يجادل عدد من السوريين بأن الثورة السورية، على الرغم من التضحيات التي قدّمتها والوضع الصعب الذي وضعت النظام فيه، لم تتمكن في النهاية من إسقاط نظام الأسد، وهذا يعني أنها انتهت، أو أنها في طريقها إلى التلاشي، ولا سيّما أنها حاليًا بعيدة بدرجة كبيرة عن إجبار النظام على الرحيل.
يجادل هذا المقال في قضيتين أساسيتين في هذا السياق: الأولى أن الثورات الناجحة ليست بالضرورة هي من تتمكن من إسقاط النظام الحاكم، في السنوات الأولى من اندلاعها؛ والثانية أن الثورات تهدف بالأساس إلى تغيير البراديم (نظام التفكير في السياسة والثقافة في مجتمع ما). وما إسقاط النظام سوى إحدى الطرق للوصول إلى تغيير البراديم، بل إنه قد لا يكون أفضلها، كما يقول تاريخ الثورات الحديثة.
فإذا نظرنا إلى الثورات على أنها حركات احتجاجية شعبية أو عسكرية، أو كلاهما معًا، لإسقاط نظام الحكم القائم، بشكل مباشر، أو عبر صراع يصل إلى حد العنف، أو بالتحوّل إلى حرب طويلة؛ فإن الحديث عن نهاية الثورة السورية صحيحٌ حتى هذه اللحظة. ولكن ليس هذا مقياس نجاح الثورات؛ فالثورة الإيرانية والروسية والمصرية، مثلًا، تمكّنت من إسقاط النظام الحاكم بشكل كلي، غير أنها أنتجت نظام حُكم لم يكن أفضل من الأنظمة السابقة، على الأقلّ على مستوى الحريات وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، أي أنها لم تتمكن من تغيير البراديم السياسي المسيطر على تلك المجتمعات، وهو براديم تسلطي دكتاتوري فاسد.
أما الثورة الفرنسية التي عانت الكثير، وقد عاد النظام الذي كان قبل الثورة أكثر من مرّة إلى الحكم، فإنها ثورة ناجحة، ليس لأنها تمكنت في النهاية من إسقاط النظام، ولكن لأنها فرضت في النهاية براديم الحقوق والحريات الذي قامت من أجله. وما يقال عن الثورة الفرنسية يقال عن الثورة الأميركية أيضًا، من حيث إن نجاحها كان بسبب تمكنها من تغيير البراديم السياسي والاجتماعي المسيطر، وليس بسبب تمكنها من إسقاط نظام الحكم السابق فقط، والحصول على الاستقلال.
وهذا ما يفسّر أيضًا تحسّر السوريين في عيد الجلاء، كلّ سنة، ذلك أن انتفاضاتهم المتلاحقة أدت إلى خروج المستعمر، ولكن لم يكن للأمر أيّ أثر، خاصة بعد عام 1963. ولذلك طرح النظام السوري الأسدي آنذاك شعار: “خرج المستعمر من الباب، وعاد من الشباك”، لكي يزيل عن نفسه الحرج، من حيث إنه كان أسوأ بكثير من المستعمر الفرنسي.
التركيز على إسقاط النظام أحدُ الأخطاء الكبرى في تاريخ الثورات، من دون إنكار أن الأوضاع في زمن الثورات كثيرًا ما تكون معقدة ومتسارعة. وهذا أحد أخطاء المعارضة الرسمية السورية التي اعتقدت أن الثورة لن تنجح إلا إذا بدأت بهدف إسقاط النظام. الخطأ هنا أن التركيز على المسارات الأخرى في الثورة لم يكن بدرجة التركيز على رحيل النظام.
للثورة السورية مساراتٌ وأهدافٌ متشعبة ومتداخلة، تتعلق بأمور عديدة: العدالة الاجتماعية، إنصاف المهمشين، نبذ ثقافة الاستبداد، تأكيد مركزية حقوق السوريين، تحفيز الشعور بالمسؤولية داخل المجتمع، كشف زيف الأفكار النمطية السلبية التي نمَّط بها النظام الأسدي السوريين، فضح زيف الأيديولوجيات الشمولية المسيطرة على المجال السياسي السوري، إعادة الثقة بين السوريين من جهة، وبين جيشهم وأجهزتهم الأمنية من جهة أخرى، التفكير في وطنية جديدة يلتف حولها السوريون، معالجة قضايا العلاقة بين الأديان والسياسية.. وهي متطلبات قامت الثورة السورية من أجل تحقيقها. ولذلك فإن تحفيز هذه المسارات يُعدّ استمرارًا للثورة، وليس من المقبول أن تقفز ثورة السوريين فوقها.
إن المراقب لمسار الثورة يدرك بسهولة أن تلك المجالات تُركت، أو تم تأجيلها، لحين إسقاط النظام، على طريقة النظام الأسدي الذي أجّل قضايا الحريات والتنمية، لحين تحرير الأراضي المحتلة وتلقين إسرائيل دروسًا لن تنساها.
بحسب تاريخ الثورات، هناك ثورات أعندُ من الأنظمة القائمة، ونَفَسها في التحدّي لا يستهان به، ولجوؤها إلى طرق أخرى، لسحب البساط من تحت أقدام المنظومة المسيطرة، كثيرًا ما غيّر الأوضاع القائمة جزئيًا، وأحيانًا بشكل كلي.
إن إنتاج قراءات بحثية وتحليلية عن الثورة السورية أمرٌ حيوي للثورة نفسها، من حيث إن مثل ذلك الإنتاج يساعد في اكتشاف طرق عديدة، يمكن للثورة من خلالها أن تقوّي نفسها، أو أن تعيد التركيز على أخطاء وقعت بها. قراءات تستشرف قادم الأيام، وماذا يمكن للسوريين أن يفعلوا اليوم.
الثورة السورية لم تنتهِ، ولكنها أيضًا لم تقم بكثير من المهمات التي يفترض أنها أخذتها على عاتقها.