تزعم هذه الدراسة أن البحث والتنقيب والتحليل في حال الوطن العربي تستوجب اعتماد علم المستقبل، أي منهجه، لأنه الأقدر على استيعاب هذه الحالة، ومن ثم الغوص في إشكالاتها تمهيدًا لتقديم المشاهد البديلة. أي الحالة الوطنية والقومية التي يجب أن يكون عليها الوطن العربي. ويعتبر رسم المشاهد التي تشكل المؤشرات المستخلصة من الواقع المعاش قاعدة لها من أهم آليات علم المستقبل في رصد هذا الواقع، ومن ثم استشرافه، والتنبؤ بأحداثه ووقائعه، أي بما سيكون عليه خلال فترة محددة من سياقه التاريخي. وهي الفترة التي ستشكل مجال أو ميدان الاستشراف.

بناء على ما تقدم، فثمة فرضية تقول أن المشهد الحالي أو الراهن للوطن العربي ينذر بالخطر. والمقصود بالمشهد الحالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والعسكرية، والثقافية التي تعيشها الأقطار العربية منفردة ومجتمعة في الوقت الراهن. وتزعم الفرضية أنها تملك أسبابها ومبرراتها عندما تعلن أن الوطن العربي في خطر. وتباشر بإشهار أسبابها اعتمادًا على السؤال ـ التساؤل، هل هناك مؤشرات تشخص الحالة العربية الراهنة وتقرر أن الخطر يتهددها من كل جانب؟ وإذ يتم السؤال – التساؤل على هذا النحو، أي على ضوء المؤشرات فإن قصده أن يبعد عن الفرضية منطق الرغبة، وأن يجعل من المؤشرات دلائل خاضعة للاستنطاق لمعرفة مستويات الدقة والصدق فيها، اعتمادًا على جبلتها المركبة من الأحداث والوقائع التي تجري على الساحتين الوطنية والقومية، وما فيها من مخاطر وتحديات.

إذًا ثمة مشهد عربي قائم يعيد علم المستقبل تشكيلها اعتمادًا على مؤشر أساس يفرض نفسه بوصفه القاسم المشترك لكلى المؤشرات الباقية بحكم دلالاته المنطقية الموجودة في جوانيّته.

حيث يطرح نفسه شاهدًا على الحالة العربية والمخاطر التي تتهددها. ويتمثل هذا المؤشر على نحو أو آخر في موقف الشعب العربي من الثورات العربية من بداية انطلاقتها وحتى اللحظة الراهنة، حيث تمثل هذا الموقف على شكل حالة تعاطف ومساندة ودعم وتجاوب مع تطلعاتها الوطنية في التحرير وإقامة دول حرة ديمقراطية لها سيادتها. وتتعاظم هذه الحالة في أعقاب المشهد الدموي الذي أعقب الثورة السورية، وكأن هذه الحالة تحولت إلى بداية التاريخ في إقامة الدول العربية الحرة، وفي تحول الجماهير العربية إلى كتلة تاريخية تعد العدة لاتخاذ قرارها الحاسم بشأن الفرقة العربية، وتردي الوضع العربي غير أن البقية الباقية من المؤشرات سالف الذكر أي تبعاته واستمراريته، مثل حالة معاكسة. ففي الوقت الذي تعاظم فيه عدوان الأنظمة الأمنية القمعية القاتلة، انحسرت المساندة العربية الشعبية، ولفت الشارع العربي حالة من اللامبالاة والهامشية ويمكن وصفها بالخطورة، أو أنها إنذار للوجود العربي برمته، لأن الأمة التي لا تملك المبادرة التاريخية في السيطرة على أحداثها، وتسوقها بالاتجاه الذي يخدم مصيرها ويحقق مصالحها وينصرها على أعدائها، فإن وجودها يصبح عرضة للخطر والزوال.

ويتساند المؤشر الأساس السالف توصيفه مع مؤشرات أخرى، مثل الحرب في اليمن، والعراق، وليبيا وغيرها. والحروب الأخرى الصامتة الموجودة في كثير من العواصم والمدن العربية والمتمثلة في الغش المتبادل بين أبناء الوطن الواحد، والكره القابع في النفوس والذي يتجلى في تعابير وممارسات كثيرة، حتى إذا وقف أمامها علم المستقبل متفحصًا فإنه يجد فيها من الدلالات المخيفة بما ينذر بالخطر. وهناك الخوف القائم بين أبناء الحي الواحد، والمدرسة والنادي، والجمعيات الأهلية، والحكومية بفعل طغيان الرقابة الأمنية على الإنسان العربي. هذا بالإضافة إلى الدروس الخصوصية التي تنهب الملايين من الأسر والعائلات، وتقر بشكل أو آخر أن دور المدرسة بات يدور في حلقة مفرغة. ثم البطالة التي تضرب الوطن العربي طولًا وعرضًا، تجد الآلاف المؤلفة من الشباب، ومنهم أصحاب الشهادات الجامعية، عاطلة عن العمل، ولا حول ولا قوة على الإطلاق، لأن أبواب العمل سدت أمامهم كما أن ثروات الوطن العربي صارت لغيره بفعل الابتزاز والفساد، حيث لم تعد مؤسسة أو جهة حكومية إلا وقد نخر بنيانها الفساد. كما أن الرشوة استفحلت في الكثير من البنى العربية، حتى صار المواطن العربي الذي لا يجد “ظهرًا” يستند إليه، من أهل “الحظي” ولم يعد الرجل المناسب يوضع في المكان المناسب.

على هذا الأساس لا غيره نسأل ونتساءل عن الملامح العربية ومعالمها الأساس والمتمثلة في شكل الرأس، ولون البشرة، والأنف، والفم، والقامة، والجبهة.. الخ.. فنجد أن هذه المعالم إلى زوال. بل أنها أصبحت “خلطة” من ملامح عربية وإندونيسية، وهندية وإيرانية. ثم نسأل ونتساءل عن مصير الثقافة العربية أي قيمها وأعرافها، وتقاليدها، ومعاييرها وأخلاقها، نجد أن العرب صار لهم ولاءات مذهبية أو عرقية تتفوق على نزعتهم وعصبيتهم الوطنية والقومية. ولا شك أن هذه الثقافة ستتحول إلى خليط قيمي على حد تعبير س. ت. أليوت الشاعر الإنكليزي، وتقاليدي يؤثر على عقول الناس، وعلى وعيهم الوطني والقومي، ويدخلهم في ولاءات ونزعات بمثابة قنابل موقوتة.

تظل سورية والعراق، على الضفة الشرقية للوطن العربي، تحملان أثقال موقعهما مرة، وعمقهما التاريخي مرة ثانية، وكونهما شكّلا فلتة حضارية معاصرة مرة ثالثة، نقول يظلان جزءًا من المشهد الحالي للوطن العربي يحمل أثقال الحرب والخلافات العربية – العربية، والتنافس الدولي – الدولي، والإقليمي – الإقليمي، إلى أن يهتدي الوطن العربي إلى حل لانشاقاته.

ثمة مؤشر آخر عن مشهد عربي ينذر بالخطر، ويعلن عن حقائقه المرة، إذا لم يتدارك العرب وضعهم الراهن ويسعون إلى تغير مشهدهم الحالي، يتمثل في سلبية الإنسان العربي تجاه مصيره، وحياديته تجاه التحديات التي تهدد وجوده. وانصرافه إلى قضايا ثانوية لا تشبع ولا تغني عن جوع. وتشدده في إشباع غرائزه بعد أن سدت الأبواب أمام حوافزه وتطلعاته السياسية القومية، واحتوته مخاوف الحاكم على كرسيه، وأمن سلطته.

الملاحظ أن هذا المؤشر له مفارقته التي تملك دلالات تاريخية وطنية وقومية كثيرة، والتي تقول إن الجماهير العربية التي كانت تستشعر أحداثها وقضاياها المصيرية في عقدي الخمسينات والستينات من الألفية الثالثة، كانت تنزل إلى الشارع بناء على استيعابها الحدث الوطني والقومي، ولأنها أيضًا متفهمة لأبعاده ومخاطره، ومدركة بعقلانية لقواه وفعالياته. تسبقه وتتخذ الموقف المناسب تجاهه. لذلك أجهضت الأحلاف وحققت الاستقلال، وناصرت مصر ضد العدوان الثلاثي. ووقفت إلى جانب الثورة الجزائرية. الخ…

إذًا، المشهد السابق للوطن العربي، حمّال للخطر، اعتمادًا على مؤشراته ودلالاته، ولذلك فإن على قواه الحية المتمثلة في كتلته التاريخية التي تجلت في أكثر من مرحلة وتدارك هذا الوضع الصعب، والعمل على تعديله ببناء مشهد بديل لا وجود فيه للمؤشرات السالفة الذكر، واجتثاث كل عوامل وجودها، ووقف استمرارها وتأثيرها على الحق العربي، وأن يؤسس لحالة عربية تقبل فيها الفرقة والانشقاقات العربية، وتقوم على التعددية السياسية، وتستريح على مستوى رفيع ومتقدم من السلامة والسيادة الوطنية والقومية، وتستطلع في المشهد البديل مدرسة عربية تقدم العلم والمعرفة للأجيال القادمة، وتزرع فيهم الثقة وحب الوطن، والإبداع لأن الألفية الثالثة لم تعد تقبل المدرسة التي لا توفر للإبداع كل مقوماته، وتتكاثر فيه، أي المشهد البديل، كل فرص وضع الرجل المناسب في المكان المناسب وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية التي تجعل أبناء الوطن العربي سواسية في الحقوق والواجبات، وتلغي امتيازات النخب. وإحلال إعلام شعبي مواز للإعلام الرسمي ورفع الوصاية والإنابة عن الشعب العربي، وإطلاق روح المبادرة التاريخية فيه لأن روح المبادرة الشعبية حققت الكثير من المعجزات العربية.

الخلاصة، فإن المفارقة بين المشهد العربي الراهن والمشهد العربي البديل تعلن بكل مباشرة وصراحة أن الوطن العربي في خطر. وأن وجوده تهدده التحديات من كل جانب.

على الشعوب العربية على اختلاف فئاتها وقواها الاجتماعية وسلطها السياسة، سرعة المبادرة من أجل احتواء الواقع الراهن وتجاوزه، قبل أن يفوت أوان العرب، ويعيدهم التاريخ إلى الوراء ويصبحون من العرب البائدة في الألفية الثالثة.