منذ وصول بايدن إلى البيت الأبيض، مطلع العام الحالي، بدا واضحًا أنه يقتفي خطى سلفه الديمقراطي باراك أوباما، في الانسحاب من الشرق الأوسط ورماله المتحركة. بل إن الشرق الأوسط لم يعد يحظى، منذ أكثر من عقد من الزمان على الأقل، بالأولوية في السياسة الخارجية الأميركية. فبعد حروب جورج بوش الابن الفاشلة والمكلفة، بشريًا وماديًا، في كلّ من أفغانستان والعراق، راحت أميركا تنسحب، شيئًا فشيئًا، من تلك المنطقة الملتهبة التي طالما كانت سابقًا في قلب مصالح أميركا ومحورًا لدبلوماسيتها وصراعاتها ونفوذها الخارجي. كردة فعل على سياسات بوش الابن الذي أغرق العراق وأفغانستان بالقوات والأسلحة الأميركية وعزّز القواعد العسكرية الأميركية في مناطق مختلفة من الشرق الأوسط؛ تخلّى أوباما بشكلٍ شبه كليّ عن مصالح أميركا في تلك المنطقة، الأمر الذي تجلى في فتور العلاقات إلى حد القطيعة أحيانًا مع حلفاء أميركا التقليديين في المنطقة، مثل إسرائيل ودول الخليج العربي، وفي سياسته السلبية تجاه الحرب في سورية، وجدولته لانسحاب القوات الأميركية من العراق، وتوقيع اتفاق نووي متسرع مع إيران، منحَها به هامشًا واسعًا سمح لها بتعزيز نفوذها وتدخلاتها في دول المنطقة وتقوية ميليشياتها وخلق المزيد منها في العراق وسورية ولبنان واليمن، إلخ. مع كل خطوةٍ تتراجع فيها أميركا من منطقة الشرق الأوسط؛ تتقدم إيران خطوة لتملأ الفراغ. حصل ذلك في العراق، على سبيل المثال، الذي شهد مع خفض عدد القوات الأميركية تدخلًا مضطردًا لإيران في الداخل العراقي، فغيرت موازين القوى في ذلك البلد عبر خلق ميليشيات شيعية وأنصار لإيران تقاتل بالنيابة عنها، لكن بأسلحتها وتمويلها ودعمها واستخباراتها وبقيادة حرسها الثوري الإيراني الذي أسس هناك “حزبَ الله” العراقي، الذي يحاكي “حزب الله” في لبنان المتحكم في شؤون ذلك البلد، ويرهن مصالحه لصالح مشروع إيران في الهلال الشيعي وضرب مصالح أميركا وما بقي من قواتها.
وعلى الرغم من عودة الجمهوريين إلى الحكم مع دونالد ترامب، وعزم هذا الأخير على قلب سياسة سلفه أوباما، فإن سياسته الخارجية المتراجعة والمترددة في الشرق الأوسط لم تتغير في العمق. صحيح أنه، على خلاف أوباما، أعاد وصل ما انقطع من علاقات أميركا مع حلفائها في المنطقة، وبنى معهم تحالفًا وثيقًا بغية حصار إيران وكبح جموح توسعها وتحجيم نفوذ ميليشياتها وتدخلاتها في المنطقة، إلا أنه بقي مترددًا في الإبقاء على الوجود العسكري الأميركي في المنطقة، ومتذبذبًا بين سحب القوات الأميركية أو الإبقاء عليها أو حتى تعزيزها أحيانًا، بسياسة ارتجالية افتقرت إلى برنامج وخطة طويلة المدى. لكن في ما يخص إيران تحديدًا، فقد أدى الحصار الاقتصادي إلى إضعافها وحلفائها، وأفقرها فتراجع الاقتصاد الإيراني بشكلٍ خطير مع انخفاض مبيعات النفط، حتى توقفه تقريبًا، والنفط -كما نعلم- هو عصب الاقتصاد الإيراني، وأدى ذلك إلى تفاقم الفساد في السلطة، واستشراء فقر الناس في ذلك البلد النفطي الغنيّ الذي راح يشهد منذ سنوات انتفاضات متكررة تُقمع في كل مرة بالحديد والنار. وأدّت سياسة الحصار القصوى إلى تراجع قدرة إيران على تمويل ميليشياتها، فلجأت هذه الأخيرة إلى تعويض ذلك النقص بتوسيع عمليات غسل الأموال وتجارة المخدرات وعمليات التهريب، كما يفعل النظام السوريّ و”حزب الله” في لبنان. لا شك في أن ترامب لم يكن يسعى لإسقاط نظام الملالي في إيران، وإنما أراد إضعافه وإذلاله وإجباره على التفاوض من جديد على ملفّه النووي وقضايا أخرى توافقت عليها إدارته مع حلفائها في المنطقة، تمثلت -بحسب العديد من التقارير- بانسحاب إيران من سورية، لضمان أمن إسرائيل وإيقاف دعم الميليشيات التابعة للحرس الثوري الإيراني، كجماعة الحوثيين في اليمن و”حزب الله” في لبنان والعراق، التي تهدد مصالح أميركا في المنطقة، وتضرّ باستقرار وأمن ومصالح حلفائها من دول الشرق الأوسط. ومع ذلك كلّه، لم يكن ترامب رجل حرب وقتال، مثل سلفه الجمهوري السابق جورج بوش الابن، إذ إنّه تجنّب أيَّ تصادم عسكري مع إيران، حتى عندما أسقطت الطائرةَ الأميركية بدون طيار، حتى إنه حين منح الضوء الأخضر لتصفية قاسم سليماني فعل ذلك بعد أن تأكد أن الرد الإيراني لن يكون مباشرًا أو قويًا، بل جانبيًا لحفظ ماء وجهها ليس أكثر. تجنّب الصدام العسكري هو العنوان العريض والثابت في علاقة أميركا بإيران، منذ 1979 تاريخ الثورة الإيرانية حتى هذه الساعة.
اليوم، مع قدوم بايدن، يبدو جليًا، من خلال إستراتيجيته وتصريحات مسؤولي إدارته والإجراءات التي قام بها في الأشهر الستة الأولى منذ توليه رئاسة أميركا، أن الشرق الأوسط يبتعد أكثر فأكثر عن مركز اهتمام أميركا، ويتحول باضطراد إلى أن يكون ملفًا ثانويًا متروكًا على هامش مصالح أميركا الحالية وربما المستقبلية. فمن المؤشرات التي تؤكد عزم إدارة بايدن على التخلي عن الشرق الأوسط، يمكن أن نذكر مثلًا جدولتها لسحب قواتها من أفغانستان الذي وضعت حدًا له في 11 أيلول/ سبتمبر المقبل (تاريخ التفجيرات الإرهابية لبرجي التجارة العالميين)؛ وكذلك مطالبتها المُلحّة بإنهاء حرب اليمن، وإلغاء تصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية؛ ثم تواصل سحب القوات الأميركية من العراق، والعودة إلى التفاوض حول الاتفاق، وتؤكد التقارير الأخيرة نيّة أميركا سحب أنظمتها الصاروخية والدفاعية من العديد من قواعدها في الشرق الأوسط، بقصد إعادة تموضعها بعيدًا لمواجهة روسيا والصين، لتتفرغ أميركا لمواجهة القوتين الشرقيتين الكبريين: التنين الصيني المتعملق، والنفوذ الروسي الذي عاد بقوة إلى واجهة الصراع الدولية مع بوتين. يستعجل بايدن إقفال ملفّات أميركا العالقة في الشرق الأوسط، وعلى رأسها ملف إيران النووي، لتأجيل إمكانية حصول إيران على القوة النووية العسكرية. تترجم تلك العَجَلة الأميركية بتلك الرخاوة في مفاوضات فيينا لإدارة الرجل النائم (على حد وصف ترامب لبايدن) وإذعانها المضطرد لاشتراطات إيران التي راحت تتصلب في شروطها أكثر وأكثر، منذ بدء المفاوضات الأخيرة في مطلع نيسان/ أبريل الماضي. إذن، لرغبتها في عدم تشتيت قواتها وحشد طاقتها وتوفير نفقاتها من أجل حربها الباردة الجديدة التي بدأت أصلًا مع الصين وروسيا، تقبل إدارة بايدن إسقاط بعض العقوبات التي كانت الإدارة السابقة قد فرضتها على شخصيات ومؤسسات وشركات وبنوك إيرانية أو تلك التي تتعامل معها وتنتهك الحظر الأميركي. تُدرك إيران جيدًا تعجُّل الإدارة الأميركية الحالية في إقفال ملفّها بسرعة وتخليها عن حصارها دون مقابل يذكر، إلا منعها (وهو مجرد تأجيل في الحقيقة) من إنتاج قنبلتها النووية.
اليوم، بعد أربع سنواتٍ عجاف عاشتها إيران في زمن ولاية ترامب الوحيدة، يبدو أن الرياح السياسية تهبّ منذ نهاية العام الفائت لصالح نظام الملالي، فترامب الذي فرض سياسة الضغط القصوى على إيران، بمنع بيع النفط الإيراني، وفرض عقوبات على من يشتريه أو يتعامل معها ماليًا أو تجاريًا، وإمطار أبرز سياسييها وشركاتها وبنوكها بسلسلة من العقوبات، قد أُزيح عن كُرسي البيت الأبيض بعد الولاية الأولى فقط، لتستلم مكانه إدارة بايدن المزمعة على قلب صفحة ترامب، والعودة إلى نهج سياسة أوباما الذي أنعش إيران اقتصاديًا، وعلى مستوى النفوذ والتوسع. ولا تنحصر التغيرات الأخيرة التي تصبّ في مصلحة إيران في تغيّر الإدارة الأميركية وسعيها للانسحاب من الشرق الأوسط وإقفال ملف النووي الإيراني، فهناك تغير إقليمي يصبّ في مصلحتها مباشرةً، ويتمثل في تغير الحكومة الإسرائيلية، المنافس الأبرز لمشروع إيران التوسعي في المنطقة. فقد نجح تحالف مجموعة من الأحزاب والقوى السياسية الأسرائيلية في الإطاحة بحكومة بنيامين نتنياهو الذي بقي في الحكم 12 سنة، وانتهج سياسة مواجهة إيران وميليشياتها المهددة لحدوده ومصالحه. فقد اتضح من خطاب رئيس الحكومة الجديد، نفتالي بينيت، اليميني القوميّ المتديِّن، أن إصلاحاته ستنصب على الداخل الإسرائيلي، في ميادين الصحة والتعليم وتوحيد “الأُمّة”، من دون تحديد ملامح واضحة لسياساته الخارجية. لا شك في أن حكومة بينيت التي قامت على تحالفات غير متجانسة ستعيش صراعًا سياسيًا بينها، وسيجعلها ذلك منشغلة إلى حدٍّ كبير في صراعاتها وتحالفاتها الداخلية، الأمر الذي سيُضعف بشكلٍ واضح قدرات إسرائيل على تخريب مواقع إيران النووية والعسكرية، أو اغتيال ضباطها، أو مهاجمة سفنها، أو ضرب مخازن أسلحتها وميليشياتها في سورية ولبنان والعراق، كما دأبت على ذلك في السنتين الأخيرتين. لنتذكر -مثلًا- العمليات الاستخبارية التي قام بها الموساد على أراضيها، وفي أكثر مواقعها العسكرية والاستراتيجية حساسية، كموقع نطنز النووي، أو اغتيال العالم النووي الإيراني محسن فخري زادة على الأراضي الإيرانية، أو الاستيلاء على أطنان من المستندات المتعلقة بملفّ إيران النووي.
كلّ تلك التغيرات المواتية قد شجعت إيران على ترتيب بيتها من الداخل، لتُحكم قبضتها بشكل كامل على القرار السياسي، وتلغي كل شكل من أشكال “التعددية” السياسية في بلدٍ لا يقبل بالديمقراطية ويعاديها صراحةً. فها هي تستعد لإعادة لملمة نفسها وضبط الداخل بيدٍ من حديد، فالشعب قد أُنهك اقتصاديًا، ولم يعد بالإمكان تجييشه وغسل أدمغته، كما في السابق قبل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والثورة المعلوماتية، وهي بحاجة إلى قمعه حتى قبل أن يثور من جديد. ومع استبعاد المرشد لمجموعة من المرشحين، هيّأ الطريق أمام إبراهيم رئيسي، ليصل إلى السلطة. ورئيسي (ذو الواحد والستين عامًا) هو تلميذ الخميني، والرجل الحديدي الذي تتهمه محكمة العفو الدولية بإعدام آلاف السجناء السياسيين دون محاكمة عام 1988. ولا يخفى على أحدٍ أن السياسة الخارجية لإيران لا يرسمها رئيس الجمهورية ولا وزير الخارجية، كما تؤكد على ذلك تسريبات لمقابلة وزير الخارجية محمد جواد ظريف، الذي أقرّ بأن سليماني هو من كان يُملي عليه ما يجب فعله وقوله في هذا الملف أو ذاك، وبأن الدبلوماسية الإيرانية خاضعة للحرس الثوري وحروبه وليس العكس. إنّ تنصيب رجل محافظ متشدد مثل رئيسيّ يعني أن إيران ماضية في مشاريعها التوسعية السابقة، في سورية ولبنان والعراق واليمن، التي تظل شأنًا داخليًا إيرانيًا، في عيون الحرس الثوري الإيراني ومرشدهم الأعلى. ومع أن هناك من يرى أن تمكين رئيسي من رئاسة إيران هو محاولة لإبعاده، كخصم قويّ لمُجتبى ابن علي خامنئي، من أن يكون المرشد الأعلى القادم للدولة الإسلامية، بعد تردد التقارير حول تردي صحة خامنئي ذي اﻟ 82 عامًا، إلا أن الأكثر ترجيحًا هو إعداد رئيسي لولاية الفقيه، بخاصة إذا تذكرنا أنه الطريق الذي سار عليه خامنئي نفسه، إذ كان رئيسًا للجمهورية قبل أن يتم انتخابه من قبل مجلس خبراء القيادة مرشدًا أعلى ثانيًا بعد رحيل الخميني. إذن وصول رئيسي إلى رئاسة الجمهورية هو مؤشرٌ أول لتحوّل إيران نحو مزيد من التشدد والمحافظة في سياساتها الداخلية والخارجية التي صارت بلون واحد تقريبًا، بعد استبعاد القوى المعارضة والوسطية، في حين أن التغير الحقيقي المنتظر في سياسة إيران هو ترقّب رحيل خامنئي، أو تراخي قبضته المطلقة على السياسة الإيرانية، بسبب المرض أو ربما الموت، واختيار مرشد جديد له قريبًا.
إن عودة تلك الروح إلى النظام الإيراني وإحساسه بامتلاك اليد العليا في مفاوضات فيينا، وترتيب خططه على انسحاب أميركا من الشرق الأوسط ليحلّ محلها، راحت تدفع إدارة بايدن أخيرًا إلى التريث قليلًا، والتوقف عن تقديم التنازلات، والمفاوضة بحزم، والاستعداد لمواجهة طويلة مع إيران. فبعد تلك الرخاوة البادية في مفاوضات فيينّا للملف النووي، التي لقيت نقدًا كبيرًا لإدارة بايدن، سواء في الداخل الأميركي، وبخاصة من قبل الجمهوريين، أم من حلفاء أميركا في الشرق الأوسط المتوجسين من عودة إيران بقوة للتدخل في شؤون المنطقة وضرب مصالحهم، ها هي أميركا تلوِّح بالانسحاب من مفاوضات فيينا، وترمي الكرة في ملعب الإيرانيين مهددة باستمرار العقوبات، وهي تحاول كذلك -على ما يبدو من اجتماع ترامب بوتين- إيجاد حلّ في سورية، على حساب إيران، بل إنها شنت وللمرة الأولى منذ تسلّم بايدن السلطة ضربات عسكرية على ميليشيات إيرانية على الحدود العراقية السورية، في رسالة واضحة لإيران بضرورة عدم التمادي، وأنها لم تنسحب بعد من المنطقة، وقد لا تنسحب. لا يبدو إذن أن حلًا للملفّ النووي الإيراني سيكون منتظرًا في المستقبل القريب، ولأن الحرب المباشرة مستبعدة، ولأن إيران تستعد للعودة بقوة لتصدير ثورتها ذات النفس العسكري الطائفي المدمّر؛ فإن كل ذلك سيمثل ضغطًا على أميركا وتحديًا لمصالحها، وقد يدعوها لإعادة حساباتها في الشرق الأوسط وتأجيل انسحابها منه، بل ربما إلى تعزيز وجودها فيه.