عند الحديث عن النظام السوري القائم، تُستخدَم تسميات عدّة، “نظام البعث” أو “نظام الأسد” أو “نظام البعث – الأسد”، وهي تسميات تشير الى النظام السوري القائم منذ 1963، وخاصة مرحلة استيلاء الأسد على السلطة في تشرين الثاني/ نوفمبر 1970، وتوريثها لولده بشار صيف 2000 (مهتديًا بنظام كوريا الشمالية) الذي يطمح هو الآخر إلى توريثها لولده “حافظ الثاني”.
وهنا يأتي السؤال: هل هو نظام البعث أم نظام الأسد؟
تأتي أهمية الجواب عن هذا السؤال من أهمية نتائجه؛ فعندما نسمّي النظام القائم “نظام الأسد”، فهذا يعني أن ذهاب عائلة الأسد كاف بحد ذاته، بغض النظر عمّن يخلف هذه العائلة (عسكري آخر، أم مدني ليبرالي بربطة عنق، أم رجل متجلبب بجلباب ديني). وعندما نقول إنه “نظام البعث”، فهذا يعني أن هناك حاجة إلى تغيير كلّ النظم والسياسات، في مجالات السياسة والعلاقات الدولية والاقتصاد والاجتماع والثقافة، التي تم اتباعها في عهد البعث منذ 1963 حتى اليوم، أما عندما نقول إنه “نظام البعث – الأسد”، فهذا يعني ضرورة اقتلاع الاثنين معًا، كي يُفتح الباب أمام سورية الجديدة بنظام سياسي جديد، ونظم إدارة جديدة للدولة والمجتمع، ونظم جديدة لعلاقة العسكر بالسلطة، وتحديد جديد لدور الأمن، وأسس جديدة للحريات العامة في التعبير والتنظيم، ونظم اقتصاد جديدة، ونظم إنتاج الدخل وقواعد توزيعه وقواعد تحكم الثروة، وغيرها.
ومن أجل الوصول إلى جواب موضوعي عن هذا السؤال؛ نحتاج إلى معايير محددة نقيس عليها، كي يكون قياسُنا موضوعيًا يساعد في تشكيل فهم موضوعي، ولذلك سنتحدث عن دور حزب البعث، وعن دور الأسد الأب ومن بعده الأسد الابن، في تشكيل النظام السياسي والاقتصادي والإداري القائم في سورية منذ 1963 حتى الآن، وعمّن يمتلك سلطة القرار، وعلى أيّ مستوى، وعن الحصة من الدخل والثروة، وسنستخدم لذلك معيارين اثنين: الأول سلطة اتخاذ القرار؛ والثاني الحصة من الدخل والثروة،
1 – سلطة اتخاذ القرار: وضعت أسس الهيكل العام للنظام القائم في سورية بعد 8 آذار 1963. وفي السنوات 1963 – 1970، لم تكن السلطة ممركزة بشدة بيد فرد، بل كانت موزعة بين أكثر من فرد وأكثر من مجموعة، وكانوا متنافسين ومتصارعين، بالسرّ أو بالعلن، ولم يكن القابضون على مفاصل السلطة يقرّبون أقرباءهم، ولم يستخدموا المنافع الشخصية بقدر ما استخدموا الأيديولوجيا، ولكن السلطة تمركزت بيد حافظ الأسد، بعد الانقلاب العسكري الذي قاده في 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970، وأعلنه باسم “الحركة التصحيحية”، في 16 من ذلك الشهر، وقام بتعديل رئيسي عليه بأن جعل كل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية والحزبية والعسكرية بين يديه، ولكن صيغة التحالف التي قامت بعد 8 آذار ظلت مستمرة، وهي صيغة أكرم الحوراني القائمة على تحالف الجيش مع الفلاحين وفقراء المدن بقيادة العسكر، واستمر الخطاب الشعبوي مع تغوّل ظاهر لأجهزة الأمن.
اتّسم حكم حافظ الأسد بالفردية الشديدة؛ ففي عام 1973، أصدر دستورًا وضع فيه نفسه رأسًا للسلطات جميعها، التشريعية والتنفيذية والقضائية والعسكرية والحزبية. وعندما أورث ولده السلطة، أورثه هذه الصلاحيات جميعها. وقد تعمد هو ذلك، وتعمّد أن يحيط نفسه بنوع من القدسية، بناها بالتدريج سنة بعد سنة، فأصبح “القائد الخالد”؛ فكانت القرارات المركزية كلها بيد حافظ الأسد شخصيًا، وكانت تشمل قرارات السياسية الخارجية، وقرارات السياسة الداخلية بخطوطها العريضة، وقرارات السياسة الاقتصادية، وقرارات البنية التنظيمية والإدارية للدولة، والقرارت العسكرية والأمنية، والقرارات التشريعية جميعها. وفي الوقت ذاته، أعطى الأسد حرية مطلقة لإخوته ولأبنائهم ولعموم أبناء عائلة الأسد، وهي عائلة صغيرة وثانوية، في أن يفعلوا ما يشاؤون من دون أي محاسبة.
لكن دون هذا المستوى كان ثمة مستويات متعددة من القرارات، تهبط إلى يد المسؤولين الأدنى، بدءًا من رئيس الوزراء إلى الوزراء والمحافظين ورؤساء أفرع الحزب وشعبه، ومديري المناطق، وقادة القطعات العسكرية وأفرع الأمن، وحتى رؤساء البلديات والمنظمات النقابية العمالية والمهنية وغيرها. وكانت تلك القرارات تلتزم بالاتجاه العام لقرارات الأسد التي تصدر ضمن نسق معتمد محدد، وكانت قرارات هذه المستويات المتعددة في هرم السلطة وإدارات الدولة تُنتج منافع أو مضار تنال أفراد أو جماعات، وبالتالي فإن جميع هؤلاء ممن يشغلون هذه المفاصل الإدراية العليا والمتوسطة والدنيا، في مؤسسات الدولة والجيش والأمن وحزب البعث، هم شركاء في السلطة، وإن كان ذلك بنسب متفاوتة تتناسب ومستوى صلاحياتهم. وقد كان في سورية نحو 2 مليون بعثي، أي 10% من عدد السكان تقريبًا، ولذلك رأينا أن الجزء الأكبر من موظفي الدولة قد وقف إلى جانب النظام، في الحرب التي خاضها ضد الشعب السوري.
وبالتالي، تحتاج الدولة العصرية إلى أن تقوم بتغيير شامل في الأنظمة وبناء مؤسسات الدولة، وأن تكون صلاحيات اتخاذ القرار بيد سلطات منتخبة، على المستوى المركزي والمحلي، ولا يحتكرها فرد، كائنًا من كان، وأن تخضع للرقابة والمحاسبة. أما على مستوى محاسبة الأفراد، فتشمل فقط مستوى القيادات التي أعطت الأوامر ولعبت الدور الرئيس في تشكل هذه البنية وإدارتها، وكوّنت ثروات فاسدة من خلال استغلالها للسلطة، وعلى نحو بعيد عمّا حدث في العراق، من سياسات اجتثاث البعث سيئة السمعة التي قُصد منها تدمير العراق لا بناؤه، من أجل سيطرة إيران عليه.
2 – الحصة من الدخل والثروة: اعتمد توزيع الدخل والثروة في سورية، كما في غالبية دول العالم، على ثلاثة روافع: الأولى رافعة الأصول التي يمتلكها الفرد من أراض وعقارات وأموال وشركات وأسهم وغيرها؛ والثانية الفرصة التي تتيحها قرارات مفاصل الدولة والسلطات الرسمية بمستوياتها المختلفة؛ والثالثة رافعة الفساد الذي ينتجه الموقع الوظيفي، في حالة من التسيب وغياب الرقابة والمحاسبة.
اتّسمت سنوات البعث الأولى 1963 – 1970 بالتشدد تجاه الدخل والثروة، بصورة عامة، وكانت ثقافة المجتمع السوري آنذاك متشددة تجاه الفساد واستغلال السلطة، وكان القضاء ما زال يتسم بالكفاءة والنزاهة، قبل أن يتم تخريبه تدريجيًا. وقد استمر الوضع على هذا النحو تقريبًا إلى ما بعد استيلاء حافظ الأسد على السلطة، واستمر حتى سنة 1974. فقد خلقت هزيمة حزيران 1967، لدى قيادات الدولة آنذاك، نوعًا من الشعور بالتقصير والذنب بسبب الهزيمة، خاصة أن حافظ الأسد نفسه كان وزيرًا للدفاع، ولكن هذا الشعور تحوّل إلى حالة زهو بـ “النصر”، بعد حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 التي كانت نصف نصر ونصف هزيمة، ولكن حافظ الأسد صوّر الأمر كنصر مظفّر، للتغطية على ذنب الهزيمة.
بعد 1974، تدفقت مساعدات دول الخليج على سورية، فخلقت وفرة في الأموال والأعمال، وهنا انفتح باب تكوين ثروات جديدة، لقطاع الأعمال الخاص المتوسط والصغير، سواء شركات تجارة داخلية أو خارجية، أو ورش ومصانع صغيرة، أو عقارات أو شركات مقاولات أو شركات خدمات مثل النقل أو غيرها، (لم يكن ثمة قطاع أعمال كبير حينها فقد تم تدميره بين 1963 و 1965)، ولم يكن لرجال السلطة حينذاك ثروات كبيرة. وهنا، أراد حافظ الأسد أن يضمن ولاء قيادات الدولة المدنية والعسكرية من جهة، وأراد إنتاج قطاع أعمال خاص موالٍ للسلطة، من جهة أخرى، ففتح الباب مواربًا أمام نشاط القطاع الخاص، كما أراد من ذلك استرضاء المجتمع السوري. هنا، بدأ رجال السلطة بمشاركة رجال الأعمال أو بقبض الرشاوى منهم ومراكمة ثروات صغيرة ومتوسطة وكبيرة، واستمر الأمر كذلك إلى أن أصبح أبناء قيادات الدولة كبارًا، وصاروا يستطيعون ممارسة الأعمال بأنفسهم، فبدأ أبناؤهم، بما راكمه آباؤهم من مال فاسد، بتكوين الشركات ودخول قطاع الأعمال الخاص، وبدأ هذا في تسعينيات القرن العشرين وما بعد. واتسعت أعمال أبناء المسؤولين إلى أن سيطروا على المفاصل الرئيسة للاقتصاد، وخاصة بعد سنة 2000، وكان رامي مخلوف أشهرهم.
أما على صعيد الملكيات المتوسطة والأعمال المتوسطة، من أراض وورش وتجارة وعقارات، فقد بقيت بحرًا واسعًا في أيدي السوريين عمومًا، بعيدًا عن أيدي المسؤولين، ولكنها ظلّت تتأثر بقراراتهم.
وبالتالي، فقد كوّن عددٌ من أبناء بيت الأسد (باسل ثم بشار وكان واجهة أعمالهم عائلة مخلوف، ورفعت الأسد، وماهر الأسد وواجهته محمد حمشو، وجميل الأسد وأبناؤه، وكمال الأسد وغيرهم)، ثروات هائلة. وبالمقابل، كان العشرات من أبناء المسؤولين، مثل أبناء خدام وطلاس ودوبا وأبناء بهجت سليمان وعلي زيود وغيرهم كثير، قد دخلوا قطاع الأعمال من بابه العريض. وإلى جانب أبناء المسؤولين، تكونت طبقة من قطاع الأعمال الخاص، من أبناء المدن، سواء أبناء العائلات السابقة أو عائلات جديدة على امتداد سورية، وعلى الرغم من أن البعض منهم كان يعمل شراكة مع أو واجهة لأحد أبناء المسؤولين، فإن معظم هؤلاء كانوا يعملون لحسابهم مستقلين. ومن هنا، نرى أن قطاع الأعمال الصغير والكبير، وخاصة المتوسط والكبير في المدن، وقد بنى ثرواته من خلال المنافسة وفق قواعد السوق السائدة آنذاك، بقي مواليًا للنظام في معظمه.
بناءً على ما تقدّم، فإن التسمية الأصح للنظام الذي قام في سورية منذ تشرين الأول/ أكتوبر 1970 هي “نظام البعث – الأسد”.
وبالتالي، إنّ سورية الجديدة تحتاج إلى حلٍّ سياسي يقوم على رحيل الأسد، وعلى إعادة هيكلة سورية، بمختلف نظمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ونظم إدارة الدولة، وإقامة نظام ديمقراطي يقوم على تداول السلطة، وفق صناديق الاقتراع، والحريات العامة في التعبير والتنظيم، وقيم المواطنة المتساوية وحقوق الإنسان، وحيادية الدولة، وعلى نظام اقتصادي جديد يكافئ المنتِجَ، ويخلق فرص عمل بأجور مرتفعة، ويحقق توزيعًا عادلًا للدخل يقوم وفق قواعد اقتصاد السوق الحر، يراكم النمو، ويخلق فرص عمل بأجور مرتفعة من جهة، وفي الوقت ذاته، يحقق مستوًى مقبولًا من العدالة الاجتماعية، كما يقوم على بناء جيشٍ يخضع للسلطة السياسية المنتخبة ولا يتدخل في السياسة، وجهاز أمن له صلاحيات محددة، يخضع للسلطة السياسية ويكون قابلًا للمحاسبة، وجهاز قضاء نزيه لا يأتمر بأوامر أجهزة الأمن، مع دور تنموي تدخلي ذكيّ غير احتكاري للدولة، بحيث تدير عملية تحقيق هذه المعادلة.
وإنّ السعي لتحقيق أيّ صيغة أخرى للحلّ، من حكم العسكر أو حكم بلبوس ديني يمكن أن يحلّ محل نظام البعث-الأسد، لهو سعيٌ يتعارض مع هذه السمات العامة للدولة السورية الحديثة المنشودة التي قام الشعب السوري في آذار 2011، على أمل الوصول إليها، وقدّم في سبيل ذلك تضحيات كبيرة، بل سنكون قد انتقلنا من تحت الدلف لتحت المزراب، لعقود أخرى قادمة.