المحتويات

الدين ومنصب الرئاسة

حق المرأة في تقلّد المناصب

الخلاصة

تعيش سورية حالة من التنوع والتعدد الديني والقومي والعرقي والثقافي والفكري، ولكن النظم التي حكمت سورية المعاصرة لم تستطع تحويل هذا التنوع إلى إمكانات إيجابية ونقاط قوة في مفهوم المواطنة، وتسخير هذه التركيبة في إنتاج مفهوم المواطنة بالمعنى الحديث[1].

تشير الدراسات معظمها إلى وجود مشكل ومعوقات تحول دون ترسيخ المواطنة/ الانتماء. وقد أدت هذه المشكلات إلى انتشار حال اغتراب، تتمثل بفقد المواطن الشعور بالانتماء إلى وطنه، خصوصًا حين يطغى الحرمان الذي يسببه الاستبداد السياسي أو الجور الاجتماعي. وهي معوقات تحول دون ترسيخ المواطنة والانتماء.

إن المبادئ العامة لصوغ الدساتير الحديثة في العالم تضع قواعد عامة، تنطبق على المواطنين جميعهم، بغض النظر عن جنسهم أو انتمائهم الديني والعرقي والمذهبي، لأن خطابها عام وشامل للمواطنين جميعهم، وهي تمثل في الحصيلة مجموع إرادات المواطنين.

تؤكد المادة الثانية من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أن “لكل إنسان حقّ التمتع بجميع الحقوق والحريات من هذا الإعلان، دون تمييز من أي نوع، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، اللون، الجنس أو اللغة أو الدين، أو الرأي السياسي”[2].

وجاء في الدستور السويسري لعام 1999 (الذي جرى تعديله 2004) في المادة الثامنة منه، قسم المساواة أمام القانون، الفقرة الثانية: (لا يجوز التمييز بين الناس بسبب الأصل أو العرق أو الجنس أو العمر أو اللغة أو الاعتقاد الديني أو الفلسفي أو السياسي)، وفي الفقرة الثالثة منه: (المرأة والرجل متساوون في الحقوق، ويكفل القانون المساواة القانونية والعملية)[3].

ومن أجل إغناء المضامين للمفردات المدنية والحضارية للمواطن والوطن معًا، لا بدّ من الاعتراف بالتنوع والتعدد اللغوي والعرقي والقومي والديني والطائفي والثقافي، لسورية.

تتناول ورقة العمل قضيتين هما: الدين والجنس (الجندرة)، لفهم المواطنة فهمًا دستوريًا وقانونيًا، وأود أن أشير إلى أني عندما أتحدث عن دولة، أقصد الدولة المستقلة ذات السيادة الحرة التي لا يكون قرارها مرهونًا للأجنبي، أو لنظام دكتاتوري، كما في سورية (إذ لا ديمقراطية في وطن إذا كان الوطن نفسه يفتقد حريته[4]).

إن قوة المواطنة سياسيًا تأتي من علاقة الإنسان بالوطن، وهي قضية معنويّة قابلة للتطور، ولذلك نجد أن علاقة المواطنة تضعف في الأنظمة الاستبدادية حيث يشعر المواطن بالتبعية لا بالانتماء، وتقوى إذا نال الإنسان حقوقه من دون تحيز أو تمييز، والوطن -بهذا المعنى- ليس الأرض فحسب، بل النظام السياسي الذي يمنح مواطنيه الثبات والاستقرار، وهنا تكون وظيفة الدولة صون حقوق المواطنة المتساوية لأبنائها كلهم، بغض النظر عن الانتماءات الدينية والقومية والاجتماعية، وبناء على ذلك؛ يكون ضمان حقوق المواطنة ضرورة لا يمكن إغفالها في أي دستور جديد.

الدين ومنصب الرئاسة

إن قضية الدين -وهي قضية جوهرية- في الدستور السوري، كانت جزءًا أساسيًا من مشكلات هوية الدولة في دستور الخمسينيات، على الرغم من أنها قضية اجتماعية وفكرية وسياسية بالغة الأهمية، وفي ذلك يقول نادر جبلي: “إن إشكالات الدين تركت آثارها السيئة في الحياة السياسية في سورية عقودًا لاحقة”، وافترضَ أن “وجود مادة الدين (الإسلامي) في الدستور السوري قيّد سلطة المشرعين، وأفقد الدستور قوته، وأشعرَ الدستورُ أبناءَ الطوائف الدينية بأن هناك من هم أكثر منزلة منهم في الوطن”[5].

إن المواطنة هنا منقوصة، على الرغم من التناقض ما بين الديباجة في دستور 1950 ومواده، التي جاء فيها: “ولما كانت غالبية الشعب تدين بالإسلام تعلن استمساكها بالإسلام ومثله العليا”. وكذلك دستور عام 1973 الذي كرّس أيضًا المادة الثالثة في الدستور بأن “دين رئيس الجمهورية هو الإسلام”.

كذلك لم يتغير شيء في دستور عام 2012 الذي ذكر المواطنة في ديباجة، وعدّها مواطنة غير مقيدة، ولكنه يعيد ويكرر أن “دين الرئيس هو الإسلام”، وأن “الشريعة الإسلامية هي مصدر رئيس من مصادر التشريع”.

كان الدستور السوري لعام 1973-2012 دستورًا شعبويًا من حيث فهمه للمواطنة، وعروبيًا في تعامله مع القوميات الأخرى، وقد تحدث عن مفهومات بعثية (فصّله الأسد الأب على مقاسه)، وبعيدًا من اللغة المواطنية التي استعملت في دستور 1950 الذي يرى كثير من القانونيين والمختصين أنه الأكثر تطورًا وتقدمًا، من حيث اللغة والصوغ والمعاني القانونية والمناقشات التي دارت في البرلمان، وكان متقدمًا في تلك المرحلة، قياسًا بالدول العربية والمتقدمة في تلك الحقبة، غير أنه لم يُنصف الأقليّات وكذلك المرأة.

عندما وضعت اللجنة الدستورية في الجمعية العمومية مسوّدة دستور 1950 طرحت في مادته الثالثة الإسلام دينًا للدولة، فحدثت مناقشات عاصفة في البرلمان حول تلك المادة، التي خالفت ما جاء في ديباجة الدستور، من تعريف للمواطنة التي تعني المشاركة السياسية، ثم حُلت المسألة الخلافية حلًا وسطيًا، وعُدَّ دين رئيس الدولة هو الإسلام، وليس دين الدولة هو الإسلام.

إن تعزيز مفهوم المواطنة في المجتمعات المتعددة، قوميًا ودينيًا وثقافيًا، يصبح معيارًا لدرجة تقدم تلك الدولة. في حالة دولة حديثة، وهو ما أكده الدستور التونسي 2014 إذ جاء في مقدمته: “تأسيسًا لنظام جمهوري ديمقراطي تشاركي، في إطار دولة مدنية السيادة فيها للشعب عبر التداول السلمي على الحكم بوساطة الانتخابات الحرة وعلى مبدأ الفصل بين السلطات والتوازن بينها، ويكون فيه حقُّ التنظّم القائمِ على التعددية، وحياد الإدارة، والحكم الرشيد هو أساس التنافس السياسي، وتضمن فيه الدولة عُلْوِيَّةَ القانون واحترام الحريات وحقوق الإنسان واستقلالية القضاء والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين والمواطنات والعدل بين الجهات”. وجاء في الفصل الثاني من المبادئ العامة في الدستور نفسه أن “تونس دولة مدنية، تقوم على المواطنة، وإرادة الشعب، وعلوية القانون. لا يجوز تعديل هذا الفصل”. وكذلك سنغافورة عام 1965 رأت نفسها بين ليلة وضحاها مرمية خارج الاتحاد الماليزي، فبنت هذه الدولة المتعددة قوميًا ودينيًا وإثنيًا دولة مواطنة يشارك فيها المواطن في الشؤون السياسية وفق مبدأ: (لا مواطنة من دون مواطن ولا مواطن إلا بالمشاركة السياسية) وهي الحالة الراقية قبل أن تكون مفهومًا، وبفعل هذه الذهنية المواطنية؛ وصلت إلى الرئاسة امرأة مسلمة من أب يمني (حليمة يعقوب)، مع العلم أن نسبة المسلمين لا تتجاوز 17 في المئة، ولم يحل دون اختيار منصب رئيس الدولة، الجنس أو العرق أو الدين أو القومية، إذ كان المعيار الأساس هو الكفاءة والقدرة والنزاهة، وفقًا لمبدأ المواطنية السياسية والاجتماعية والثقافية. وهو ما أكده الدستور التركي .

كذلك الوطنية السورية التي تعرضت لخلل بنيوي ووظيفي أفقدها دورها الفاعل في المجتمع، يجب أن تكون جسرًا للتواصل بين المواطنين، وميدانًا للتفاعل المؤثر في الخارج، أي أن تكون بديلًا للانتماء القومي والعرقي والديني أو الطائفي (السائد)، وتكون المظلة التي تحمي التنوع والتعدد والاختلاف.

وفق هذه المفهومات المواطنية، لا يجوز تحديد دين الرئيس في أي دستور سوري مقبل، وإنما يكون الاختيار استنادًا إلى الكفاءة والقدرة والصفات والشروط والأخرى[6] التي يجب أن تتوافر في منصب رئيس الدولة.

حق المرأة في تقلّد المناصب

أما من جانب جنس الرئيس (الجندرة[7])، فينبغي أن يكون المقام الأول للمواطنة التي ترتبط بالحق السياسي (Political Rights) والثقافي وبالوعي الاجتماعي للدولة، بغض النظر عن جنس الرئيس. حيث إن المواطنة لا تفرّق بين الذكر والأنثى في أي مجتمع حضاري، وبناء على ذلك يحق لكل مواطن (ذكرًا/ أنثى) تولي مناصب سيادية حتى منصب رئيس الدولة. فالمواطنة الحقيقية لا تتجاهل الحقائق الجندرية، وفق منطوق المواطنة التي تستوعب الجميع، ومن ثم على الدستور أن يوفر بمواده البيئة الصحية والخصبة للجندرة، وفق ميثاق الأمم المتحدة الذي يؤكد أن “لكل شخص بالتساوي مع الآخرين حق تقلد الوظائف العامة في بلده”. ونصّت المادة الثالثة من الميثاق العربي لحقوق الإنسان الذي طُرح في قمة تونس العربية أيار/ مايو 2004، على أن (تتعهد كل دولة طرف في هذا الميثاق، بأن تكفل لكل شخص خاضع لولايتها حق التمتع بالحقوق والحريات المنصوص عنها في هذا الميثاق، من دون تمييز بسبب العرق أو اللون أو الجنس أو المعتقد الديني أو الفكر أو اللغة أو الأصل الوطني أو الاجتماعي)[8].

فالدستور هو “تجسيد للدولة وتجريد للسلطة”، بحسب بوردو، الذي يؤكد حداثة الدولة في الفكر السياسي، ويضيف أن الدولة المؤسسة هي دولة الكل ودولة المواطن الفرد سواء أكان ذكرًا أم أنثى.

بالعودة إلى الدساتير السورية في عهد الجمهورية، لم يأتِ ذكر المرأة في تولي منصب رئاسة الدولة لمعايير اجتماعية، وبخاصة في دستور 1950. كذلك دستوري 1973 و2012 اللذين صيغا بلغة شعبوية منمقة لا تعالج المشكلة، ولم يجرِ التركيز على مفهوم المواطنة أو مفهومات الدولة الدستورية الحديثة، وإنما كُرِّست سلطة آل الأسد. ولا شك في أن هناك بعض القيود التي يفرضها الدين، وتحول دون بلوغها حقوقها في المساواة وفي المواطنة.

مع العلم أن دساتير سورية ما بعد الاستقلال جميعها حاولت منح المرأة حقها السياسي، لكنها ظلت تعاني مواطنتها المنقوصة، وهذا ما عبّر عنه خالد العظم، في رأيه بنتائج انتخابات 1954، بقوله: “كنت أشك في أن يقدِم ناخبٌ ذكر على انتخاب مرشحة للنيابة”[9].

نجد أن المرأة السورية كانت ممنوعة -دستوريًا واجتماعيًا- من تولي أعلى منصب في الدولة، وهو منصب الرئاسة، وهذا مخالف لمفهوم المواطنة العصرية في الدول الحديثة، حتى في الدول الأفريقية بدأت المرأة تتقلد منصب الرئاسة، حيث وصلت المرأة في أثيوبيا إلى رئاسة الدولة، وكذلك انتُخبت أستاذة جامعية مسلمة (أمينة غريب)، لرئاسة دولة موريشيوس. أما في الدول الأوروبية فإن هذه القضية محسومة دستوريًا وفق مفهومات المواطنة، والآن تدرّس في مدارس السويد تحويل مفردة (هو وهي HAN/HON) إلى مفردة (HEN) بمعنى المرء، وهذا التحول هو من أجل تحقيق مساواة أكثر بين المواطنين، بعيدًا من التمايز على أساس الجنس (ذكرًا/ أنثى) وهذا يبعث على تحقيق عدالة اجتماعية وسياسية.

الخلاصة

المواطنة الحقيقية لا تتجاهل التركيبة الثقافية والاجتماعية والسياسية في الوطن، ولا تُحدث تغييرًا في نسب مكوناتها، ولا تمارس تزييفًا للواقع، بل تتعامل معه من منطلق حقائق ثابتة، وهكذا تكون المواطنة معيارًا للحق والواجب، وتؤدي إلى بناء نظام سياسي صحيح، وتصبح أساسًا لبناء الدولة المدنية الحديثة.

[1]ليث زيدان، “مفهوم المواطنة في النظم الديمقراطية”، الحوار المتمدن

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=98163

[2]الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: http://www.un.org/ar/universal-declaration-human-rights/index.html

[3]الدستور السويسري عام 1999: https://www.constituteproject.org/constitution/Switzerland_2014.pdf?lang=ar

[4]القريش البحريني، أهمية المواطنة. http://www.oujdacity.net/international-article-12475-ar/international-article-12475-ar.html

[5]نادر جبلي، “الدستور السوري قراءات وخيارات (دراسة قانونية)”، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، نيسان/ أبريل 2018.

[6]القصد من الصفات والشروط الأخرى هي، العمر، الجنس، الحالة الصحية والجسدية.

[7]الجندرة: هي العملية التي يجري من خلالها مراعاة إدراج النساء والرجال في عمليات التخطيط بما فيها صنع التشريعات والسياسيات في المستويات كافة؛ إنها استراتيجية جعل الرجال والنساء عناصر أساسية في تصميم وتنفبذ السياسات وتقويمها.

[8]لميثاق العربي لحقوق الإنسان النسخة الأحدث: http://hrlibrary.umn.edu/arab/a003-2.html

[9]مصدر سابق، الدستور السوري: قراءات وخيارات (دراسات قانونية)