لا يبدو المشهد الفلسطيني على خير ما يرام، إن نظرنا إليه من منظار آني، لكنّه يختلف إذا ما دقّقنا بعناصر القوّة التي يمتلكها أصحاب الحق، مقابل هزالة موقف الغزاة، على ما لديهم من أسلحة وعتاد وحلفاء. الموضوع بالنهاية إرادة حياة وتشبّث بالحقوق وثقة بالنفس، مقابل خوفٍ كامن في أعماق من يدركون كذب أساطيرهم وخرافاتهم وضعف حججهم ومستنداتهم. لكنّ عدالة القضيّة لا تكفي وحدها كي تكون رابحة، فلا بدّ من جهدٍ يبذله أصحابها للوصول إلى الهدف المنشود، وهذا ما حاول الفلسطينيون على الدوام القيام به، وما زالوا. صحيحٌ أنّ الأساليب اختلفت عبر سبعة عقود من النضال، لكنّها في النهاية تأتي متكاملة لا متناقضة، وما لا ينفع فيه السيف قد ينفع فيه القرطاس والقلم.
بدأ الأمر تقريبًا منذ العام 1974، حينما حصلت منظمة التحرير الفلسطينية على صفة الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وبناءً على ذلك، مُنحت صفة مراقب في الجمعية العامة للأمم المتحدة، بوصفها كيانًا من غير الدول. وبعد نضال مرير، وبعد الفشل -بسبب عقدة الفيتو في مجلس الأمن- في الحصول على صفة دولة كاملة العضوية؛ تمّ التقدّم بطلب لتغيير الصفة من كيان مراقب إلى دولة مراقِب، وقد توّج هذا الأمر بصدور قرار الجمعية العامة للمنظمة رقم 19/67 لعام 2012 الذي منح فلسطين وضعًا قانونيًا موصوفًا بـ (دولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة). تبع ذلك في عام 2015 التقدّم بطلب الانضمام إلى ميثاق روما المُنشئ للمحكمة الجنائية الدولية، فتمّ إيداع صكّ الانضمام لدى الأمين العام، الذي يُعدّ جهة مخوّلة قانونًا لإيداع المعاهدات لديها، تسترشد بقرارات الجمعية العامة لتقرير صفة الجهة المودعة: أهي دولة أم لا، لقبول طلبات الإيداع والانضمام للمعاهدات الدولية. وبعد توزيع طلب الانضمام، أسهمت فلسطين بدفع حصّتها في ميزانية المحكمة، وشارك ممثلوها بفعاليات جمعية الدول الأطراف بنشاط واضح، وقدّموا خلال الاجتماعات مقترحات كثيرة، وهذا من حقّ الدول حصرًا، وبهذا استطاع الفلسطينيون -من خلال اتباع استراتيجية واضحة تقوم على سياسة النفس الطويل والمراحل المتعاقبة- تثبيت صفة الدولة في الأمم المتحدة، ومن ثمّ الانضمام إلى ميثاق روما الأساسي، ونيل الحق في التقدّم بمطالبات لفتح التحقيق بجرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي، على أراضيها.
بعد ذلك، طلب الفلسطينيون فتح تحقيق بجرائم إسرائيل المرتكبة في الأراضي المحتلّة، وكان أن عارض المدعي العام السابق للمحكمة الجنائية الدولية السيد لويس مورينو أوكامبو هذا الأمر، على اعتبار أنّ فلسطين لم تكن في أثناء ولايته قد حصلت على صفة دولة في الأمم المتحدة، لكنّ المحاولات استمرّت حتى قبلت المدعية العامّة الحالية فاتو بن سودا هذه المطالبة، وأحالت إلى الدائرة التمهيدية في المحكمة طلبها لفتح التحقيق في الجرائم المزعوم ارتكابها في دولة فلسطين.
أتى قرار الدائرة التمهيدية للمحكمة الجنائية الدولية بتاريخ 5 شباط/ فبراير 2021، بإعلان ولاية المحكمة واختصاصها القضائي لفتح تحقيق بهذه الجرائم، تتويجًا لجهود جبّارة بذلها العاملون في الشأن القانوني الفلسطيني. وإضافة إلى تحديد الاختصاص المكاني للمحكمة بشمول جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، أي القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزّة، تكمن أهمية القرار في أنّه أرسى بشكل غير مباشر قواعد قانونية، تعزز موقف الفلسطينيين بالمطالبة بالحقوق المغتصبة، وفي مقدمتها الحق بتقرير المصير.
ثم تقدّم ممثلو فلسطين بإيداع طلب لدى المحكمة، يعلنون فيه موافقة دولتهم على ممارسة المحكمة اختصاصها القضائي على إقليم دولة فلسطين، بأثر رجعي من تاريخ 13/6/2014، أي منذ حرب الخمسين يومًا التي شنتها إسرائيل على قطاع غزّة وقتها. وهنا لا بدّ من التنبيه إلى أنّه بإمكان دولة فلسطين أن تطلب من المحكمة ممارسة اختصاصها القضائي على أراضيها ابتداءً من تاريخ سريان اتفاق روما، أي على جميع الجرائم المرتكبة بعد تاريخ الأول من تموز/ يوليو 2002. ويبدو أنّ التدرّج في طلب توسيع الاختصاص مبنيٌّ على سياسة ممنهجة يتّبعها الفلسطينيّون، للحصول على أكبر قدر ممكن من أوراق الضغط السياسية، من خلال استخدام الطرق القانونية، والتهديد باللجوء إلى ملاحقة قادة الاحتلال الإسرائيلي أمام المحكمة الجنائية الدولية.
يرى المتتبّع لمراحل الصراع الطويلة التي خاضها الفلسطينيون، عبر هذه السنوات، أهميّة التشبّث بالحقوق من جهة، وأهميّة امتلاك أدوات الكفاح الناجعة في الميادين المختلفة. فعلى الرغم من المساعدات القانونية الهائلة، التي قدّمها أصدقاء وحلفاء إسرائيل، من خلال المذكرات القانونية للدفاع عن موقفها أمام الدائرة التمهيدية، تمكّن الخبراء الفلسطينيون من الفوز بهذا المضمار. فإسرائيل ليست طرفًا في ميثاق روما الأساسي المنشئ للمحكمة، ولكنها تستطيع أن تتقدّم بدفوعها من خلال خبراء القانون المستقلين، ومن خلال المنظمات والدول الحليفة والصديقة، وقد خاض هؤلاء حربًا قانونية شرسة دفاعًا عنها، لكنّ النصر كان لأهل الحق، بفضل امتلاكهم ناصية العلم والخبرة والصبر والنفس الطويل.
من المهمّ أن تستثمر القيادات الفلسطينية السياسية هذه الانتصارات القانونية بشكل جيد، وعليها أولًا أن تُمكّن الهيئات والنقابات والمنظمات العاملة بشأن جمع الأدلّة وبناء الملفات الجنائية للجرائم المرتكبة، ثم عليها ثانيًا أن تتبنّى استراتيجية المقاضاة الدولية بملفات منتقاة بعناية شديدة، يمكن من خلالها التضييق بشكل تدريجي على قادة إسرائيل من سياسيين وعسكريين، ومن ثمّ الحصول على مكاسب سياسية على الأرض، من خلال المفاوضات من موقع القوّة. فوجود أحكام أو على الأقل ملاحقات جنائية بحق هؤلاء، سيجعل عمليات تنقلهم وسفرهم محفوفة بالمخاطر، وسيربك حكومات إسرائيل المتعاقبة، وكذلك حكومات الدول الموقعة على ميثاق روما الأساسي، التي ستكون بين خيارات صعبة باستقبال مجرمي حرب مطلوبين أو التضحية بمصالحها معها، مما يعزز موقف الفلسطينيين التفاوضي في المطالبة بدولة مستقلّة على أراضيها المحتلة في العام 1967.
لم يعد بالإمكان هزيمة جيش إسرائيل عسكريًا، فالعديد من جيوش الحكومات العربية استنكفت عن هذه المهمة منذ أمد بعيد، بل باتت تجري معه مناورات مشتركة. لم تعد الاختراقات السياسية التي نجحت فيها حكومات إسرائيل المتعاقبة قليلة أو يمكن الاستهزاء بها، وبعد أن كانت لاءات العرب الثلاثة تحاصر هذا الكيان، باتت تحاصر الفلسطينيين أنفسهم الآن. وبعد أن كانت إسرائيل مجرّد كيان غريب يستمد نُسغ الحياة من أميركا وأوروبا، باتت الآن شريكًا في تقرير مصير المنطقة وفي حماية أمن دولها القومي، وستصبح قريبًا جزءًا من المنظومة الاقتصادية للمنطقة، فها هي اليوم تنافس محليًا، وعالميًا أيضًا، في ميادين التكنولوجيا والصناعات العسكرية، وفي الزراعة والسياحة وغيرها الكثير مما عجزت عنه دولنا العربية.
مع ذلك يمكن الانتصار على إسرائيل في ميادين عديدة، منها القانون، إذا استطعنا أن نمتلك أدوات الصراع المناسبة، ولنا في نجاحات الفلسطينيين، من المحاميات والمحامين ومن أساتذة القانون في ميادين المحكمة الجنائية الدولية، خير مثال. نعم يمكن للقانون في بعض الأحيان أن يفعل ما عجزت عنه البندقيّة، وأن يكمّل مشوار السياسة.