يتميّز شرقنا العريق تاريخيًا بالتنوع الديني والعرقي والمذهبي وحتى الثقافي، ومن المفترض أن يكون هذا التنوع عامل ارتقاء حضاري وإبداعي، لكنه تحول -لأسباب ذاتية وموضوعية- من الإيجابية إلى السلبية؛ وبات معوقًا ينذر بخطر كبير شاهدنا آثاره في الاختلاف الحاصل بين المكونات والأيديولوجيات السورية عندما تعثرت الثورة، وذلك على الرغم من أن التنوع آية من آيات الخالق في خلقه: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} الروم: 22
هناك وَهْم عند المتغولين، دينيًا وطائفيًا وعرقيًا وحتى أيديولوجيًا، حوَّل هذه السنة الإلهية إلى ظاهرة باتت فاحشة في مظاهرها السلوكية، وغدت خطرًا حقيقيًا على الإنسان ذاته والمجتمع، وهي ظاهرة وهم الصواب المطلق.
ما الصواب المطلق؟
هو الاعتقاد أن ما يعتنقه الشخص من معتقد ديني أو انحياز مذهبي أو طائفي وكذلك ما ينتمي إليه عرقيًا أو حزبيًا، هو الصواب المطلق، ومن ثم فإن ما يخالفه هو خطأ مطلق، وبذلك يكون أمام خيارات تتمثل في جعل الآخر المختلف معه مشابهًا له أو العمل على إلغائه فيزيولوجيًا، أو التقوقع على اعتقاده.
يُصَنَّع وهم الصواب من جهات وصائية معينة في كل ملَّة أو طائفة أو حزب؛ تعمل على غسل أدمغة أتباعها؛ وغالبًا ما تشوبها العاطفة الانفعالية لتوهمها أنها -ومن يشبهها- على صواب مطلق؛ عليها أن تتشبث به، ولا تسمح للآخرين بالنيل مما تعتقد.
وهم الصواب المطلق؛ هذا الداء الذي يعاني بسببه كثيرون منا، بات عامل تخلف ومعوقًا من معوقات نهضتنا المنشودة بالالتحاق بنسق الحضارة العالمي؛ إذ لا نستطيع إنجاز مشروع وطني أو اجتماعي أو ثقافي، لأننا نجد هؤلاء الموهومين بالصواب المطلق يضعون عصيهم في عجلات الإنجاز، لفرض وهم صوابهم المطلق على هذا المشروع أو إفشاله.
الوهم فلسفيًا ونفسيًا
الوهم فلسفيًا هو شكل من أشكال تشوه الإحساس تجاه الأشياء سواء كانت موجودًة أم غير موجودة من خلال الإيمان القوي بأمر غير ممكن أصلًا، وللوهم تأثير كبير في الإنسان أكثر من تأثير البصر وما يراه حقيقًة، فالفكرة التي يكوِّنها عن الشيء تشغل حيزًا في عقله أكثر مما رآها عليه، حتى لو كانت الفكرة خاطئًة، وفي الأغلب هي كذلك؛ ما دامت تخالف الشيء المحسوس.
في الجانب النفسي؛ حاول كثير من المفكرين وعلماء النفس التركيز على مفهوم الوهم، وتوصلوا إلى عدد من الحقائق أهمها: “يُعرِّف الوهم في اللغة بأنه الظن الفاسد والخداع المختلف عن الواقع، وبأنه كل خطأ طبيعي يُمكن أن يُرتكب فيخدع المظاهر”.
ويقع على عاتق الوهم إعطاء صورة مخالفة للحقيقة عن الواقع، سواء أكانت أفضل أم أسوأ، ويخضع الوهم لقاعدة التسويغ التي تعني محاولة الفرد تفسير السلوكات الصادرة عنه بصورة غير صحيحة، لإعطاء المشروعية لنفسه، يمكن أن يصل الفرد إلى مرحلة يحاول فيها دمج أفراد آخرين وإقحامهم في قناعاته ذات التوجهات السياسية أو الدينية أو الاجتماعية بطرائق غير صحيحة علميًا، تعتمد على الوجدان العاطفي ليس إلا، مستغلًا حاجة الآخر إلى ذلك الوجدان[1].
حقائق فلسفية عن الوهم
بتقدم مدارس علم النفس الحديثة استطاعت تحويل حالات كثيرة من الوهم السلبي إلى الإيجابي؛ واستثماره في الانتقال والتوحد تجاه هدف استراتيجي بالاتفاق على مشترك إنساني؛ تصب نتائجه في مصلحة الاجتماع البشري، فيمنح الجميع طاقة إنتاج ترتقي بهم حضاريًا وإنسانيًا ومن ثم يعمل على تنميته بحيث لا يكون معوقًا من خلال الاعتراف أنّ للآخر حقًا في التعبير عما يعتقد من دون الإساءة إلى الآخر المختلف.
توصل الفلاسفة قديمًا إلى عدد من الحقائق حول الوهم، بحيث عدّوه من القوى الإدراكية بجانب العقل، وقد قالوا بوجود نوعين من الوهم أحدهما قد يصيب الإنسان والآخر قد يصيب الحيوان، إذ اختلف كل من ابن سينا وابن رشد في الربط بين الحواس والوهم، فتشابهوا في بعض الأمور واختلفوا في أكثرها[2].
تختلف طريقة عمل الوهم في الإنسان عنها في الحيوان، ففي الإنسان يكون مسيطرًا سلبيًا على العقل قد يقوده إلى قرارات خاطئة، بينما هي في الحيوان مرشدٌ حقيقيٌ للصواب. لا يمكن أن تحل القوة الفكرية والإدراكية محل القوة الناجمة عن الوهم، وقد نادى ابن رشد بذلك وأسماها بالقوة الوهمية.
بينما يعتقد العالم الألماني “ألبيرت ماغنوس”[3] أن الوهم يتبع الخيال لا العكس، وأن الخيال يمكن أن يقرر الرغبة في طلب شيء معين أو تجنبه بعكس الوهم. فيما رأى العالم “توما الأكويني” أن الهدف والغاية من القوة الإدراكية في عقل الإنسان هي نفسها الغاية من الوهم[4].
في علم النفس هنالك ما يسمى الوهم المرضي، وهو ما أطلقنا عليه هنا اسم وهم الصواب المطلق، إذ يتوهم الإنسان أن معرفته الوراثية أو المكتسبة هي عين الحقيقة، ولو وجد إنسانًا آخر يحمل ما يخالفها بنسبة كبيرة أو قليلة؛ لتمنى في أسوأ الأحوال ألا يكون المخالف موجودًا؛ ولهذا النوع من الوهم المرضي -في شرقنا البائس عمومًا ووطننا خصوصًا- أنواع مختلفة باتت تشكل مرضًا عضالًا سيقضي علينا جميعًا إذا لم نتدارك أنفسنا بشيء من العقل والحكمة والرشد.
الوهم الديني مثالًا
الوهم شكل من أشكال التشوّه المعرفي، يؤسس لاعتقاد بكامل الصوابية المعرفية، على الرغم من أنّ الآخر قد يمتلك أدلة تدحض ذلك الاعتقاد، لكننا لا نحبُّ من يشكك في المسلمات التي نشأنا عليها، لاعتقادنا أن تحطيمها يعني تحطّمنا، وهذا وهم آخر يصل بصاحبه إلى حد الوسواس.
إن أعلى مراتب وهم الصواب المطلق نجده واضحًا عند أتباع الأديان السماوية، لذلك نجد أتباعها يتشاركون في هذا الوهم الذي انتقل في تلك الديانات إلى دائرتها الداخلية، بعد أن اختلفوا في فهم النص الديني نتيجة “الهرمنيوطيقا” فتشظت الأديان وانقسمت إلى مِلل ونحل ومذاهب، ذهب كلٌ منها إلى اعتقاد امتلاكه الصواب المطلق واتهام من يخالفه بالوهم المطلق، ولكون بحثنا هذا متعلق بالإسلام فإننا لن نتحدث عما لدى الآخرين من أوهام؛ حيث لا يسمح المقام هنا لذلك.
أولى محاولات ادعاء وهم الصواب المطلق بدأت إسلاميًا بعد الخلاف السياسي بين صحابة النبي الذي استعر ليتخذ شكلًا قتاليًا دمويًا بعد اغتيال الخليفة عثمان بن عفان، فحينما آلت الخلافة إلى علي بن أبي طالب، اتهم الفريق الموالي لعثمان غير الراضي عن خلافة علي بتراخيه في ملاحقة قَتَلَةِ عثمان، فبدأ انقسام سياسي عمودي بين المسلمين لكنه سرعان ما تحول عقائديًا.
وبدأت ملامح شرعنته عندما تحركت طلائع جيش علي نحو الشام لإعادة معاوية المتمرد على سلطة الخلافة إلى بيت الطاعة؛ ولما كان أهل الشام أغلبهم متعاطفين مع علي ولم يتجاوبوا للنفير ضد جيشه، فقد وقف معاوية على المنبر مخاطبًا لهم بقوله: يا أهل الشام حدثني الأنصاري -يعني زيد بن أرقم- أن رسول الله قال: لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق حتى يأتي أمر الله. وإني أراكموهم يا أهل الشام.[5] هذا الحديث الذي رواه المحدثون بألفاظ مختلفة، وأُطلق عليه اسم حديث الطائفة المنصورة، كان المؤسس لوهم الصواب المطلق[6].
إن ما يجعلنا نذهب إلى الاعتقاد بأن هذا الحديث موضوع لأسباب سياسية، أن الشام في زمن النبي لم تكن تحت سلطة المسلمين بل إنها لم تكن قد فُتحت بعد، وأن ما قام به علماء الحديث تضعيفًا أو تصحيحًا تجاه مقولة معاوية المنسوبة إلى النبي؛ إنما هو نوع من أنواع الولاء السياسي لطرفه أو طرف علي.
لقد بدأ وهم الصواب يتأسس شرعيًا عند أنصار معاوية؛ ليكونَ المؤسس لهذا الوهم إسلاميًا، فكان الرد سريعًا من أنصار علي بن أبي طالب، عندما أسبغوا الحق الإلهي على ولايته بإحياء حديث (غدير خُم) فحولوا الحديث من دفاع النبي عن سياسة علي في اليمن إلى شكل من أشكال خلافته للنبي[7].
وبذلك أُسبغ الحق الإلهي من جانب كل فريق على موقفه، حتى يتشبث أتباعه بمواقفهم؛ ويكون عاملًا معنويًا في الصراع السياسي على السلطة في الإسلام الذي تحول إلى احتراب دموي، ما نزال نعاني بسببه حتى يومنا هذا؛ لينعكس سلبًا على كل حراك ضد الاستبداد، فيتجلى فاحشًا في الثورة السورية بوقوف أتباع ولاية الفقيه في إيران ضد إرادة الشعب السوري في التغيير، وتشارك إيران بوساطة أتباعها بإراقة الدم السوري مستنهضة ثارات الخلاف بين علي ومعاوية.
نلاحظ في ما سبق كيف كان للعامل السياسي دور في إنتاج مِلل الانقسامات المذهبية والطائفية ونِحلها، وكذلك السيرورة والصيرورة التي أدت إلى تجلياتها المعاصرة لذلك نقول: إن خلافاتنا التاريخية والمعاصرة سياسية بامتياز، وضع لها الراغبون في السلطة أصولًا عقائدية ليمنحوها بعدًا أيديولوجيًا حتى نتوارث الخلاف ونتقاتل كالمجانين، وقد انطلت اللعبة علينا جميعًا. ولا بد من حالة وعي توقف هذا الاحتراب الناتج من وهم الصواب المطلق.
إن ما يدعم فكرتنا هو الاستنتاج الذي وصل إليه أبو الفتح الشهرستاني عندما أرّخ لنشوء الملل والنحل حين قال: إن أعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة (السلطة)، إذ ما سُلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثلما سُلّ على الإمامة في كل زمان[8].
استمرت عملية شرعنة الصواب المطلق مستحدثة أحاديث منسوبة إلى النبي لتثبت صواب هذا الطرف أو ذاك، فجاء الحديث المشهور “حديث الثقلين” الذي عزز الانقسام الطائفي وجعل كل طرف يظن أنه صاحب الصواب المطلق[9].
من وهم الطائفة المنصورة إلى وهم الفرقة الناجية
يؤرخ الصراعُ بين علي ومعاوية لبداية ظاهرة الانقسامات واحترابها، ومع استتباب الأمر للأمويين ظهرت فرق عقدية كالجبرية والمرجئة والقدرية، تلاها في العصر العباسي المعتزلة وأهل الأثر (السلفية) ثم الأشاعرة والماتريدية…إلخ، ثم جاء الانقسام الفقهي المذهبي داخل أهل السنة ليستقر على المذاهب الأربعة المعروفة، وحدث الشيء نفسه عند الشيعة، إذ انقسموا إلى مذاهب متعددة وبدأت مرحلة التعصب المذهبي والاعتقادي تأخذ بعدًا تكفيريًا؛ لتظهر بِدعة سبق أن ظهرت في اليهودية والمسيحية وإني لأظن أنها مستعارة منهما، وهي ظاهرة الفرقة الناجية التي تجلت في حديث اختلف حوله العلماء كثيرًا وما يزالون، ما بين رافض له وآخر مقر به، وإني أعتقد أن الخلافات السياسية كان لها دور كبير في رفضه أو قبوله لنصرة هذا الطرف على الآخر. ونص حديث “الفرقة الناجية” يقول: ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين: اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة وهي الجماعة[10].
وهكذا نتج من وهم الصواب المطلق وهم آخر هو وهم الفرقة الناجية الذي يعتقد أصحابه أن كل مخالف لصوابهم في النار. وتنازعت هذا الوهمَ الفرق والطوائف والمذاهب كلها، وترتب على هذا الوهم تكفير كل طرف للآخر، ولقد صُنِّفت في هذه الانقسامات الناتجة من هذا الوهم كُتُب كثيرة أشهرها كتاب الشهرستاني (الملل والنحل) والكتاب الموسوعي لابن حزم الاندلسي (الفِصَلُ في الأهواء والمِلل والنِحل)[11].
القرآن الكريم وموقفه من وهم الصواب المطلق
هناك إصرار من الإسلاميين على أن يكون المجتمع كله متدينًا وعلى نمط إيماني واحد، وهذا جهل بالقرآن ومخالف للمشيئة الإلهية وسنن الله في المجتمعات: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} هود: 118
لذلك دعا القرآن الكريم إلى ثقافة التشاركية؛ ورفض ثقافة القطيعة التي يدعو اليوم إليها دعاة الصواب المطلق، وحتى عندما تحدث عن أهل الكتاب كان دقيقًا في دعوته التشاركية عندما قال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} آل عمران:64
ولاحظ هنا ثقافة التشاركية إذ قال (كَلَمَةٍ سَوَاء) ولم يقل إلى (كلمتنا) للدلالة على حرصه على ثقافة التشاركية ونافيًا ادعاء الصواب المطلق لجهة من دون غيرها؛ ولأنّ المِلل (الأديان) ذات منبع واحد تتشارك كلها في كلمة التوحيد والتحرير من عبودية العباد.
وحتى لا يكون هناك احترابات دموية بين المختلفين؛ أكد القرآن أن الفهوم البشرية للنص الديني مختلفة، وحتى لا يدعي أصحابُها الصوابَ المطلق، أعطى الله عز وجل لنفسه فقط الحق في الفصل بين المتأولين المتنازعين؛ وأكد أنّ عملية الفصل بينهم يوم القيامة حصريًا فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} الحج:17. وقال أيضًا: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} السجدة:25
رفض دعاة وهم الصواب المطلق ذلك وذهبوا باتجاهات دموية في ما بينهم، أدت إلى حروب دينية كثيرة عبر التاريخ بين أصحاب المِلة الواحد (الدين) وأصحاب الملل الأخرى، وكان الباعث لذلك القتال هو وهم الصواب المطلق، ولو بحثنا سياسيًا في تلك الصراعات الدموية لوجدنا أن السلطة حاضرة وراء كثير منها.
ثم يعود القرآن في تجلٍ رائع ليخاطب المسلمين، كي لا يدّعوا أنهم أصحاب الصواب المطلق وعليهم أن يتحلوا بالحكمة في حوارهم مع المختلف إذ يقول: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} سبأ:24/25
استهل الآية من دون أن يمنح المسلمين حق ادعاء الصواب المطلق قائلًا (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ) إما مهتدون أو ضالون، ونفى مسؤولية الآخرين عما جاؤوا به، والأجمل في هذه الآية خاتمتها التي قالت (عَمَّا أَجْرَمْنَا) والإجرام هو التقطيع لغًة، وسُمي المجرم مجرمًا لأنه يقطِّع أوصال المجتمع، فنسب الإجرام للمسلمين لا لمخالفيهم، ولمخالفيهم نَسَب العمل وهذه قمة الحكمة في الحوار مع المختلف، لم نلتزم بها وذهبنا نكفر ونتهم كل مختلف معنا بالزندقة بسبب وهم الصواب المطلق الذي نعتقده.
يذهب القرآن الكريم مذهبًا أخلاقيًا إنسانيًا عندما يرفض مبدأ السلة الواحدة في حكمه على أهل مِلة أو طائفة أو جماعة ما مهما ادعت سياسيًا أو عقائديًا أو طائفيًا؛ لأنه مبدأ فيه جور وظلم، ويضرب المثل بأهل الكتاب رافضًا وضعهم في سلة واحدة فيقول: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} فاطر:32
يطالبنا القرآن الكريم إذن بعدم ادعاء الصواب المطلق، لأن النص يحتمل أكثر من تأويل وهو حمّال أوجه، وهذا ما ذهب إليه الفيلسوف اسبينوزا حين اختلف مع الكنيسة عندما احتكرت فهم النص ومنعت الآخرين من إعمال العقل فيه إذ قال: “لكل فرد الحرية المطلقة في أن يفسر الكتاب كما يشاء وبحسب فهمه وأن يؤمن بالعقائد كما يريد؛ فالله لا يحرم على فرد حرية البحث ولا يمنعه حقه في التفكير والفهم والتفسير”.
لذلك يرفض سبينوزا سلطة المؤسسة الدينية في التفسير، لكونها كيَّفت النص بحسب عقائدها الخاصة، ومنعت الآخرين من حرية البحث والتفكير، واتهمتهم بمعاداة الله لأنهم اختلفوا معها في الآراء والمعتقدات[12].
وهذا ما تجلى في وصية النبي للصحابي محمد بن مسلمة عندما أرسله للتفاوض مع أحد القبائل قائلًا: لو طالبوك على أن تنزلهم على حكم الله فلا تفعل، إنما على حكمك، فربما لا تصيب حكم الله فيهم.[13] وأن الآخر الذي تراه مختلفًا معك منهم الصالح في نفسه ومنهم المسيء لها وآخر سابق في الخيرات، وهذا المبدأ القرآني مبدأ أخلاقي إنساني عظيم، يرفض عقلية (الشنآن) في التعامل مع الآخر[14]. وحتى في قمة الخلاف مع اليهود رفض وضعهم كلهم في سلة واحدة ودافع عن صالحيهم بقوله: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} الأعراف: 168
وحتى يؤسس القرآن على ثقافة التشاركية، دعا إلى ما يمكن الاصطلاح عليه بـ (مثلث النجاة)؛ فالنجاة يوم القيامة تحتاج إلى الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، وكل ما سواها تفاصيل صغيرة والدليل على ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} البقرة:62
اللاهوت السوري
إن الله سبحانه وتعالى يريد التوحيد للسماء والتعددية لأهل الأرض، فالتعددية سبيل كي يرى كل طرف ما لا يراه الآخرون؛ ليتكاملوا ويتعايشوا بسلام، وهنا لا بد من إحياء تيار النقاط البيضاء الموجود يقينًا عند كل مكون سوري، فيؤسس مجموعها اللاهوت السوري، علّنا نخرج من هذا النفق المظلم الذي دخلنا فيه في أثناء هذه العشرية السوداء، ولا بد من حكماء يعملون من خلال النقاط البيضاء ليؤسسوا لاهوتًا سوريًا ينقذ هؤلاء الضعفاء والمساكين مما حاق بهم، ويحقق لهذا الشعب المظلوم الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية من خلال دولة المواطنة التي تنظر إلى أبنائها كلهم بمساواة وعدالة.
فلا يُفرق بين سوري وآخر على أساس ديني أو طائفي أو قومي أو مذهبي، ولا يحق لأبناء مِلّة ما أن يحتكروا الصواب ولا السلطة ولا الحق، ففي دولة المواطنة، يكون العطاء على قدر الكفاءة لا على قدر الولاء.
إن ثقافة المواطنة لا تلغي الانتماء الديني أو القومي أو الطائفي، لكنها تنهي التفضيل على أساسها، لتحقق الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية لمواطنيها كلهم، إذ لا يوجد أحد منا يمتلك الصواب المطلق، ولا أحد منا على خطأ مطلق، وكل منا فيه شيء من الصواب، فمتى نبلغ هذا الرشد الوطني؟
[1] ـ راجع في ذلك ما اتفقت عليه مدارس علم النفس في ذلك منها مقال لنهى الصراف موقع العرب. الأربعاء: 2019/08/28 بعنوان: الوهم شكل من أشكال تشوه الإحساس والإيمان بأمر خاطئ.
[2] ـ مفهوم الوهم في الفلسفة. هبة الجندي https://bit.ly/3naimxl
[3] ـ ألبيرتوس ماغنوس (عاش في كولونيا، بين عامي 1200 – 1280)، معروف أيضًا باسم القديس ألبيرت الكبير، وألبيرت كولونيا، كاهن وراهب دومينيكي حقق الشهرة لمعرفته الشاملة ودعوته إلى التعايش السلمي بين العلم والدين. يعد أعظم لاهوتي وفيلسوف ألماني من العصور الوسطى. كان الأول من بين دارسي القرون الوسطى الذي طبـّق فلسفة أرسطو في الفكر المسيحي. كرمته الكنيسة الكاثوليكية بصفة دكتور الكنيسة واحدًا من 33 شخصًا فقط الذين نالوا هذا التكريم. من إنجازاته في الكيمياء اكتشاف عنصر الزرنيخ. كان ذلك عام 1250م.
[4] ـ توما الأكويني: (1225 – 1274) قسيس وقديس كاثوليكي إيطالي من الرهبانية الدومينيكانية، وفيلسوف ولاهوتي مؤثر ضمن تقليد الفلسفة المدرسية. أحد معلمي الكنيسة الثلاثة والثلاثين، ويعرف بالعالم الملائكي (Doctor Angelicus) والعالم المحيط (Doctor Universalis). والأكويني نسبته إلى محل إقامته في أكوين. كان أحد الشخصيات المؤثرة في مذهب اللاهوت الطبيعي، وهو أبو المدرسة التوماوية في الفلسفة واللاهوت. تأثيره واسع في الفلسفة الغربية، وكثيرٌ من أفكار الفلسفة الغربية الحديثة إما ثورة ضد أفكاره أو اتفاقٌ معها، خصوصًا في مسائل الأخلاق والقانون الطبيعي ونظرية السياسة. يعد الأكويني المدرس المثالي لمن يدرسون ليكونوا قساوسة في الكنيسة الكاثوليكية. ويُعرف بعملية خلاصة اللاهوت والخلق والخالق. يعدّه عدد من المسيحيين فيلسوف الكنيسة الأعظم لذلك تُسمى باسمه كثير من المؤسسات التعليمية.
[5] ـ أخرجه أبو داود الطيالسي.
[6] ـ حديث الطائفة المنصورة رواه أحمد وغيره يقول: لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظاهِرِينَ، لِعَدُوَّهِمْ قَاهِرِينَ، لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ -إِلاَّ مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لأْوَاءَ- حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ الله وَهُمْ كَذلِكَ. قالوا: يا رسُولَ اللهِ، وَأَيْنَ هُمْ؟ قالَ: بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وهو حديث خادم وداعم لرواية معاوية. المذكورة آنفًا. ولقد استعمِل في الصراع العربي/ الإسرائيلي في أثناء الانتفاضة الفلسطينية الثانية استعمالًا كبيًار في مساجد المسلمين قاطبة نوعًا من الدعم المعنوي الإلهي.
[7] ـ حديث غدير خم رواه الترمذي والنسائي وأحمد: من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيثما دار، اللهم هل بلغت.
[8] ـ المِلل والنحل للشهرستاني. ج:1 ص:21
[9] ـ راجع دراستنا لهذا الحديث المنشورة في موقع حرمون بعنوان السنة النبوية والطائفية السياسية: https://bit.ly/2GOKk1Z
[10] ـ الحديث رواه أبو داود والترمذي وغيرهم عن معاوية بألفاظ مختلفة؛ وقد صححه الترمذي والحاكم والذهبي وابن كثير والحافظ ابن حجر والشاطبي. قال ابن تيمية: هو حديث صحيح مشهور. وقال الحاكم: حديث كبير في الأصول. وضعفه ابن حزم في كتابه الفصل في الملل والنحل وقال عنه باطل، وكذلك الشوكاني في الفتح الرباني.
[11] ـ كتاب ابن حزم الأندلسي الفِصل في الملل والأهواء والنحل، سِفر عظيم في دراسة الأديان والفرق والمقارنة بينها. وقد مكث ابن حزم في تأليفه مدة تصل إلى عشرين عامًا وما زال ينقح فيه ويزيد حتى وفاته منتصف القرن الهجري الخامس. وكذلك كتاب الملل والنحل لأبي الفتح الشهرستاني ألفه مطلع القرن الهجري السادس، يتحدث عن الطوائف الإسلامية باختلافها وكذلك يتحدث عن الأديان السماوية وبعض طوائفها، والديانات والاعتقادات الوثنية ما قبل الإسلام عند العرب، وكذلك عن الأديان والفلاسفة الرومان، ويتحدث عن الأديان والاعتقادات لدى حكماء الهند.
[12] ـ رسالة في اللاهوت والسياسة؛ الفيلسوف باروخ سبينوزا. ص:258.
[13] ـ حادثة محمد بن مسلمة رواها مسلم في صحيحه: وإذا حاصرت أهلَ حصنٍ فأرادوك على حكم الله فلا تُنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أَتُصيبُ حكمَ الله فيهم أم لا.
[14] ـ جاء في معجم المعاني الجامع: شَنَآنٌ: حِقْدٌ، بُغْضٌ: وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا. المائدة:8.