توشك الأزمة السورية التي أدت إلى عواقب كارثية في جوانب الحياة كلها على إنهاء عامها العاشر، ويشكل الجوع وفقدان الأمن الغذائي اللذان يتفشيان بوضوح وتسارع أحد أخطر هذه الظواهر التي نتجت من هذه الأزمة، وعلى الرغم من ذلك يتابع الخطاب السلطوي الرسمي تجاهله -أو حتى نفيه- وجود هذه الظاهرة المأسوية التي يمكن لمسها ببساطة في الواقع اليومي المعيش في سورية. وتسعى هذه الدراسة إلى بيان درجة هذه المشكلة وحجمها، موضحة المفهومات الفكرية لكل من محوري البحث المترابطين، معتمدة على بيانات المنظمات الدولية ذات الصلة وإعلاناتها.
ما هو الجوع؟
الجـــوع وفق تعريف منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (FAO) هو “إحساس جسدي غير مريح أو مؤلم بسبب عدم كفاية استهلاك الطاقة الغذائية. يصبح الجوع مزمنًا عندما لا يستهلك الشخص كمية كافية من السعرات الحرارية (الطاقة الغذائية) على أساس منتظم ليعيش حياة طبيعية ونشطة وصحية”، وتضيف (الفاو) أن الشخص يعاني الجوع عندما ينفد الطعام ويمضي يومًا أو أكثر من دونه، وبذلك يعاني هذا الشخص انعدام الأمن الغذائي الحادّ، ويعدّ انعدام الأمن الغذائي الحادّ أحد أقصى درجات الجوع، أما عندما يكون الحصول على الغذاء غير مؤكد، ويضطر الناس من أجل الطعام إلى التضحية بالاحتياجات الأساسية الأخرى أو تناول المتاح من حيث التوافر أو السعر بغض النظر عن القيمة الغذائية، يمكن القول إن هؤلاء الناس يعانون انعدام الأمن الغذائي المتوسّط[1].
يعد الجوع مشكلة خطرة على الصعيد الدولي، ولذا اتخذت إجراءات عدة للتصدي له والحد من مخاطره سواء من جانب الأمم المتحدة أم غيرها من المنظمات الدولية، ويعدَّ الغذاء حقًا من حقوق الإنسان يجب على الحكومات أن تضمنه.
وفي هذا السياق يقول “الإعلان العالمي الخاص باستئصال الجوع وسوء التغذية” الذي اعتمده مؤتمر الأغذية العالمي يوم 16 تشرين الثاني/ أكتوبر عام 1974، ثم أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 17 كانون الأول/ ديسمبر في العام نفسه، أن “لكل رجل وامرأة وطفل حق غير قابل للتصرف، في أن يتحرر من الجوع وسوء التغذية لكي ينمي قدراته الجسدية والعقلية إنماء كاملًا ويحافظ عليها…”، وأن “من المسؤوليات الأساسية للحكومات أن تعمل معًا لزيادة إنتاج الأغذية وتوزيعها علي نحو أكثر إنصافًا وفاعلية على البلدان وفي داخلها. ويتعين على الحكومات أن تشرع على الفور في شن هجوم موحد أكبر على الأمراض المزمنة الناتجة من سوء التغذية ونقصها لدى الفئات المستضعفة منخفضة الدخل. كما يتعين عليها لكي تكفل التغذية الكافية للجميع، أن ترسم سياسات غذائية وتغذوية مناسبة في إطار الخطط العامة للإنماء الاجتماعي والاقتصادي والزراعي، على أساس المعرفة السليمة بما هو متوافر من الموارد الغذائية وما هو محتمل منها”[2].
تقول “الشبكة العالمية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية”، وهي مبادرة تعاونية تتكون من الجماعات والأفراد من أنحاء العالم جميعها: “لكل فرد الحق في الغذاء. إذ يُعد الحق في الغذاء عاملًا جوهريًا لحياة كريمة وحيويًا لإعمال عدد من الحقوق الأخرى مثل الحق في الصحة والحياة. لا يستمد الغذاء أهميته من كونه يساعد في البقاء على قيد الحياة، إنما أيضًا بسبب دوره في الإنماء الكامل لقدرات المرء الجسدية والعقلية. لذا فإن الدول مُلزمة بمجهودها الفردي أو عن طريق التعاون الدولي، بوضع مجموعة من التدابير المتعلقة بإنتاج المواد الغذائية وحفظها وتوزيعها للتأكد من سهولة حصول كل فرد على غذاء كاف يحرره من الجوع وسوء التغذية”[3].
مفهوم سوء التغذية ومخاطرها
سوء التغذية هو حالة صحية خطرة تحدث عندما لا يحصل الشخص على القدر الكافي من العناصر الغذائية الضرورية كالفيتامينات والمعادن في نظامه الغذائي، أو عندما يتناول كميات كبيرة من السعرات الحرارية مثلًا، ما يؤدي إلى تخزينها على شكل شحوم وإصابته بزيادة الوزن أو البدانة التي تزيد مخاطر الإصابة بأمراض عدة، مثل السكري والتهابات المفاصل وأمراض القلب وبعض أنواع السرطان[4].
ووفقًا للفاو؛ غالبًا ما تكون الأطعمة المصنعة كثيفة الطاقة التي تحوي على نسبة عالية من الدهون المشبعة والسكريات والملح أرخص من الفواكه والخضروات الطازجة، وعلى الرغم من أن تناول هذه الأطعمة يعني تلبية الاحتياجات اليومية من السعرات الحرارية، إلا أن من يتناولها لا يحصل على العناصر الغذائية الأساسية الضرورية للحفاظ على صحة جسمه ووظائفه بشكل جيد[5].
وتضيف (الفاو): يمكن أن يؤدّي إجهاد العيش بعدم اليقين في الحصول على الطعام، والفترات من دون طعام إلى تغييرات فيزيولوجية يمكن أن تساهم في زيادة الوزن والسمنة، وقد يواجه الأطفال الذين يعانون الجوع وانعدام الأمن الغذائي وضعف التغذية اليوم، خطرًا أكبر من زيادة الوزن والسمنة، والأمراض المزمنة، مثل مرض السكري في وقت لاحق من العمر، وفي بلدان عدة يتعايش سوء التغذية والسمنة ويمكن أن يكون كلاهما ناتجًا من انعدام الأمن الغذائي[6].
أما لجنة “الأمم المتحدة الدائمة المعنية بالتغذية” (UN’s Standing Committee onNutrition SCN)، فتقول إن سوء التغذية هو السبب الأول للأمراض على الصعيد العالمي، وتتنوع أعراضها من حيث نوعها وشدتها تبعًا لنوع المغذي الناقص ودرجة نقصه، ويمكن أن تؤدي إلى ضعف العضلات، وانخفاض مستوى المزاج والإرهاق والتعب وانقطاع الدورة الشهرية وتساقط الشعر وسواها.
ووفقا لبيانات منظمة الصحة العالمية، فإن سوء التغذية يؤدي إلى ثلث الوفيات لدى الأطفال؛ ويمكن أن تشمل مضاعفاته تراجع النمو العقلي والجسدي عند الأطفال والتقزم، وهذه الإصابة تصبح غير قابلة للإصلاح بعد سن معين، أي حتى لو تحسن غذاء الطفل لن يصل نموه إلى المستوى الطبيعي. ويعد سوء التغذية السبب الأول عالميًا لمشكلات الدماغ والتخلف العقلي، ويزيد سوء التغذية لدى الأطفال احتمال إصابتهم بالعدوى والالتهابات الرئوية والملاريا والإسهال والحصبة، ويؤدي إلى انخفاض الدخل بسبب تراجع المستوى الدراسي والتحصيل العلمي في المدرسة وضعف البنية الجسمية[7].
مفهوم الأمن الغذائي
ثمة تعريفات عدة للأمن الغذائي وضعتها المنظمات الدولية المختلفة ووزارات الزراعة والغذاء حول العالم، وهي تعكس المتغيرات التي طرأت على التفكير السياسي الرسمي، لكن على الرغم من تعددها، فهي تتقارب في معاني مضامينها، وقد ظهر مصطلح “الأمن الغذائي” للمرة الأولى في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، عندما عرّفه مؤتمر الغذاء العالمي عام 1974 بأنّه “توافر الغذاء في الأوقات جميعها بما يكفي الإمدادات العالمية الأساسية منه، للحفاظ على التوسع المتزايد في استهلاك الأغذية وتعويض التقلبات في الإنتاج والأسعار”، وهو تعريف يجري التركيز فيه على مسألة الإمدادات الغذائية وضمان توافر المواد الغذائية الأساسية واستقرار أسعارها في المستويين الدولي والوطني.
وفي 1983 عّرفته (الفاو) بأنه “التأكد من أنّ الناس جميعهم لديهم إمكان الوصول المادي والاقتصادي إلى الغذاء الأساسي الذي يحتاجون إليه في الأوقات جميعها” مركزة على تحقق التوازن بين العرض والطلب في معادلة الأمن الغذائي.
وفي 1986، عرّفه البنك الدولي (World Bank) بأنّه “وصول الناس جميعهم في الأوقات جميعها إلى ما يكفي من الغذاء لحياة نشطة وصحية”، وربط بين الجوع والفقر، فميّز بين انعدام الأمن الغذائي الدائم المرتبط بالفقر وانخفاض الدخل، وانعدام الأمن الغذائي الظرفي الذي تسببه الصراعات والحروب أو الكوارث الطبيعية أو الأزمات الاقتصادية.
ومع انتصاف التسعينيات صار الأمن الغذائي يعد مصدرًا حقيقيًا للقلق في المستوى الفردي والعالمي، وتوسع مفهومه ليشمل سلامة الغذاء والتوازن الغذائي، وبناءً على ذلك عرّفه مؤتمر القمة العالمي للأغذية عام 1996 بما يأتي: “يتحقق الأمن الغذائي، في المستويات الفردية والأسرية والوطنية والإقليمية والعالمية، عندما يحظى الناس جميعهم في الأوقات جميعها بإمكان الوصول المادي والاقتصادي الآمن إلى ما يحتاجون إليه من الغذاء الكافي والمغذي اللازم لتلبية احتياجاتهم وتفضيلاتهم الغذائية لحياة نشطة وصحية”.
وفي 2001 اعتمد مندوبو مؤتمر القمة العالمي للأغذية التعريف الآتي: “الأمن الغذائي هو حالةٌ تتحقق عندما يحظى الناس جميعهم في الأوقات جميعها بإمكان الوصول المادي والاجتماعي والاقتصادي إلى غذاء كافٍ ومأمون ومغذٍ، يلبي احتياجاتهم الغذائية وتفضيلاتهم للطعام وذلك لحياة نشطة وصحية”[8].
واليوم ﻳﻌﻨﻲ ﻣﻔﻬﻮم اﻷﻣﻦ اﻟﻐﺬاﺋﻲ وفق ﺗﻌﺮﻳﻒ ﻣﻨﻈﻤﺔ (اﻟﻔﺎو): “ﺗﻮﻓﻴﺮ اﻟﻐﺬاء لأﻓﺮاد اﻟﻤﺠﺘﻤﻊ جميعهم ﺑﺎﻟﻜﻤﻴﺔ واﻟﻨﻮﻋﻴﺔ اﻟﻼزﻣﺘﻴﻦ ﻟﻠﻮﻓﺎء ﺑﺎﺣﺘﻴﺎﺟﺎﺗﻬﻢ ﺑﺼﻮرة ﻣﺴﺘﻤﺮة ﻣﻦ أﺟﻞ ﺣﻴﺎة ﺻﺤﻴﺔ وﻧﺸﻄﺔ”[9].
وتقول (الفاو): “يعاني الشخص انعدام الأمن الغذائي عندما لا يمكنه الحصول بانتظام على ما يكفي من الغذاء المأمون والمغذّي من أجل النموّ والتطور الطبيعي وعيش حياة نشطة وصحية، وقد يكون ذلك بسبب عدم توافر الغذاء و/أو نقص الموارد للحصول على الغذاء، ويمكن أن تتفاوت حدّة الشعور بانعدام الأمن الغذائي”[10].
وقد أصبح الغذاء اليوم حقًّا من الحقوق المنصوص عليها في الدستور في أكثر من 40 دولةً حول العالم[11].
أبعاد الأمن الغذائي وتحقيقه
تتمثل أبعاد مفهوم الأمن الغذائي في النقاط الأربع الآتية:
– توافر الغذاء: ويدل على التوافر المادي للغذاء ذي الجودة الملائمة، إضافة إلى مستويات مخزون الغذاء سواء كان إنتاجًا محليًّا أم مستوردًا، ويتضمن ذلك المعونة الغذائية.
– الحصول على الغذاء: ويعني إمكان الوصول الاقتصادي والمادي العادل إلى الغذاء، ويجري فيه التركيز أكثر على سياسات غذائية تضمن التوازن بين الدخل والإنفاق والأسعار، لأن الإمداد الكافي من المواد الغذائية في المستوى الوطني أو الدولي لا يضمن في حد ذاته الأمن الغذائي في مستوى الأسرة.
-الانتفاع الغذائي: ويعني ضمان حصول جسم الفرد على القدر اللازم من العناصر الغذائية المختلفة في الطعام، وعدم وجود أمراض تعوق -أو تمنع- امتصاص المواد المغذية، وهذا يقتضي وجود نظام تغذية جيدة كمًا ونوعًا، وتنوع النظام الغذائي، والإعداد والتخزين الصحيحين للطعام، وضمان جانب الاستخدام البيولوجي الجيد للأغذية المستهلكة.
-ديمومة الغذاء: وتعني استقرار الحصول على الغذاء عبر الوقت، ويشير ذلك في الوقت نفسه إلى كل من توافر الغذاء وإمكان الحصول عليه، فلكي يكون الغذاءُ آمنًا يجب أن يحصل السكان جميعهم على كفايتهم منه في الأوقات جميعها، وضمان عدم شعورهم بخطر فقدانه بسبب الأزمات المديدة أو الكوارث الطارئة المفاجئة أو الأحداث الدورية المتكررة مثل انعدام الأمن الغذائي الموسمي.
أما تحقيق الأمن الغذائي فيعني تحقيق أبعاده الأربعة السابقة كلها، وغيابُ أي واحدٍ منها يعني الدخول في حالة انعدام الأمن الغذائي[12].
حقائق من الواقع السوري الراهن
أشارت إحصاءات البنك الدولي إلى خسائر تراكمية في الناتج المحلي الإجمالي بقيمة 226 مليار دولار بين عامي 2011 و2016 في سورية، فيما أشار تقرير أممي، صدر في 23 أيلول/ سبتمبر 2020 عن “اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا” (أسكوا)، بالتعاون مع جامعة “سانت أندروز” البريطانية، إلى أن خسائر الاقتصاد السوري بلغت حوالى 442 مليار دولار خلال 8 سنوات من الحرب المتواصلة في البلاد منذ 2011[13].
فيما أفاد برنامج الأمم المتحدة للاحتياجات الإنسانية في سورية HNO الذي يهدف إلى توفير البيانات الإنسانية وتحليلها وتحديد المساعدات الواجب تقديمها، في تقريره لعام 2018 بأن 6.5 مليون سوري يعانون انعدام الأمن الغذائي الحاد، ويضاف إلى ذلك 4 ملايين شخص آخرين معرضين لخطر معاناة انعدام الأمن الغذائي الحاد بسبب استنزاف سبل عيشهم، ويمثل مجموع هؤلاء الأشخاص الذين يعانون والمهددين ما نسبته حوالى 54% من سكان سورية، أما في 2019، فقد أشار تقرير وضع الأمن الغذائي إلى معاناة 6.5 مليون سوري من انعدام الأمن الغذائي، إضافةً إلى وجود 2.5 مليون شخص من المعرَّضين لخطر انعدام الأمن الغذائي، ويُقدر أنّ 40% من السوريين يصرفون 65% من نفقاتهم لتأمين الغذاء، وأن 57.2% من الأسر التي تعاني انعدام الأمن الغذائي لديها ديون مستحقة، وأن 65% من الأفراد الذين يعانون انعدام الأمن الغذائي أيضًا يعتمدون على المعونات والمساعدات، وأن 83-89% من السكان يعيشون تحت خط الفقر[14].
أما “أخبار الأمم المتحدة” فقد أفادت في 5 آذار/ مارس 2020 بأنه بينما يدخل النزاع عامه العاشر، يعيش ثلث السوريين اليوم في حالة من انعدام الأمن الغذائي، وبحسب ما أورد المدير التنفيذي لمنظمة الأغذية العالمية، “ديفيد بيزلي”، فإن ملايين الأشخاص الذين دمرت الحرب حياتهم لا يستطيعون تحمل تكاليف تأمين الطعام لعائلاتهم، فقد خلَّف النزاع الدائر في سورية اقتصادًا يوشك على الانهيار، بحسب برنامج الأغذية العالمي، وترك الملايين في حالة من الجوع وانعدام الأمن الغذائي، وبين عامي 2018 و2019 ارتفع عدد من يعانون انعدام الأمن الغذائي من 6.5 مليون إلى 7.9 مليون[15].
وفي وقت لاحق لذلك -كما تقول قناة RT Arabic الروسية-[16] أعلنت منظمة “أنقذوا الأطفال” البريطانية، أن هناك أكثر من 4.6 مليون طفل سوري يعانون انعدام الأمن الغذائي في البلاد كلها في الأشهر الستة الأخيرة، وهذا يعود إلى تأزم الوضع الاقتصادي والفقدان الجماعي للوظائف، ما أدى إلى دمار سبل عيش ملايين الناس وزاد انتشارُ فيروس “كوفيد-19 الوضع سوءًا”[17].
وقد كشف تقرير جديد أصدرته المنظمة أنه بعد نحو عشر سنوات من الصراع وما اقترن به من دمار وتهجير ونزوح، يعاني “عدد غير مسبوق من الأطفال في سورية ارتفاع معدلات سوء التغذية”، ونقلت المنظمة عن برنامج الغذاء العالمي أن سلة الغذاء التي يمكن أن تطعم الأسرة ارتفعت تكلفتها إلى أكثر من 23 ضعفًا عما كانت عليه ما قبل الأزمة[18].
بدوره، أفاد برنامج الأغذية العالمي (World Food Programme) في آب/ أغسطس 2020 أن 11.1 مليون شخص في سورية يحتاجون إلى المساعدة الإنسانية، وأن 9.3 مليون شخص يعانون انعدام الأمن الغذائي، وأن 6.7 مليون شخص تلقوا مساعدات من البرنامج عام 2019، وأن مستويات الفقر وانعدام الأمن الغذائي والاحتياجات الإنسانية الشديدة تتزايد باستمرار في أنحاء البلاد جميعها بعد تسع سنوات من النزاع.
ووفقًا لتقديرات البرنامج، يعاني حاليًا نحو 9.3 مليون سوري انعدام الأمن الغذائي، بزيادة قدرها 1.4 مليون شخص خلال الأشهر الستة الماضية من تاريخ صدور التقرير[19].
ومع استمرار النزاع الذي يؤدي إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية الحادة، سيستمر ارتفاع معدلات انعدام الأمن الغذائي.
وقد كشفت دراسة استقصائية أجراها برنامج الأغذية العالمي مؤخرًا أن الأسر السورية التي تعاني بشدة صعوبات الحصول على ما تحتاج إليه من الأغذية، أصبحت مضطرة إلى اتخاذ تدابير للتكيف مع الأوضاع السيئة قد تكون عواقبها ضارة، فبعض هذه الأسر صار يقلل وجباته اليومية من ثلاثة وجبات إلى وجبتين، وتبين أيضًا أن عدد الأشخاص الذين يشترون المواد الغذائية بالاستدانة قد ارتفع، وأن بعض الأسر باتت تلجأ إلى بيع الأصول والماشية لتأمين دخل إضافي[20].
وفي ما يتعلق بالجوع في سورية، حذرت منظمات إنسانية عدة في مطلع تموز/ يوليو الفائت، في مقدمتها “أوكسفام” (وهي اتحاد دولي لـلمنظمات الخيرية التي تركز على تخفيف حدة الفقر في العالم)، من أن أكثر من 9 ملايين سوري يعانون حاليًا الجوع، يضاف إليهم مليونا شخصٍ قد يكونون معرضين لهذا الخطر، بزيادة 42% عن العام الماضي، وذلك بسبب الانهيار الاقتصادي. وقد دقت “أوكسفام” وست منظمات أخرى، ناقوس الخطر بشأن الوضع في سورية، وقالت إنه بعد نحو 10 سنوات من حرب أدت إلى تشريد أكثر من ستة ملايين شخص، وتحول 5.5 مليون إلى لاجئين، فإن سورية تواجه حاليًا محنة الجوع الذي يجعل ملايين الناس أكثر ضعفًا وعرضة لوباء “كوفيد-19″، وأوضحت “أوكسفام” ومنظمات “الإنسانية والشمول”، و”الرعاية الدولية”، و”رؤية العالم الدولية”، و”لجنة الإنقاذ الدولية”، و”ميرسي كوربس” (Mercy Corps: فوج الرحمة)، و”المجلس النرويجي للاجئين”، أن 9.3 مليون سوري يعانون حاليًا انعدام الأمن الغذائي، وأن مليوني شخص آخرين معرضون لهذا الخطر، بزيادة 42% عن عام 2019.
وقالت المنظمة الإنسانية عبر تويتر إن “9.3 مليون سوري يعيشون الآن في مواجهة الحرب وهم يعانون الجوع والخوف من فيروس “كوفيد-19”[21].
سورية في مؤشر الأمن الغذائي العالمي
يتألف مؤشر الأمن الغذائي العالمي (Global Food Security Index) من مجموعة مؤشرات يجري من خلالها قياس الأمن الغذائي العالمي في دول العالم معظمها، وتصدره وحدة الاستخبارات في مجلة (ذي إيكونوميست)، وقد نشر أول مرة عام 2012.
وفي نسخة عام 2019 من هذا المؤشر حلت سورية في المركز 107 عالميًا بين 113 دولة شملها القياس، وتلتها مدغشقر وتشاد والكونغو الديمقراطية واليمن وبروندي وفنزويلا، ووفقًا للبيانات، بلغ مؤشر الأمن الغذائي 38.4% في سورية، وبلغ فيها مؤشر فقدان الغذاء 83.8%[22]، وقد جاءت قطر في المرتبة الأولى عربيًا بمعدل أمن غذائي قدره 81.2%، محتلة بذلك المرتبة 13 عالميًا، أما المرتبة الثانية عربيًا فقد شغلتها الإمارات بمؤشر أمن غذائي قدره 76.5%، محتلة بذلك المرتبة 21 عالميًا[23].
المسؤولون السوريون ومواجهة المشكلة بالإنكار
كما هو سائد، تغيب الشفافية والصراحة عن الخطاب الرسمي في سورية، وينكر المسؤولون الحكوميون وجود الأزمات حتى وإن كانت واضحة وخطرة، ويفعلون ذلك على الرغم من إدراكهم انعدام صدقيتهم بين الناس.
رفض وزير المالية “مأمون حمدان” تعبير” الشعب جائع” الذي أورده بعض النواب في (مجلس الشعب)، في خلال مناقشة تقرير لجنة الموازنة والحسابات في كانون الأول/ ديسمبر عام 2017، وقال مازحًا: “المرء يجوع أحيانًا”، و”لا أحد جائع في سورية، وأنا أجوع في كثير من الأحيان لأنه لا يوجد وقت لآكل فيه”[24].
وبذلك كرر “مأمون حمدان” ما سبق أن قالته “بثينة شعبان”، المستشارة الإعلامية في القصر الجمهوري، ووزيرة المغتربين سابقًا التي نفت بدورها في حزيران/ يونيو 2016 وجود جوع في سورية.
وبدوره، وفي سياق مماثل، صرح وزير الصحة” الدكتور “نزار يازجي” في مؤتمر صحافي في 2020-06-04 أنه لا انقطاع لأي مادة دوائية، وقال إنه قد يكون هناك انقطاع لأسماء تجارية، لكن توجد بدائل لها لأن الوزارة ترخص الصنف الدوائي الواحد لمعامل أدوية عدة، وقال إن الحكومة تتحمل أعباء دعم تمويل مستوردات هذه المعامل من المواد الأولية وباقي المستلزمات؛ إذ يُمول استيرادها بسعر صرف تفضيلي محدد بـ700 ليرة سورية للدولار[25]، وهذا ما يتناقض مع ما أورده موقع “الاقتصادي” الموالي للنظام الذي نقل عن صاحب أحد معامل الأدوية قوله أن مجموعات دوائية بكاملها باتت مفقودة، وأن المعامل لم تعد تستطيع تأمين المواد الأولية للأدوية بحسب صرف الدولار في السوق السوداء، وقد توقف دعم المركزي للمعامل بالدولار، وهذا ما أكدته الدكتورة “علياء الأسد”، نقيبة صيادلة دمشق في حديث لإذاعة “نينار”، إذ صرّحت أن هنالك نقصًا كبيرًا وبخاصة في الأدوية النوعية، حتى أن مستودعات النقابة “فارغة” وتعاني عجزًا ضخمًا في تأمين احتياجات الصيدليات في العاصمة دمشق[26].
وهذه بعض الأمثلة فحسب عن الأسلوب التعتيمي الذي يتعامل به المسؤولون السوريون مع المواطنين خلال الأزمات التي لم تكن أزمة الغذاء ولا أزمة الدواء استثناء منها.
الخلاصة:
مما تقدم نجد في الساحة السورية اليوم ما يأتي:
قرابة 89% من السوريين باتوا يعيشون تحت خط الفقر.
نحو 9.3 مليون سوري يعانون انعدام الأمن الغذائي بزيادة قدرها 1.4 مليون شخص بين شباط/ فبراير وآب/ أغسطس من العام الحالي.
4.6 مليون ممن يعانون انعدام الأمن الغذائي هم من الأطفال.
9 ملايين سوري يعانون حاليًا الجوع، بزيادة 42% عن العام الماضي.
مليونا شخص آخرون معرضون لخطر الجوع أيضا.
ما تزال هذه الأرقام في ازدياد، لأن الأزمة الحادة في سورية ما تزال مستمرة بتصاعد يزيدها حدة، ولا يمكن التنبؤ بالمدى الذي ستسمره أو الحجم الذي ستبلغه، لأن الحل ما يزال بعيدًا عن الواقع، ولا دليل على قربه في المدى المنظور، فالمنظومة المتسلطة في داخل سورية ما تزال متشبثة بسلطتها مهما كانت الأثمان التي يدفعها الشعب باهظة، وعواقبها وخيمة، وصراع ذوي المصالح المتوحشة الخارجيين، من قوى دولية وإقليمية، ما يزال مستعرًا، وأمام أطماعه المتضخمة لا قيمة ولا أهمية لمدى كارثية معاناة السوريين الذين ما يزال عليهم أن يتحملوا طويلًا آلم المعاناة المتعددة والمتزايدة ومجهولة الأمد.
[1] – الجـــوع – FAO منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة:
[2] – مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، الإعلان العالمي بشأن استئصال الجوع وسوء التغذية:
[3] – الحق في الغذاء الشبكة العالمية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية:
https://www.escr-net.org/ar/resources/368859
[4] – –سوء التغذيةـ طب وصحة – الجزيرة نت، 3\6\2014
[5] – الجـــوع – FAO منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة:
[6] – المرجع نفسه.
[7] – -الجزيرة نت، المرجع نفسه
[8] -الباحثون السوريون – الأمن الغذائي العالمي وواقعه السوري:
https://www.syr-res.com/article/21302.html
[9] – اﻷﻣﻦ اﻟﻐﺬاﺋﻲ ﻓﻲ اﻟﺪول اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ – صندوق النقد العربي
[10] – الجـــوع – FAO منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة:
[11] –الباحثون السوريون، المرجع نفسه.
[12] – سوريا.. 442 مليار دولار خسائر الاقتصاد جراء الحرب، وكالة الأناضول، 23 أيلول/ سبتمبر 2020.
[13] – الباحثون السوريون، المرجع نفسه
[14] – المرجع نفسه.
[15] – أخبار الأمم المتحدة- 5 آذار/ مارس 2020:
https://news.un.org/ar/story/2020/03/1050571
[16] – 700 ألف طفل جديد ينضمون لأكثر من 4 ملايين طفل يعانون الجوع في سوريا – RT Arabic، 29 أيلول 2020 .
[17] – أكثر من ٤ ملايين طفل سوري يعانون من انعدام الأمن الغذائي، موقع “بوابة الأخبار” العماني، 1 تشرين الأول/ أكتوبر 2020:
https://bawabaa.org/news/304588
[18] – سوريا.. أكثر من ٤.٥ مليون طفل يواجهون الجوع، موقع “بوابة الأخبار” العماني، 30 أيلول/ سبتمبر 2020:
https://bawabaa.org/news/565133
[19] -برنامج الأغذية العالمي، الجمهورية العربية السورية، التقرير القُطري الموجز
https://ar.wfp.org/countries/syria-ar
[20] – المرجع نفسه.
[21] – منظمات إنسانية تحذر أكثر من تسعة ملايين سوري يعانون من الجوع، مهاجر نيوز، 01\07\2020
[22] – Global Food Security Index (GFSI)
https://foodsecurityindex.eiu.com/Index
[23] – أمن الدول الغذائي – RT Arabic
[24] – وزير المالية لا أحد جائع في سورية.. وأنا أجوع في كثير من الأحيان لأنه لا يوجد وقت لآكل فيه، Economy2Day، 2017-12-05
[25] – وزير الصحة لا انقطاع لأي مادة دوائية، والحكومة تتحمل أعباء دعم تمويل المستوردات- S A N A، 2020-06-04:
وزير الصحة: لا انقطاع لأي مادة دوائية.. والحكومة تتحمل أعباء دعم تمويل المستوردات-فيديو
http://sana.sy/?p=1160706&embed=true#?secret=7tCIyPb24c
[26] – أهل دمشق؛ أعزاء قومٍ استبد بهم الجوع مجلة المجلة، 24 حزيران/ يونيو 2020.