مقدمة
لقد أثار الاستهداف الأمني السعودي في حملة واسعة النطاق، لرموز دينية وحقوقية وشخصيات سياسية وإعلامية، رجالية ونسائية -ضمن توجهات تستهدف إعادة ترتيب أوضاع البيت السعودي، وإعادة تعريف دور السعودية الدولي والإقليمي- مجموعة من التساؤلات حول علاقة السعودية بالدين، وعلاقة السعودية بالآخر، وعلاقة السعودية بالعصر.
وقد طبَعت تلك الموجة الأمنية بطابعها الخاص عهد ولي العهد الجديد محمد بن سلمان، (العهد السلماني) الذي أراد أن يحدث رجّة “تحديثية” في المجتمع التقليدي والدولة المحافظة، أو هكذا يقولون. فاخْتُزِلَ التّحديث عنده في قرار فوقي، أوكل إلى القوة الغاشمة مهمّة فرضه وحمايته. وحين جرت تزكيته من كبريات الدوائر السياسية والاستراتيجية في الغرب الحضاري، فقد سِيقَ “ناصحوه” أو مناوئوه إلى المصير الصعب الذي راوح بين السجون والاغتيالات والحصار، ولا عزاء لأبناء الوطن. يحدث “للتحديث” أن يمرر على الجماجم، وأن يكون البوليس حاميه، وكوتشنر عرّابه. ذلك مدخل عربي آخر للتّحديث بطعم الهزائم العربية، وبنكهة العجز العربي، لم تعرفه التجارب التاريخية من قبل، يحسب لابن سلمان أنه صانع منطقه وتوجهاته.
لقد كان على ولي العهد أن يثبّت قدميه في النظام السياسي للمملكة، قبل تثبيت توجهاته. ولن يكون ذلك ممكنًا إلا عبر إجراء عمليات جراحية كاسحة. جاءت إحداها في صورة انقلاب دستوري، أطاح خصمه “العائلي” محمد بن نايف. ولذلك الإسقاط أهمية حاسمة في رسم التوجهات الأساسية للسعودية، إذ إنّ كلًا من ابن نايف وابن سلمان خطان لا يلتقيان. الأوّل خط لا يجافي التوجهات التقليدية للمملكة، ينحاز إلى القضايا العربية، ولا يعادي المقاومة ولو بأقدار. وخط مستعد لخلط الأوراق للتحرر من التركة التقليدية على خطى تحديث افتراضي، لا يهم حتى وإن ذهب بالموقع الأدبي لبلاده، ورصيدها الإيجابي بوصفها دولة أساسية في المنطقة. ومن ناحية ثانية يُحدث انقلابًا على التّحالف التقليدي بين الدين والسياسة، أو بين آل سعود وآل الشيخ الذي أسّست في ضوئه المملكة، بما يعني التجاوز التام للمؤسسات الدينية التقليدية والإصلاحية التي وجدت نفسها أمام خيارين: إمّا الاحتواء الذليل وإمّا قصّ الأجنحة.
في مثل تلك المناخات المتوترة، والمشوبة بكثير من الشك وعدم اليقين، جرى إيقاف سفر الحوالي الذي بالكاد قد أمضى كتابه “المسلمون والحضارة الغربية” الذي ذيّله بتوجيه النصح إلى آل سعود في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ السعودية والأمة. وإذا كان العنوان يحيلنا على علاقة الأنا بالآخر، فإنّ توجيه النّصح إلى سلطة متغطرسة من طرف عالم أو مثقف، إنّما يقع في قلب العلاقة بين الفقيه والسلطان. وذلك هو مدار البحث عندنا، انطلاقًا من الكتاب الذي اتخذناه مصدرًا للمقاربة.
وحين يُنزّل الحوالي “علاقة الأنا بالآخر” منزلتها من المرحلة المعاصرة أو من التاريخ، يصبح لزامًا علينا أن نتتبع خيوطها ضمن ثنايا الكتاب، أو ضمن كتب أخرى للمؤلف، أو كتابات مشابهة لمؤلفين آخرين تواضعوا مصادفة على أهمية القضية. وهي قضية تقع في قلب المسيرة العلمية للحوالي الذي أولى الشؤون الدوليّة والاستراتيجيّة أهمية خاصة، في وقت لم تهتدِ فيه الأمة إلى تلك الموضوعات، فأصبحت “تفتقد إلى النّظرة الشاملة والربط بين الأحداث”[1]. لذلك اجتهد الحوالي في رصد حركة الفاعلين الدوليين، وغاص عميقًا في تتبع أصول السياسة الدولية، وأبعادها الدفينة، وانعكاساتها على العالم الإسلامي وقضاياه. وهو ما سنهتم بدراسته في الجزء الأول من البحث.
أما حين يُنَزّل الحوالي علاقة الفقيه بالسلطان منزلتها من المرحلة المعاصرة أو من التاريخ، يصبح لزامًا علينا أن نتتبع علاقة الحوالي نفسه بآل سعود. تلك العلاقة التي تجد مثيلاتها في التواريخ القديمة والحديثة. ويقول التاريخ إنّ لكلّ حاكم بطانة، ولكنّ البطانة قد تكون فاسدة، وقد تكون صالحة. أمّا الفاسدة فهي المتملقة، الغاشة لحكامها، المسوغة لسياساتها، لقاء فتات الموائد. وأما الصالحة فهي التي تبذل النصح “لا تخشى في الله لومة لائم”. ويكون الحوالي أحد تجلياتها. فهو الذي كشف عورات الأنظمة، وعرى نفاقها وجبروتها، ودعاها مخلصًا أن تتوب إلى ربها، وأن تؤوب إلى شعوبها. وحين ضاقوا بالنّصيحة ذرعًا، ساقوه إلى السجن الأخير، ولسان حاله يقول.. “رَبِّ السّجنُ أحَبُّ إليّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْه”. وهو ما سنهتم بدراسته في الجزء الثاني من البحث.
وهكذا بنيت خطة البحث من فصلين رئيسين:
الأول: علاقة الإسلام بالغرب.
الثاني: علاقة الفقيه بالسلطان.
وقد قدّمنا لهما بفصل تمهيدي للتعريف بالكاتب والكتاب والمذهب. واخترنا خلال ردهات البحث أن نتسلح بآليات منهجية تتسق وطبيعة الكتاب. فاعتمدنا الحجاج، والتفكيك، وتحليل الخطاب، وأحيانا النقد الأيديولوجي.
فمن هو سفر الحوالي؟ وكيف نزل علاقة الغرب بعالم الإسلام في كتابه الحدث، الذي انتهى به إلى السجن؟ وكيف كانت علاقته بآل سعود؟
[1]سفر الحوالي، الانتفاضة والتتار الجدد، ص18.