تدخل القضية السورية مرحلة جديدة من التدخلات الدولية، حيث أثارت زيارة وزير الخارجية الصيني (وانغ يي) جدلًا واسعًا وتساؤلات وتخوفًا، عند السوريين الذين لا يرون في هذه الزيارة إلى دمشق بادرة خير، في توقيتٍ يدلّ على توجّه جديد للقيادة الصينية، ويوضّح تعاطيها مع الملفّ السوري من خلال مرحلة تختلف عن سابقتها، من حيث الشكل، حيث كانت تظهر كداعم للطرف الروسي، على الرغم من حضورها في الملفّ كونها عضوًا دائمًا في مجلس الأمن الدولي، حيث استخدمت الصين حق النقض (الفيتو) خلال التصويت في مجلس الأمن، على قرارات تخصّ القضية السورية، أربع مرات، لصالح نظام الأسد، إلى جانب الفيتو الروسي، ومن حيث المضمون، بالظهور العلني في المسرح السياسي الدولي، خاصة على خشبة الشرق الأوسط!
وفي حين كانت تبدو السياسة الصينية المعلنة، وكأنها ليست متوافقة تمامًا مع الروسي ولا تقف تمامًا ضد الثورة والمعارضة السورية، بل تقوم بمواقف تتعلق وترتبط بقضايا أخرى مع روسيا أو الولايات المتحدة الأميركية، كنوع من المناكفات السياسية، فإن هذه المواقف كانت ضد مصلحة الشعب السوري. لكن هذه الزيارة، في هذا التوقيت، عقب انتخابات غير شرعية، وفي اليوم التالي لـ “أداء القسم”، وبعد عشر سنوات لم يقم فيها أي مسؤول صيني رفيع بزيارة لسورية، تُعدّ مؤشرًا على تحوّل في السلوك الصيني في الملفات السياسية الدولية عامة، وسورية خاصة، وربّما اختارت بكين الملفّ الأكثر سخونة للإطلالة من خلاله، في ظل تلكؤ القوى الفاعلة فيه أو عجزها وإرجائها لحله.
وهذا ما يؤكده طرح وزير خارجيتها “مبادرة”، وهي دلالة على العزم في التدخل ونيّة على التأثير، وإن لم تكن المبادرة بنقاطها الأربعة واضحة بشكل جيد، فهي لم تتطرق إلى القرارات الأممية، وإن استخدمت مفرداتها، وخاصة ما يتم تكراره عن “عملية سياسية بقيادة وملكية سورية”، والحفاظ على سيادة سورية وسلامة أراضيها، ومكافحة الاٍرهاب، والكفّ عن الحديث عن إسقاط النظام، والدعوة للحوار بين الفصائل.
ولا تعتبر هذه النقاط كافية، فهي كلام عام يعبّر عن موقف دعم لنظام دكتاتوري، بل استغلال لهذا النظام المنهار ومحاولة للدخول من بوابة إفلاسه، اقتصاديًا وماليًا، وعدم مقدرة داعميه على إنقاذه في ظل العقوبات الدولية المفروضة عليه، وتوقف عملية تعويمه عربيًا، سواء بعودته للجامعة العربية أو بإعادة العلاقات العربية الثنائية للبلدان التي اتخذت موقفًا علنيًا داعمًا للثورة والمعارضة، ودوليًا من خلال مواقف دولية أهمّها مواقف الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وعدم القبول بتمويل عملية إعادة الإعمار من الدول العربية الخليجية والدول الأوروبية، وربطها بحلّ سياسي يستند إلى القرار 2254، ومن بوابة اللجنة الدستورية التي وضعت النظام والثورة والمعارضة في صيغة متساوية لا تغيّر فيها المحاولات الميدانية والعسكرية، وفي ظلّ حدود شبه ثابتة لقوى الأمر الواقع والقوى الدولية والإقليمية المتدخلة والداعمة لكل طرف.
وبالعودة لطبيعية النظام الصيني، كنظام يقوم على دكتاتورية الحزب الواحد ولا يعنيه -من قريب ولا بعيد- أيّ طرح ديمقراطي، ولا حرج لديه في التعامل مع عصابة حاكمة يمكن أن ترهن ما تبقى من سورية مقابل هذا الدعم، وخاصة في ظل الظروف الحالية، وهي فرصة للوصول إلى حلم قديم إلى البحر المتوسط وإلى منطقة مهمة، جغرافيًا وسياسيًا.
و لن تعترض روسيا وإيران على التدخل الصيني -على الأقل في المدى القريب- فهما بحاجة إلى من يساعد في تحمل الأعباء الثقيلة في سورية الناتجة عن تدخلهما المباشر، وسترحّب كلتاهما بمن يقدم دعمًا ماليًا واقتصاديًا لإبقاء الحليف المرتهن على قيد الحياة. وفي الجانب السياسي أيضًا، هما بحاجة إلى تقوية الموقع التفاوضي، سواء في الملف النووي والقضايا الإقليمية لإيران، أو في الملفات العديدة بين روسيا وأميركا والدول الغربية، ومن ضمن ذلك العقوبات على كلّ منهما أيضًا. ومن المعلوم أن الاستراتيجية الصينية تقوم على الزحف الاقتصادي الذي يتم من خلاله التأثير السياسي في الدول التي تقيم معها اتفاقات اقتصادية، ومن ثم جعلها تدور في فلكها ومجالها الحيوي.
ومع الاتفاقية الإستراتيجية مع النظام الإيراني التي وقّعتها بكين منذ شهور، تكون الخطوة الأخيرة في زيارة ودعم “النظام السوري” محاولة لوجود الصين في المنطقة منطقة الشرق الأوسط سياسيًا، بعد أن كانت لها محاولات عديدة للحضور، من خلال المشاريع الاقتصادية وكثير من الطروحات على دول المنطقة من سورية، قبل الثورة، بل في القرن الماضي، وفي الكويت كان هناك حديث عن منطقة حرة صينية، منذ فترة قريبة، لكن المشروع أوقف ربّما بضغط أميركي. أرجو ألا تكون هذه الخطوة مؤشرًا على زيادة في تعقيد الوضع السوري، خاصة أنها تصب في مصلحة ورواية النظام عن النصر وعودة العلاقات الدولية، حيث سيسعى النظام لاستغلالها داخليًا، لزيادة إحباط السوريين ودفع ما تبقى منهم للخروج والهجرة، حيث بيع الوهم في ظل العجز، خاصة أن دخول الصين ليس بهذه السهولة، ولن تستطيع أن تنتج حلًا خارج التوافق الدولي وضمن المنظومة الدولية وعناصرها، وهي لا تستطيع سوى أن تظهر في الصورة الكلية، كأحد الأقطاب الدولية، بعد أن كانت تمارس سياساتها الناعمة.