غنيٌّ عن التعريف اليوم، أن التعليم يُعدّ أحد مرتكزات التنمية المستدامة، في عصر يعاني سلسلة من الأزمات، وفي ظل واقع يتسم بالحراك المستمر وسرعة التغير، ما يحتّم علينا أن نتعلم النظر إلى العالم وإلى التعليم، بطريقة جديدة، وبات من الضروري العمل على الانتقال من التعليم التقليدي، إلى التعليم القائم على مفهوم التعلّم مدى الحياة، وإلى مجتمع التعلّم الذي يوفر فرصًا متنوعة ومتعددة للتعلم، سواء في المدرسة أو في خضم الحياة الاقتصادية والاجتماعية، بغية تنمية الكفاءات، ومهارات التفكير النقدي، وحل المشكلات ومحو الأمية الرقمية، وتعزيز المسؤولية المجتمعية والمدنية، والتأكيد على التعلم النشط، وتعزيز الحوار وحرية التعبير، وخلق تعلّم يسهم في التنمية الشاملة للفرد، وفي تكوين فكر مستقل وناقد، لتحقيق الأركان الأربع للتعليم التي حددتها منظمة (يونسكو) للقرن الحادي والعشرين، في تقريرها “التعليم ذلك الكنز المكنون“: (التعلم للمعرفة، والتعلم للعمل، والتعلم للعيش مع الآخرين، التعلم لنكون)، والعمل على أن تكون الخيارات التربوية خيارات مجتمعية. ومن الأهمية بمكان مشاركة مختلف المؤسسات في المجتمع، في إبداء الرأي وإجراء مناقشة شعبية، حول تطوير العملية التعليمية، وتحديد أهدافها وعلاقتها في بناء الهوية الوطنية.
أشار بيير بورديو، عالم الاجتماع الفرنسي، إلى دور المؤسسات التربوية، في نقل التراث الثقافي من جيل إلى آخر، وكيف أنها تعمل ضمنًا، على إعادة إنتاج علاقات القوة في المجتمع، فالتربية -بحسب بورديو- وسيلة ناعمة للسيطرة والتحكم في المجتمع. ولقد عمدت السلطة في سورية، منذ البداية، إلى توظيف النظام التربوي بمختلف مؤسساته، في عملية الضبط الاجتماعي والتطويع الأيديولوجي، من أجل فرض هيمنتها السياسية، وكان هدف تطبيع عقول الأطفال والشباب بسياساتها الهدف الأبرز الذي يأتي من حيث الأهمية مقدمًا على الوظيفة المعرفية والعلمية للتربية.
لذا، فإن نظام التعليم في سورية منسجمٌ مع بنية نظام الاستبداد، فهو قائم على التلقين والحفظ، ويتميز بالجمود، ويقتل روح المبادرة، وينكر حرية التفكير والتعبير، إنه تعليم قائم على الطاعة والامتثال، والعنف البدني والعنف التربوي، وهدر كرامة الطالب، وغايته إنتاج شخصية متعلم سلبية، بحسب ما خلص إليه التقرير الوطني الثاني عن التنمية البشرية ،2004 الذي عالج موقع التعليم في بناء الرأسمال البشري ودوره في عملية التحول المجتمعي، والذي أُنجز بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في سورية، ولقد دعا التقرير إلى التحول من التعليم التلقيني، وإعادة بناء العملية التعليمية، بمختلف جوانبها (المنهج، طرق التدريس، المعلمين، التفاعل الصفي، نظام الامتحانات، البناء المدرسي)على مفهوم التعلم والتعلم الذاتي مدى الحياة، وتحسين جودة التعليم، والعمل على الابتعاد عن نزعة الكم في المناهج، التي تتميز بالكثافة والحشو، مقابل ضعف في اكتساب الطلاب مهارات التفكير العلمية والاجتماعية، فضلًا عن نقص شديد في مهارات البحث .
وعلى الرغم من قيام وزارة التربية السورية بتشكيل ورشة تطوير المناهج، والاستعانة بخبراء في التعليم وتغيير المناهج، تحت شعارات بناء مجتمع المعرفة، فإن نظام الاستبداد، مع غياب كل أشكال الحريات، أفشل عملية تطوير المناهج، وأخرجها من مضمونها، ولم تأت محاولات إصلاح النظام التعليمي بنتائج تذكر، ولعل من العوامل المؤثرة أيضًا، تراجع الإنفاق في التعليم، على الرغم من تضاعف الأعباء والمتطلبات، وبذلك تفاقمت أزمة التعليم في سورية، وكان أحد تجلياتها ضعف إعداد وتأهيل المعلمين، وبعد بداية الاحتجاجات والحرب التي شنها النظام على المجتمع، كان قطاع التعليم من أكثر القطاعات التي تعرضت للدمار، وقد أحاق الضرر بالبنى التحتية والمؤسساتية والبشرية، بعد أن كان قطاع التعليم قبل الأزمة يعاني تحديات عديدة، على صُعد نوعية التعليم ومردوده ومخرجاته، ونظرًا لاستمرار الصراع والأزمة الإنسانية الكبيرة، دخل النظام التعليمي في أزمات متوالية، سواء في مناطق النظام أو المناطق خارج سيطرة النظام؛ فكان الوصول إلى التعليم في ظل النزوح واللجوء أحد التحديات الكبرى، فضلًا عن فقدان أكثر من مليوني طفل حقهم في التعليم، ونحن اليوم، بالنظر إلى المستقبل، عندما تتوقف الحرب في سورية ويقوم فيها نظام سياسي جديد، نحتاج إلى مبادرات من أجل إصلاح التعليم، باعتماد استراتيجيات تعليم من أجل المواطنة، والاستثمار في الرأسمال البشري، عبر تحديث التعليم كصمام أمان لبناء المجتمع.
التعليم الديني
تعرف (يونسكو) التعليم الديني بالقول: “يمكن وصف التعليم الديني بأنه التعرف إلى دين المرء أو ممارساته الروحانية، أو التعرّف إلى دين ومعتقدات الآخرين، بهدف تعليم التفاعل بين الأديان، إلى تشكيل العلاقات بين الأشخاص الذين ينتمون إلى أديان مختلفة”، وتنص اتفاقية مكافحة التمييز في التعليم، على أن لا يجوز إجبار أي شخص، أو مجموعة على تلقي تعليم ديني، لا يتفق ومعتقداتهم، كما تلعب المناهج والكتب المدرسية دورًا أساسيًا في عملية التوعية بمختلف الأديان، وتعزيز فهم تنوع واحترام معتقدات الآخرين ويمكن للتعليم أن يلعب دورًا في تقبل التعددية، وإلغاء التمييز والتصورات النمطية، التي تفضي إلى الانقسام المجتمعي، كما يهدف التعليم إلى تشجيع الحوار بين الأديان.
التوظيف السياسي للدين
يُعدّ الدين مكونًا رئيسًا من مكونات المجتمع، ويشكل مرجعية أساسية للأفراد والجماعات في سورية، ويتعرض التعليم الديني للتوظيف السياسي والأيديولوجي، من قبل النظام والأحزاب والتيارات السياسية، لذا من المهم إخراج النقاش، حول المشكلات الفعلية المتصلة بالأديان والطوائف في سورية، إلى العلن -حيث إن التعتيم وتجنب الحوار يزيد تشويش الرؤية ويعوق إمكانية إقامة علاقات صحية بين الأديان- بعيدًا من المجاملات الدبلوماسية، والعبارات السطحية عن التعايش، بينما تدور تحت السطح حرب باردة بين الطوائف.
لقد عمد النظام الأسدي -تاريخيًا- إلى توظيف الدين والعشائرية والمناطقية، في جميع مؤسسات الدولة، حيث أنتج مؤسسات مشوهة لا تؤسس لحقوق المواطنة، وعمل على استيعاب كلّ قطاعات المجتمع السوري، بمؤسسات تابعة له، مراقبة ومضبوطة أمنيًا، ليحقق هيمنته الكاملة على المجتمع السوري، وإعادة إنتاج البنى التقليدية، ولقد شكل التعليم الديني في المدارس والمعاهد الدينية، المضبوطة من قبل النظام والتابعة لمؤسساته، أحد أشكال هذه الهيمنة السياسية.
في بداية الاحتجاجات، رفع السوريون مطالب بدولة المواطنة والتعددية، لكن مع تعقد الصراع وظهور التيارات السلفية والمتشددة، شاركت بعض قوى المعارضة في التوظيف السياسي للطائفية والمذهبية في الصراع، وشكل ذلك تطابقًا مع توجهات النظام، في وصم الاحتجاجات بالطائفية والإسلامية المتشددة.
موقع الإسلام السني في الحياة السياسية والاجتماعية السورية
شغل الإسلام السنّي تاريخيًا، طوال فترات زمنية طويلة، موقع الدين العام في سورية، بينما بقيت الجماعات الدينية الأخرى في الظل، محجوبة عن المشاركة في الحياة العامة، وبعد تشكيل الدولة الوطنية، حافظ الإسلام السنّي على موقعه، لتبقى المذاهب الدينية الاخرى مهمشة، باستثناء المسيحين الذين شكلوا جماعة دينية معروفة وطنيًا، ويشكل الدين الإسلامي عنصرًا رئيسًا في الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية في سورية، حيث يقر الدستور السوري بالمرجعية الإسلامية، من خلال بند واضح ينص على أن دين رئيس الجمهورية الإسلام، والشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع.
لذا نجد أن الأطفال السوريين، من مختلف الطوائف، يتعلمون في المدارس تعليمًا سنيًا، باستثناء الطلاب المسيحيين، وقوانين الأحوال الشخصية والمناسبات الدينية الرسمية هي بمرجعية سنّية، يقول ياسين الحاج صالح: إن الدولة الأسدية لم تقم في أي وقت بأي شيء للمساس بواقع الهيمنة الدينية السياسية للإسلام السني، ما يحمي استئثار السلالة الأسدية بالسلطة العمومية”، التي دعاها بالحكم السلطاني المحدث، وبذلك تخفي الدولة طائفيتها، لذا يمكن القول إن الهيمنة السنية، في مجال التعليم الديني وقانون الأحوال الشخصية، ساعدت -عمليًا- في توطيد هيمنة النظام السياسية، وإخفاء تحكمها في المجتمع.
التربية الدينية في سورية
يحتل التعليم الديني مكانة مهمة في النظام التعليمي، لكونه يدخل في جوانب التعليم المختلفة، حيث دمج في المواد التعليمية، كاللغة العربية والدراسات الاجتماعية، بوصفه قيمًا وأفكارًا، ففي مادة التاريخ في مرحلة التعليم الأساسي، على سبيل المثال، يتم تدريس تاريخ الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، في عهد النبي، وتقدم السردية عن الإمبراطوريات الإسلامية الثلاث، بوصفها عهودًا تاريخية مقدّسة. تدرس التربية الإسلامية في مرحلتي التعليم الأساسي والثانوي، تحت مسمى التربية الدينية، وتدرّس بمعدل حصتين في الأسبوع، وهي مادة إلزامية، تدخل في درجات نجاح الطلاب، ما عدا التأهيل لدخول الجامعة، يقوم بالتدريس مدرسون من خريجي كلية الشريعة، ويشمل تدريس التربية الإسلامية الأخلاقيات والسلوكات والعبادات، وإضافة إلى التعليم الديني في المدارس النظامية الرسمية، هناك المدارس الشرعية التابعة لوزارة الأوقاف، والمعاهد الدينية. التعليم الديني في سورية تقليدي وصارم، وتوجد حصص للتربية الدينية المسيحية، ويخرج الطلبة المسيحيون إلى خارج الصف في درس التربية الدينية، يعترف الإسلام بحرية الاعتقاد للديانات السماوية، لكنه يدعو إلى قتال المشركين والوثنيين، ولا يستطيع الأطفال السوريون أن يعرفوا الطوائف والمذاهب الأخرى، حيث لا تتضمن مناهج التربية الدينية تثقيفًا بالأديان والطوائف التي تعيش في سورية.
تدرّس النصوص الإسلامية والتعاليم بوصفها نصوصًا مقدسة لا تجوز مخالفتها، لتشكل مرجعية للحياة الشخصية والسلوك الاجتماعي، وتقدم بشكل أساسي الفهم الحرفي للمواضيع والأفكار المختلفة المرتبطة بالمعتقدات والممارسات الدينية، ولا تفسح المجال للتحليل والحوار، بل تعتمد أسلوب الحفظ والتلقين، لذا يشتكي كثير من الطلبة السوريين من اضطرارهم إلى الحفظ بدل الفهم، وينبّه علم الاجتماع التربوي إلى المنهج الخفي في التعليم والرسائل الرمزية التي تتجلى عبر الممارسات التعليمية، وخاصة الأساليب التي يتبعها المدرسون، ففي مجال التربية الإسلامية، يمارس المعلمون التأثير على الطلاب في تبني رؤية متشددة، لا تقبل الآخر، ولا تعترف بباقي الأديان، وتعزز التعصب والرؤية الضيقة، كما تسهم في تكريس أنماط سلوكية كارتداء الحجاب والفصل بين الجنسين.
يتجاهل التعليم الديني في سورية باقي المذاهب الإسلامية (الشيعية، الدرزية، الإسماعيلية) حيث يعتمد تدريس الإسلام السني، على الرغم من أن قرابة ثلث الطلاب يأتون من بيئات وجماعات أهلية غير سنية، ويعاني الطلبة السوريون، من المذاهب الإسلامية الأخرى، حالة تناقض بين تفسير الكتاب المدرسي للإسلام والتفسيرات التي يتلقونها في بيئتهم المذهبية.
ولقد وجهت انتقادات إلى التعليم الديني في سورية، فهو تقليدي لا ينمي التفكير الناقد، ولا يمكّن الطلاب من فهم أعمق لأنفسهم ودينهم، ولا تتضمن مناهج التربية الإسلامية تعريفًا وتثقيفًا بباقي الأديان، فضلًا عن أنها توجّه رسائل متناقضة للطلاب، ففي حين تؤكد الدراسات الاجتماعية على المساواة بين الرجال والنساء، لا تحصل النساء على موقع مساوٍ للرجل في الفقه الإسلامي، أما بالنسبة إلى تثقيف الطلاب بحقوق الإنسان، فإنها تقدم بمرجعية تاريخية لا تتناسب مع العصر (درس التسامح في الصف الثامن عن إحدى الغزوات يصف كيف أن امرأة افتدت قبيلتها في سبيل العفو وإطلاق سراح الأسرى) ومن المعروف أن عملية تجديد المناهج التربوية السورية في العام الدراسي 2011-2012، التي شملت مناهج التربية الإسلامية، لم تؤدِ إلى تغيير حقيقي، وبقيت في الجوهر محافظةً، لا تقدم قراءات أكثر انفتاحًا للدين، ولم يشمل التغيير بنية الكادر التدريسي، وبقي المدرسون من الشريحة المحافظة والسلفية، فما الفائدة من تجديد المناهج، وليس لدينا معلمون مؤهلون مهنيًا وتربويًا ونفسيًا.
إصلاح التعليم الديني
تصاعد الجدل حول دور التعليم الديني في المدارس وواقع النظم التعليمية في الوطن العربي، بعد 11 أيلول/ سبتمبر، ووجهت إليها الاتهامات بانتشار أفكار التطرف بين الشباب، ومختلف الطبقات الاجتماعية، ودعت الدراسات والبحوث إلى البحث في الخطاب الديني، وتحليل مضمونه والأساليب المتبعة في العملية التعليمية وخلصت كثير من الدراسات إلى أن التعليم الديني في مدارسنا يرتكز على قواعد قديمة، وينمي الشعور بالعزلة والكراهية ونشر ثقافة التعصب، ومن الأسئلة المطروحة للبحث:
هل ندرس الدين الإسلامي من وجه نظر معرفية أم من وجهة نظر إيمانية؟ وما هو الدور التربوي المنشود للتعليم الديني؟ هل نحيل التعليم الديني للتعليم الخاص بدل التعليم العام؟
وفي ظل الأزمة والصراع الذي تعيشه سورية اليوم، يتجلى انقسام المجتمع السوري في صراع المناهج المدرسية، فكل جهة تريد الهيمنة وفرض أجندتها السياسية والأيديولوجية، الأمر الذي يعمق الشرخ بين المكونات السورية.
لذا، فان مطلب إصلاح شامل للنظام التعليمي بمكوناته كافة، يشمل البيئة المدرسية وممارسات التعليم، بات مطلبًا ملحًا، وسيكون له تأثير عميق في جميع المكونات السورية لبناء ذاكرة وطنية مشتركة، غايته الوصول إلى تعليم من أجل المواطنة في مجتمع ديمقراطي تعددي، يرتكز على التعريف بالمفاهيم المدنية، ومهارات المشاركة والقدرة على حل المشكلات، والتفاوض، وتعزيز الشعور بالانتماء الوطني، والقيم والأخلاق المشتركة لتطوير مواطنين مسؤولين، يعرفون حقوقهم وواجباتهم، وإصلاح التعليم الديني لتعزيز قيم التسامح واحترام الآخر والمساواة والحرية، والترويج لقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، بوصفها قيمًا عالمية، بحيث يسهم في تطوير الحوار، وتنمية الفكر التحليلي والناقد لدى الطلاب، وفهم دور الأديان في الحياة.
ويقترح الدكتور محمد حبش تدريس مقرر لثقافة دينية، بغية التثقيف بكل الأديان، ويدرس لجميع الطلبة ويترك لدور العبادة تعليم العبادات، حيث تهتم المدرسة بتقديم ثقافة دينية، وأرى أن هذا الطرح خطوة بالاتجاه الصحيح نحو مجتمع الديمقراطية.
وفي مواجهة الأزمة التي تعيشها سورية، لا بد من الاعتراف بأن جميع الجماعات الدينية والمذهبية والإثنية شركاء على قدم المساواة في الوطن، وينبغي أن تتحول التربية الدينية من التعليم العام إلى التعليم الخاص.
__________
(*) بحث مقدم إلى ندوة “التنظيم السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي تحتاج إليه سورية المستقبل ” التي عُقدها مركز حرمون للدراسات المعاصرة في مدينة إسطنبول في 19 و20 تشرين الأول/ أكتوبر 2019.