اللا(أمن) والمراقبة
– النزعة الاستهلاكية والمواقع الإلكترونية والفوز الاجتماعي
– المراقبة من منظور أخلاقي
– القدرة والأمل
يطرح باومان رؤيته عن المراقبة وتطورها عبر الأزمان والعصور، حيث يؤكد أن المراقبة الجامدة الصلبة التي كانت تميّز العصور السابقة سرعان ما تعرضت للذوبان والاختفاء التام في عصرنا الحالي.
والمثال عن المراقبة الصلبة يتمثل بأحد أهم نماذج المراقبة، وهو نموذج (البانوبتيكون Panopticon)، وهو نوع من أبنية السجون ابتكره المفكر الإنجليزي (جيرمي بنتام) وهو زنزانات ذوات شبابيك واسعة على شكل حلقة دائرية يتوسطها برج مراقبة. تكون هذه الزنزانات متاحة لمراقبة الحارس القابع في البرج، ولكن لا يمكن للمسجون معرفة في ما إذا كان الحارس يراقبهم في اللحظة ذاتها. إن هذه النظرة المحدقة الخارجية، من البرج، للمسجون الغارق في الضوء تجعله يبدو موضوعًا خاضعًا للرقابة، أي يُشيَّأ الإنسان، ويختزل إلى غرض مراقب.
يستبطن المسجونون هذه النظرة المحدقة الخارجية، من طرف الحارس في البرج، إلى نظرة محدقة داخلية، ويتحولون من محض مراقَبين إلى مراقِبين لأنفسهم، وهكذا حتى لو نزل الحارس عن البرج، وزالت العين المحدقة الخارجية فإن هذه العين المحدقة الداخلية ستظل تراقبهم، وسترافقهم حتى لو خرجوا من سجن البانوبتيكون .
وقد أسس (ميشيل فوكو) في ما بعد نظريته حول (المراقبة والمعاقبة) بناء على هذه الفكرة، حيث يرى أن الدولة الحديثة، العاقلة المستنيرة، قد شكلت مجتمعها على هيئة “بانوبتيكون” ضخم.
لذا فالكتاب مناقشة في السؤال الناتج من الانتقال من صلابة الحداثة إلى سيولتها، سؤال ناتج عن هذه السيولة، وهو: كيف تؤثر هذه المراقبة السائلة في تصوراتنا عن الذات وسلوكنا المجتمعي وعلاقتنا بالعالم؟.
يؤكد باومان أن المراقبة في عالم اليوم، لم تعد بذلك الشكل المادي الصارم، بل لم يعد هناك سجان واحد يتابع تحركاتك، بل لقد استطاع المراقبون أن يستغلوك في مراقبة نفسك بواسطة وسائل وطرق لا تدري عنها شيئًا.
ويضرب باومان نموذجًا للمراقبة السائلة التي يقصدها، بعملية السفر والتنقل من مكان إلى آخر، حيث يقوم المسافر بالمرور على عشرات الأجهزة الأمنية المختلفة التي تتفحصه وتكشف عما يوجد داخل جيوبه وحذائه وحقائبه. وفي أثناء استخدام بطاقة هويته وبطاقته البنكية وتذكرة السفر، يتعين عليه منح كثير من المعلومات والبيانات الخاصة به لكثير من الأجهزة الرقابية التي يمر عليها، سواء داخل حدود دولته أم خارجها.
من هنا، يُطرح السؤال عن العلاقة بين السلطة والمراقبة والتكنولوجيا. ففي الوقت الذي يلوم فيه كثير من الباحثين التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، بوصفهما سببين في تفكك الروابط الاجتماعية الحقيقية وهشاشتها، فإن باومان ينظر إلى الموضوع بطريقة أخرى، حيث يرى أن السلطة التي تبحث عن الانتشار والتمدد في عصر السيولة، استعانت بالأدوات التقنية لمساعدتها في فرض الرقابة على المجتمعات المتفككة أصلًا. ومن هنا فإنه لا يرى في التكنولوجيا سببًا في تفكيك المجتمع، بل إن تفكك الروابط المجتمعية هو الذي أتاح الفرصة لانتشار التقنيات الحديثة، تلك التي استخدمتها السلطة في ما بعد لفرض الرقابة اللصيقة على المجتمع.
أجبرت الوسائل التقنية الإنسان على تعريف نفسه بوصفه شيئًا وليس إنسانًا، فمثلًا تحصر البيانات التي تُعرّف كل شخص في لون العين ولون الشعر والطول والوزن وبصمة أصابع اليد وغير ذلك من الوسائل الأخرى المعروفة. ومن هنا فإن تعريف الشخص صار محض مجموعة من البيانات التوصيفية العمومية التي قد تكون في الغالب فاقدة الصلة بصاحبها، وهي في الوقت نفسه أهملت المعيار القيمي والأخلاقي الذي يتمثله الفرد، وبهذا (تشيّأ) الإنسان بحكم مراقبته وتعريفه بتلك الطريقة.
الانتقال إلى المراقبة السائلة
صك الروائي البريطاني الشهير (جورج أورويل) مصطلح (الأخ الأكبر) في روايته الشهيرة (1948) التي توقع فيها مصير العالم، إذا ما وصل المد الشيوعي إلى الغرب، وتمكن السيطرة على أوروبا.
عرض أورويل واحدًا من أهم أمثلة المراقبة وأكثرها شهرة على مر العصور، وهو نموذج الأخ الكبير (الدولة المستبدة/ الحزب الحاكم/ الطاغية). حيث يفرض على المواطنين رقابة صارمة داخل بيوتهم وخارجها، وييفرض رأيه عليهم في شؤون حياتهم كلها، الأفكار والقناعات السياسية، حتى طريقة ممارستهم للجنس.
لكن باومان يرى أن ذلك النموذج بات قديمًا لا يتناسب مع عصر الحداثة السائلة التي نعيش في جنباتها، فـقد (أسدل الستار على عصر الارتباط المتبادل الذي شهد المواجهة بين المديرين والخاضعين للإدارة، وأما العرض الجديد فهو دراما جديدة أكثر مراوغة، إذ تنتقل السلطة بسرعة الإشارة الإلكترونية).
إن السرعة الهائلة التي تميز عصرنا فككت نموذج (الأخ الكبير) واستبدلت به شكلًا جديدًا أكثر مرونة وميلًا نحو البساطة بدلًا من العنف. وأسهم في تفكك ذلك النموذج هو أن مبادئ (البانوبتيكون) ظهرت في مجتمعات طبقية هرمية؛ فرضت شكل المراقبة الصارم للمحافظة على السلطة التراتبية، وتكريس الفوارق الطبيعية بين الأفراد، فاستخدمت في المدارس والبيوت والمصانع والسجون، لكن تغير (شكل الحياة) مع فقدان الطبقات تلك التراتبية، أصبح الأفراد أكثر تقبلًا (للسيولة) والتماهي معها، فتغير، من ثم، شكل المراقبة وأسلوبها، بسبب من تغير السياق ونمط الحياة.
أساليب المراقبة المتطورة: إلى أين تتجه الإنسانية؟
يلفت باومان أنظارنا إلى خبر قرأه في عام 2011، عن تطوير طائرات صغيرة الحجم، تصلح للاستخدام في أعمال المراقبة والتجسس على الأفراد عبر شرفات منازلهم ونوافذها. وبحسب باومان، فإن الخبر الصحافي يتوقع أن يستمر تطوير تلك الطائرات حتى تصل إلى حجم حشرة صغيرة جدًا، بحيث لا يمكن الانتباه إليها أبدًا من قِبل المُراقَبين.
يعرب باومان عن تفهمه للسبب الذي لم يجعل الناس تنتبه للخبر أو تكترث به، فهو خبر صغير وسط (تسونامي المعلومات) المحاطين به.
يرى باومان أن ذلك يعني اقتراب وجود اختراق جديد لخصوصياتنا، وإنه من المتوقع أن يُحدث إنتاج طائرات من ذلك النوع، حدثًا فارقًا جديدًا في تاريخ البشرية عمومًا والتطور العسكري على وجه الخصوص، فبتلك الطريقة سيكون في وسع الأميركيين القضاء على أعدائهم من دون اشتباك حقيقي، وذلك من خلال أسراب من تلك الطائرات التي يتم توجيهها عن بُعد.
الخطر هنا، سينشأ من تزايد الإغراء بإمكان إثارة كثير من النزاعات والحروب، بفضل الغياب شبه الكامل للأضرار التابعة، والتكاليف السياسية المحتملة، وهكذا من الممكن أن تقود تكنولوجيا المراقبة إلى المزيد من الدمار والخراب حول العالم.
آليات المراقبة الذاتية عبر الشبكة
لكن، كيف نصبح نحن رقباء على أنفسنا من خلال شبكة المعلومات الدولية ووسائل التواصل الاجتماعي؟.
يرى باومان أن القلق الذي أصبح يداهم الأفراد اليوم لم يعد مرتبطًا بكيفية حجب خصوصياتهم عن أنظار المراقبين، بل من احتمال (إغلاق المخارج التي يمكن من خلالها إفشاء الخصوصية، فعندها ستتحول مناطق الخصوصية إلى مواقع للحبس، حيث يُحكم بالعذاب على صاحب الفضاء الخاص، وكتب عليه أن يعاني عواقب أفعاله وحده من دون مساعدة من أحد، ويُجبر على حياة تتسم بغياب المنصتين الشغوفين بانتزاع الأسرار وإخراجها من وراء الأسوار الحصينة للخصوصية، من أجل إفشائها للجميع، وجعلها ملكية مشتركة للجميع).
ومن هنا، يؤكد باومان أن جاذبية مواقع التواصل الاجتماعي، تتركز في ما يحدث من خلالها من تبادل للمعلومات الخاصة ونشر للصور الشخصية، حيث صار الهدف الرئيس هو حصد أكبر قدر من تسجيلات الإعجاب أو التعليقات أو إتاحة المعلومات للنشر في نطاق أوسع، وهو أمر صار يشهد إقبالًا ملحوظًا، حيث تؤكد الإحصائيات أن 61 بالمئة من المراهقين في إنكلترا قد أنشؤوا حسابات خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي مثل الفيس بوك وتويتر وإنستغرام، بينما توجد بعض البلدان الآسيوية مثل كوريا الجنوبية، قد تفشى فيها التواصل الرقمي بطريقة مذهلة، حتى صار الطريق المثلى للتواصل.
لكن الحال الذي انتهى إليه الأفراد (كشف أسرارهم بأنفسهم على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي) يضعنا أمام ثنائية العلاقة بين الإغواء الناتج عن كشف السر والقهر الذي كان يتعرض له الفرد في ما سبق للكشف عن السر ذاته.
استخدمت تلك الثنائية بصورة أكثر وضوحًا في (علم إدارة الأعمال)، فالعلم الذي يصفه باومان بـ”الثورة الإدارية في ثوبها الجديد”، كان يُنظر إليه سابقًا على أنه واجب المديرين، أما اليوم فقد تبدل إلى نظم الإدارة الحديثة، ويعني الانتقال إلى إلى المرؤوسين عبر حزمة من المكافآت والمنح المعتمدة على الإغواء بفكرة المشاركة في السلطة بدلًا من الخضوع المُطلق لها. وقد أسهم ذلك في تحقيق مزيد من الرقابة الذاتية على الموظفين، وهو أمر انعكس أثره بصورة إيجابية في كفاية العمل بشكل عام.
الحاجة إلى المراقبة؟
ظهرت (الحاجة إلى المراقبة)، بحسب باومان، مع بدء ظهور المدن الحديثة، فالمدينة التي لا يعرف الناس فيها بعضهم بعضًا، أصبحت بحاجة إلى الحماية، وتوفير قدر معيّن من الأمن والطمأنينة.
فالحماية هي الوسيلة التي يأمن بها الفرد من الآخر، وهي بذلك قد ولدت لتدعيم الأمن وتوفير الوسائل المناسبة لتحقيقه، وهكذا باتت (أي المراقبة) أهم أسلحة اليقظة الدائمة التي لا يمكن التخلي عنها.
يرى باومان أن المراقبة قد شهدت في ما بعد انفصالًا عن الأمن. ففي عصر (الحداثة السائلة) استطاع الغرب الوصول إلى درجة متقدمة من درجات التعايش الآمن. لكن على الرغم من ذلك، استمرت المراقبة في فرض وجودها القوي في تلك المجتمعات، وتحولت إلى ما يشبه الإدمان. ولذلك فإن باومان يرى أن هناك مفارقة غريبة في واقعنا، وهي أنه في ظل توافر كل أجهزة المراقبة الموجودة في عالم اليوم، يتزايد الشعور الدائم بالقلق وغياب الأمن.
ويحاول الكاتب بعد ذلك، أن يستكشف بعضًا من الجوانب الفلسفية الغامضة المتعلقة باهتمام البشرية بفكرة المراقبة، فيقول إن مركز الرغبة البشرية الفطرية الأصلية في العلو، ومراقبة كل شيء، ومعرفته، والإحاطة بتفاصيله ودقائقه؛ تنشأ من السعي الدائم وراء الراحة المطلقة. فالإنسان يعيش في رحلة البحث المتواصل عن عالم اليوتوبيا، ذلك الذي لا توجد فيه مفاجآت ولا أسرار سيئة، ولا ينتشر فيه القلق أو الخوف من المستقبل المجهول غير المتوقع.
المراقبة والعالم المثالي
يخلص باومان إلى أن الجهد البشرية المبذول في هذا الاتجاه، لن يتمخض عن ناتج إيجابي في النهاية، فـ (القلق ينتابنا لأننا في رغبتنا النهمة في الراحة، لا نشبع أبدا ما حيينا، فتلك الرغبة التي تثيرها غريزة الموت وتغرسها لا يمكن إشباعها إلا بالموت).
إن المراقبة في (السجون الرأسمالية المفتوحة) التي يعيش فيها البشر بوصفهم مستهلكين لا تقدم نفسها أداة للقمع (بمثل المنوذج القديم) بل باتت مقترنة بالمتعة والترفيه وأوفات الفراغ، بل أحيانًا بالحاجة والضرورة، حيث تأتي جزءًا من ميكانيزمات التحديث وأجهزته.
إن السلطة في الحداثة السائلة لا بد أن تتمتع بحرية التدفق، ولا بد أيضًا أن يتم التخلص من الشبكات الكثيفة المحكمة للروابط الاجتماعية، فهشاشة الروابط الاجتماعية هي التي تسمح لسلطة العولمة بالعمل والاختراق الناعم، والخشن إن استدعت الضرورة.
إن (السيولة) من حيث هي منطلق تحليلي، تزيح الستار عن كثير من التباسات الحياة المعاصرة وتناقضاتها، تلك التي نحياها. ففي عالم (السيولة في مرحلة ما بعد البانوبتيكون) باتت المعلومات الشخصية التي تتلقفها أنظمة المراقبة يسهم الناس أنفسهم في تقديمها بكل رضى من دون أي تحفظ.
لكن التساؤل الملح هو: بعد هذا الذي ينطق به باومان ويشرّحه، هل من سبيل في عالم اليوم لنكون بشرًا خارج السيطرة؟.