مقدمة
سرّب عنصر أمن سوري منشق أُطلق عليه اسم قيصر صورًا لبضعة آلاف من ضحايا التعذيب في معتقلات النظام عام 2014، ما أحدث صدمة في العالم الحر، واستغرق الأمر خمس سنوات من الجهود المبذولة من قبل أميركيين وسوريين قبل أن يرى قانون “قيصر” النور، الذي وقعه الرئيس الأميركي في شهر كانون الأول/ ديسمبر 2019، ودخل حيز التنفيذ في السابع عشر من شهر حزيران/ يونيو الحالي.
تكمن أهمية قانون “قيصر” في توقيته وشموليته والظروف المحيطة به، فقد جاء في وقت وصل فيه النظام إلى حافة الهاوية، وهو عاجز عن إدارة المناطق التي يسيطر عليها لوحده، وضاق الخناق على حليفه الإيراني بسبب العقوبات التي تستهدفه منذ أعوام، بينما يجد الحليف الروسي نفسه في مأزقٍ من جراء استهدافه بهذا القانون.
لن تقتصر آثار تطبيق هذا القانون على النظام والداخل السوري، ويطال كل الأطراف الخارجية التي تقدم الدعم للنظام، بما في ذلك كيانات روسية وإيرانية ولبنانية وعراقية، ما يضع هذه الدول في مرمى القانون.
قانون “قيصر” والحليفين الروسي والإيراني
يعدّ هذا القانون عقبةً كأداء أمام مسعى الروس لتحقيق حل سياسي منفرد لمصلحتهم، فضلًا عن عجزهم عن دفع فاتورة إعادة إعمار بلدٍ ساهموا بتدميره. ويسود الترقب والانتظار الموقف الروسي من سريان مفعول قانون “قيصر”، فعلاقة روسيا بحليفتيها تركيا وإيران ليست على ما يرام من أجل تفعيل مؤتمرات أستانة من جديد لمواجهة الولايات المتحدة، وقد وفّرت لها هذه المؤتمرات الكثير من النجاحات في السابق. وكونها مسؤولة عن ممارسات النظام أمام العالم إلى هذه الدرجة أو تلك، فمن المحتمل أن تتعاون روسيا هذه المرة مع الولايات المتحدة لإطلاق عملية سياسية ينجم عنها تطبيق القوانين الدولية ذات الصلة، وأهمها قرار مجلس الأمن رقم 2254، فليس من المعقول أن تضحي بمصالحها مع الغرب إلى ما لا نهاية.
كانت إيران الخمينية قد تغلغلت بقوة في المنطقة، وعملت على تطويع مكونات محلية لجعلها منطلقًا لتمرير سياساتها وتصدير ثورتها. وبمرور الوقت، صارت قاعدة إيران في لبنان، حزب الله، أقوى من الدولة اللبنانية، فيما تحكمت الميليشيات المرتبطة بها في العراق بمفاصل الدولة، وبما يشبه “تسرطن” هاتين الدولتين بالنفوذ الإيراني وصعوبة الفكاك منه. أما بالنسبة إلى سورية، فقد ضمنت إيران بتحالفها الاستراتيجي مع النظام ممرًا بريًا إلى قاعدتها في لبنان، وفي النهاية صارت البلدان الثلاثة خاضعة بدرجة كبيرة للاستراتيجية الإيرانية.
وتنبّهت الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة إلى مخاطر السياسات الإيرانية، بعد إفساح المجال لإيران باستباحة العراق لسنوات عديدة، فعادت لتشديد العقوبات والتضييق على مرور الإيرانيين إلى لبنان عبر العراق وسورية، بينما تولّت إسرائيل مهمة تحجيم أنشطة إيران العسكرية في سورية، ويأتي قانون “قيصر” ليشكل نقلة مهمة في هذا الصدد، فهو موجه ضد إيران أيضًا، كأهم داعم لنظام الأسد.
تأثير قانون “قيصر” على النظام وسورية
لم تتوقف العقوبات الأميركية والأوروبية على النظام منذ أربعة عقود، ودفع الشعب السوري ثمن ممارساته والعقوبات التي طالته في آن، ونجا منها بفضل مساعدة الحلفاء واستخدام الطرق الالتفافية غير المشروعة، وقد اكتسب المزيد من الخبرة عبر استخدام شركاء خاصين وشركات وهمية.
وضع “القانون” أشخاصًا من النظام وحلفائه على قائمة عقوباته، على رأسهم رئيس النظام وزوجته، وكياناتٍ محلية ودولية داعمة، وأحكم الرقابة على المصرف المركزي السوري، كونه مصدر قلق في ما يتعلق بغسل الأموال. مع ذلك، من المبكر الحديث عن نتائج العقوبات الأميركية، إن كانت ستفضي إلى الإطاحة بالنظام أو إلى إجباره على الخضوع إلى عملية الانتقال السياسي، فالأمر مرهون بإرادة دولية جدية وبتعاون الأطراف الأخرى، وأهمها الطرف الروسي، وهو الطرف الأكثر قدرة على إحداث صدع غير قابلٍ للالتئام في بنيته الأمنية والعسكرية.
أما ما جاء في قانون “قيصر” حول إمكانية تخفيفه أو إعادة النظر به إن نفذ النظام المطالب الأميركية، مثل إطلاق سراح المعتقلين والشروع في العملية السياسية وغيرها، فهذا لن يتحقق على الأرجح بالعقوبات مهما عظمت، فالنظام عصيّ على التغيير من تلقاء ذاته، ويمكنه الاستمرار والتكيف، إن لم يتخذ حلفاؤه، الروس تحديدًا، خطواتٍ جدية في هذا الشأن، ومنها إلزامه العودة إلى أعمال اللجنة الدستورية والانخراط في عملية الانتقال السياسي.المؤكد أن السوريين في مناطق النظام سيعانون بشدة، وإن نسبة من هم تحت خط الفقر ستزداد، وهي النسبة التي قدرتها الأمم المتحدة بأكثر من 80 بالمئة. وسيتوقف الأمر على الطريقة التي يمكن أن تتأمن فيها موارد العيش الأساسية في الأشهر المقبلة.
لا يقتصر تأثير القانون على المناطق التي يسيطر عليها النظام، ويشمل مناطق الشمال الغربي التي تهيمن عليها تركيا أيضًا، في ظل ترابط الاقتصاد واستمرار تلقي الأجور والرواتب التقاعدية للقاطنين في هذه المناطق بالليرة السورية. ومع ذلك، اتخذت الحكومة المؤقتة قرارًا بإغلاق المعابر، ففي تصريح لموقع “عربي 21” (18/ 6/ 2020)، قال وزير الاقتصاد في الحكومة المؤقتة، عبد الحكيم المصري، بأن افتتاح معابر تجارية مع مناطق النظام سيعرض مناطق المعارضة إلى العقوبات الأميركية.
وكان الإجراء الأول الذي اعتمدته تركيا قبيل تطبيق القانون هو ضخ المزيد من الليرات التركية، كبديل عن الليرة السورية التي تشهد انهيارًا مستمرًا. يعزز استخدام الليرة التركية سيطرة تركيا على هذه المناطق ويشكل، مع استمرار غياب الحل السياسي، خطرًا محدقًا على سلامة الأراضي السورية. ومع ذلك، يشوب الترحيب بالقانون في هذه المناطق نوع من الحذر من أن يؤدي تطبيقه إلى تفاقم الأزمة المعيشية المتفاقمة أصلًا، إن لم تفضِ الضغوط إلى مخرج ما للحالة السياسية المستعصية، وما ينتج عنه من رفع تدريجي العقوبات.
وليست مناطق قسد بمنأى عن آثار هذا القانون، وحتى مع وعود المبعوث الأميركي إلى مناطق قسد، ويليام روباك، باستثناء مناطق الإدارة الذاتية الخاضعة للحماية الأميركية من تداعيات قانون “قيصر”، فالأمر غير ممكن عمليًا، والمنطقة تتعامل بالليرة السورية التي تفقد قيمتها باستمرار. كما أن التشابك الاقتصادي موجود بين هذه المنطقة وباقي المناطق السورية، ما يجعل آثار “القانون” تنعكس في كل المناطق، ولو أنها أكثر وضوحًا في مناطق سيطرة النظام.
وتفيد المعلومات الواردة من منطقة الجزيرة بارتفاع مضطرد للأسعار، يتماشى والانخفاض المستمر في قيمة الليرة، ويعزى ذلك أيضًا إلى الحرائق المفتعلة التي قضت على آلاف الهكتارات المزروعة بالقمح والشعير، وإلى ارتفاع تكاليف النقل والمنافسة على شراء القمح من الفلاحين بين النظام وقسد.
لكن مناطق قسد تبقى مفتوحة على كردستان العراق، ما قد يخفف من المعاناة، وتتخذ الإدارة الذاتية إجراءات للتخفيف من ثقل الأزمة، ومنها تثبيت سعر الدولار والتحكم بكمياته وتسعير السلع في السوق المحلية. وإذا كانت الليرة التركية قد دخلت في سوق التداول المالية في المناطق الخاضعة للنفوذ التركي، إلى جانب الليرة السورية والدولار، فإن مناطق قسد ما زالت تتعامل بالليرة السورية إلى جانب الدولار، كما كانت الأمور قبل تطبيق القانون الأميركي المشار إليه.
في كل الأحوال، ستتأثر جميع المناطق السورية بالقانون الأميركي، ولو بنسبٍ متفاوتة، وتتوحد معاناة السوريين مرة أخرى. وللمفارقة، قد يكون ذلك عامل توحيد للسوريين الذين فرقتهم الحواجز السياسية والعسكرية وما زال يربطهم، إلى حد كبير، الانتماء إلى سورية خالية من الاستبداد والنفوذ الأجنبي.
قانون “قيصر” ولبنان
كان لبنان فسحة للحرية يهرب إليه السياسيون والمثقفون من حكم العسكر في سورية منذ استقلالها، لكنه تحول بعد التدخل السوري عام 1976، بضوء أخضر أميركي – إسرائيلي، إلى ملعبٍ للنظام الأمني السوري الذي مارس فيه تسلطه من دون ضابط، واستفاد من الحرية الاقتصادية للقيام بعمليات التهريب وإيداع الأموال في بنوكه. وبعد خروجه من لبنان عام 2005، من جراء الضغوط الأميركية التي تلت اغتيال الحريري، عاد النظام من النافذة بقوة، من خلال العلاقات المتينة التي تربطه بحزب الله المدعوم من إيران، ولم تتوقف العلاقة/ الشراكة الاستراتيجية بين هذه الأطراف الثلاثة، إيران والنظام وحزب الله، حتى الآن.
وكان لبنان رئة سورية في سنوات الحرب، مثلما كانت سورية على الدوام ممره البري الوحيد إلى العالم العربي، وهو يعيش الآن أزمته الاقتصادية الحادة، ومنها القيود المفروضة على تعاملاته المالية، وسيتأثر أكثر من تطبيق قانون “قيصر”، نظرًا لتراجع استثمارات اللبنانيين المتعلقة بإعادة الإعمار في سورية، وتوقف عمليات التهريب من المعابر غير الشرعية التي يسيطر عليها حزب الله. تشكل هذه المعابر نقطة ضاغطة على الحكومة اللبنانية في مفاوضاتها مع المؤسسات الدولية، مثل صندوق النقد الدولي، في إطار مساعيها إلى إنقاذ الاقتصاد اللبناني. من جهة ثانية، يعيد قانون “قيصر” ملف المفقودين اللبنانيين في السجون السورية إلى دائرة الضوء من جديد، من خلال وضعه كل من له علاقة بتعذيب السجناء على لائحة عقوباته.
كما انعكس الترابط بين الاقتصادين السوري واللبناني انخفاضًا في قيمتي عملتيهما قبيل تطبيق القانون آنف الذكر. وعزي الانخفاض الشديد في العملة اللبنانية في هذه الفترة على ضخ المزيد من الدولارات اللبنانية في السوق السورية من قبل عملاء لبنانيين، ما ساهم في تحسن مؤقت في قيمة العملة السورية.
في كل الأحوال، ستتراجع العلاقات الاقتصادية السورية – اللبنانية على نحوٍ تدريجي مع تقدم تطبيق القانون بمراحله الأربع حتى آب/ أغسطس، وربما لن تعلن الحكومة اللبنانية عن موقف محدد من تطبيق القانون، تفاديًا للإحراج وتوتير الوضع الداخلي أكثر مما هو عليه. وفي حال التزام لبنان رسميًا بقانون “قيصر”، فإنه سيتجنب معظم تأثيراته السلبية على اقتصاده، ولكن ليس بوسعه فعل الكثير في ما يتعلق بقنوات المعابر غير الشرعية التي يديرها حزب الله. وفي تصريح صحفي (17/ 6/ 2020)، طالب رئيس الحكومة السابق، سعد الحريري، الحكومة اللبنانية، من موقع المعارضة، بأن تقرر ماذا ستفعل بشأن قانون قيصر.
العراق وقانون “قيصر”
للمفارقة، خضع العراق للنفوذ الإيراني منذ الاحتلال الأميركي، 2003، وشاب علاقاته مع الولايات المتحدة الكثير من العوائق، وفي الآونة الأخيرة، عادت هذه العلاقات لتتعزز، بعد انتفاضة الجنوب المعادية لإيران وميليشياتها والمطالبة بتحسين الوضع المعاشي ومكافحة الفساد، ونجاح رئيس الوزراء العراقي الجديد، مصطفى الكاظمي، في تشكيل وزارته والحصول على ثقة البرلمان، برغم ما يُشاع عن عدم رضا إيران عنه. ومع ذلك، لن يكون العراق بمنأى عن العقوبات الأميركية المتأتية عن تطبيق قانون “قيصر”، وتتعلق آثارها بحجم الدعم الذي يحصل عليه النظام السوري من العراق أو من إيران عبر العراق، كون القانون يهدف بالأساس إلى تقويض المحور الإيراني في المنطقة، والعراق منخرط في هذا المحور من خلال الميليشيات المدعومة من إيران وتقاتل في سورية.
خاتمة
يمكن اعتبار قانون “قيصر” ضربًا من الرد الأميركي على روسيا لتعطيلها قرارات مجلس الأمن الدولي 14 مرة، من خلال استخدام حق الفيتو لمنع اتخاذ أي إجراءات فعالة ضد النظام السوري، وبمشاركة الصين في أغلب هذه المرات. مع ذلك، ولتحقيق نجاح ملموس، لا بد من أن تترافق الضغوط الاقتصادية بإرادة قوية لإحداث انتقال سياسي في سورية المنهكة، بخلاف ذلك، ستحدث معاناة لا سابق لها، ويتكيف النظام مع العقوبات عبر طرقٍ التفافية كان قد خبرها عبر عقود، ما يذكر بقصة العقوبات الصارمة التي طُبقت على العراق لأكثر من عشر سنوات ولم تسقط نظامه الاستبدادي، إلا بعد حملةٍ عسكرية قادتها الولايات المتحدة في عام 2003.
الأمر المختلف في الحالة السورية هو وجود الطرف الروسي كعامل داخلي سوري مهم، والذي من مصلحته الاستجابة للضغوط الأميركية لتحقيق الانتقال السياسي لسببين مختلفين؛ الأول هو أنه سيعاني من عقوبات قانون “قيصر”، كطرف داعم للنظام، والثاني هو أنه بذلك سيكون قادرًا على تحجيم نفوذ إيران ودورها المعيق لأي حل سياسي.
يوفر مثل هذا التوافق الأميركي – الروسي المرتقب فرصةً حقيقية لإحداث التغيير التدريجي في سورية، واختصار وقت معاناة السوريين الذين يرزحون تحت وطأة ظروف قاهرة تقترب من حدّ المجاعة. كما يجعل التوافقُ على التغيير عمليةَ التخلص من القوى المتطرفة وإدماج المجموعات السورية المسلحة الأخرى في العملية السياسية أمرًا أقل صعوبة.
بغير الحل السياسي لن يكون ثمة مخرج ملائم من الأزمة المستمرة، التي يبدو بأن قانون “قيصر” يُفاقمها في مختلف المناطق السورية. والأسوأ هو أن توحّد القوى الداعمة للنظام صفوفها لمواجهة العقوبات الأميركية والتكيف مع نتائجها، مع عدم وجود إرادة أميركية كافية لاستمرار الضغط على النظام وحلفائه، ما يُفضي إلى استنقاع سياسي قد يستمر لعدة سنواتٍ أخرى.