لم يغب اسم مدينة “أزمير” التركية عن بال السوريين في الشتات حتى مدّة قريبة، فالمدينة التي تقع على بحر إيجه كانت بوابة العبور نحو الحياة أو الموت بالنسبة إلى آلاف المهاجرين الهاربين من جحيم الحرب التي يشنها النظام السوري على شعبه منذ أكثر من سبع سنوات.

كانت المدينة بمنزلة “كازبلانكا” الحرب العالمية الثانية[1]، كثيرون نجوا وكثيرون أيضًا غرقوا قبل الوصول إلى حلم الأمان في أوروبا. في تلك السنوات كان السوريون الموجودون في أزمير يعدّونها محطة موقتة لم يتح لهم الوقت بعد ذلك إلا ليتذكرونها من خلال الحدائق القريبة من البحر حيث كانوا ينامون أو من خلال قارب مطاطي للنجاة أو الموت.

في منتصف عام 2016، أُبرم اتفاق بين تركيا والاتحاد الأوروبي في ما يتعلق بتدفق المهاجرين السوريين “وغير السوريين أيضا” إلى أوروبا عبر اليونان، وتتاليًا بدأت تتناقص أعداد الهاربين عبر البحر من آلاف إلى مئات ثم عشرات قبل أن تنتهي موجة الهرب بدءا من عام 2017.

وبعد ازدهار أشكال من النشاط الاقتصادي الذي ارتبط بوجود السوريين وغيرهم في دروب الهجرة عبر البحر؛ وجد السوريون الباقون “بعد نهاية موجة الهجرة” أنفسهم أمام مرحلة جديدة وتحديات من التعايش مع المدينة والمجتمع التركي المحيط، وفي مقدمتها البحث عن نشاط اقتصادي يكفل لهم البدء بحياة جديدة.

ومنذ منتصف عام 2016، بدا السوريون الباقون في المدينة كأنهم يتعرفون إليها أول مرة، فباتت هي المكان الذي سوف يعيشون فيه مدة قد تطول أو تقصر بحسب تغيرات الأوضاع السياسية حول سورية. ومع هدوء المدينة وعودتها إلى سابق عهدها، بات على الموجودين فيها أو القادمين إليها من بعض المدن في مرحلة لاحقة، أن يرتبوا حياتهم بما يتلاءم مع طبيعة المدينة والنشاط الاجتماعي والاقتصادي فيها.

مع تسلسل الحوادث الأخيرة على الصعيدين السياسي والعسكري، باتت سورية أكثر بعدًا من ذي قبل، فمن كان يأمل في حل للمعضلة السورية وعودته إليها، تضاءلت توقعاته وبات عليه التفكير في سنوات طويلة مقبلة من العيش في المدينة.

تنطلق هذه الدراسة من ضرورة التعرف إلى مؤشرات الاندماج الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للسوريين في مدينة أزمير التركية. وقد اختيرت المدينة لسببين، أولهما ضرورة الاطلاع على أوضاع السوريين في الولايات التركية كافة وعدم اقتصارها على إسطنبول وعنتاب بحيث يمكن رسم خريطة عامة للسوريين في الدولة التركية، وثانيهما أن المدينة التي لا يتجاوز عدد السوريين فيها مئة وخمسين ألفًا، هي مجتمع بحثي ملائم أكثر لاختبار مؤشرات الاندماج ومتغيراته، بعكس المدن التي يوجد فيها أعداد كبيرة من السوريين الذين استطاعوا تنظيم مجتمعهم الخاص من دون الحاجة إلى التفكير بأهمية الاندماج في المجتمع المحيط وضرورتها والحاجة إليها عمومًا.

[1]– كانت مدينة الدار البيضاء (كازبلانكا) الطريق الوحيد أمام الفارين من أوروبا إبان توغل النازية والفاشية وبداية الحرب العالمية الثانية، فشكلت بوابة وحيدة للانطلاق والهرب نحو الولايات المتحدة، فباتت في وقتها “طريق الخلاص” للراغبين في النجاة والتخلص من جحيم الحرب المستعرة آنذاك. وهذا ما انسحب على وضع مدينة أزمير التركية التي لعبت الدور نفسه بالنسبة إلى السوريين الفارين من الحرب صوب أوروبا.