أولًا- مقدمة
ثانيًا- روسيا البوتينية
ثالثًا- الإرادة وفرص التدخل
رابعًا- المآلات
خامسًا- خاتمة
الهوامش
أولًا- مقدمة:
في السنوات الأخيرة، بدأنا نشاهد نشاطًا ملحوظًا ومحمومًا لروسيا الاتحادية، في منطقة الشرق الأوسط، خاصة في سورية وليبيا وأوكرانيا، ويمكن أن نعدّ هذا التحرك، وبخاصة النشاط العسكري، مؤشرًا على محاولة روسيا للعودة إلى مكانة الاتحاد السوفيتي المنحلّ، وإعادة أمجاده للعب دور فعال كقطب ثان في العالم، أمام الولايات المتحدة الأميركية، ولعلّ وصول فلاديمير بوتين (رجل المخابرات القوي) إلى سدة الحكم أعطى فرصة أكبر لتحقيق هذا الحلم الذي يسعى له بوتين نفسه ليُسجَّل اسمه في التاريخ، كأسلافه لينين ووريثه ستالين الذين بنوا الإمبراطورية السوفيتية في بداية القرن العشرين، ولهذا نشاهد الزعيم الروسي يتحرك في كل الاتجاهات وعلى مختلف الصعد، خاصة الاقتصادية والعسكرية وغيرها، في محاولة لكسب نقاط ارتكاز لخلق توازن ما مع الولايات المتحدة الأميركية، أملًا في عودة روسيا للعب دور القطب الثاني المتحكم في العالم، ويمكن أن نقول إن بوتين يحاول -من خلال مخططاته- العودة إلى الساحة الشرق أوسطية، مستفيدًا من الأحداث التي مرّ بها الاتحاد السوفيتي والإخفاقات التي رافقت الحقبة السوفيتية، إذ كانت خلالها قوة عظمى ضعيفة نسبِيًّا، فالحروب التي خاضها جلبت الفقر للشعب الروسي، نتيجة التكاليف الضخمة التي تفوق في كثير من الأحيان التكاليف التي تكبّدتها أوروبا، وهذا ما أرهقها اقتِصَادِيًّا، وعلى الرغم من ذلك، استطاع السوفييت خوض كثير من الحروب على مساحات شاسعة، جعلتها لاعبًا مِحْوَرِيًّا لا يمكن تجاهله، إلا أن هذه القوة انهارت فجأة، وفرط عقد دولها، وورثت روسيا الاتحادية ما تبقى من الإمبراطورية السوفيتية، وتحولت باقي مكونات تلك الإمبراطورية إلى دول مستقلة، ومن هنا، تعرض هذه الدراسة لمحة موجزة عن المراحل التاريخية التي مرت بها روسيا الاتحادية بُعيد انهيار الاتحاد السوفيتي، وتتطرق بإيجاز إلى الطموحات التي حلم بوتين وعمل للوصول إليها، وإلى الفرص التي ساعدته في وضع الخطوة الأولى لتحقيق حلمه في إعادة الإمبراطورية الروسية لتكون أحد أقطاب الهيمنة في العالم، ومن هنا يمكن أن نصل إلى جواب عن السؤال العريض الذي يطرح نفسه: هل يمكن أن ترث روسيا الاتحادية منطقة الشرق الأوسط أم لا؟
ثانيًا- روسيا البوتينية:
وُلد الاتحاد السوفيتي من رحم الإمبراطورية الروسية منذ عام 1922، على إثر ثورة أكتوبر التي غيّرت وجه العالم، واستمر في الحياة محافظًا على وحدة خمس عشرة دولة تتمتع بالحكم الذاتي حتى عام 1991، إلى أن أعلنت تلك الدول استقلالها كدول مستقلة، واستحوذت روسيا الاتحادية على إرث الدولة السوفيتية خاصة في المجال العسكري، وبالتحديد عبر القوة النووية التي كانت قوة ردع حقيقية أكسبت السوفيت طوال عقود مكانة في العالم، وأصبحت من خلالها المنافس الوحيد للولايات المتحدة الأميركية في حكم العالم، طوال ثمانية عقود من القرن العشرين، عبر ترأسه المعسكر الاشتراكي الذي كان نِدًّا قَوِيًّا للمعسكر الرأسمالي، وبُعيد حلّ الاتحاد السوفيتي، ورثت روسيا الاتحادية كلّ مؤسساته، خاصة وزارة الدفاع التي فيها السلاح النووي والصناعات العسكرية، إلا أن تدهور الاقتصاد الذي سبق انهيار الاتحاد السوفيتي أثّر كثيرًا في برامج صناعة الأسلحة للدولة الوريثة، فتوقفت عجلة التطور في تلك الصناعات، كحال قطاعات الدولة الأخرى، واستمر هذا الركود حتى وصول رجل المخابرات القوي فلاديمير بوتين، في 31 كانون الأول/ ديسمبر 1999 (1)، الذي استطاع النهوض بالدولة الروسية، في مختلف المجالات، خاصة استخدام عائدات البترول والصناعات الحربية، وبهذا تم توفير المال اللازم للحفاظ على السلاح النووي الذي تحتاج عملية صيانته والحفاظ عليه إلى مليارات من الدولارات، لم تكن متوفرة آنذاك في الخزينة العامة، ولعلّ بعض الكوارث التي حدثت قبيل انهيار الاتحاد السوفيتي، كانفجارات مفاعل تشيرنوبل يوم 26 نيسان/ أبريل 1986 (2)، خير دليل على عجز الاتحاد السوفيتي آنذاك عن تأمين حماية وصيانة تلك المنشآت الخطيرة.
تغيّرت الأوضاع في روسيا خلال فترة قصيرة نِسْبِيًّا من حكم بوتين؛ حيث نما الاقتصاد لمدة ثماني سنوات متتالية، وزاد الناتج المحلي بنسبة 72% (3)، وظهرت روسيا من خلال ذلك كقوة أعادت بوصلتها، في مختلف المجالات، إلى الطريق الصحيح الذي كانت تنتهجه قبيل انحلال الاتحاد السوفيتي، على الرغم من مواجهتها العديد من التحديات الداخلية والخارجية، وبقيت الأوضاع الاقتصادية في نموّ تدريجي إلى أوائل عام 2114، حيث قام بوتين بضمّ شبه جزيرة القرم إلى روسيا، وقام بالتدخل العسكري في شرق أوكرانيا، مع انخفاض أسعار النفط في تلك الفترة، وكان ذلك سببًا مباشرًا في فرض دول الغرب عقوبات اقتصادية على روسيا، الأمر الذي أدى إلى انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 3.7% (4).
كان من أهمّ طموحات بوتين إعادة الإمبراطورية السوفيتية للوجود، مستفيدًا من الأخطاء التي وقع بها قادة الاتحاد السوفيتي منذ نشأته، وعلى رأس هذه الأخطاء عدم امتلاك بنى تحتية وبرامج اقتصادية ومشاريع صناعية وزراعية وطاقة بحجم دولة كالاتحاد السوفيتي، والتركيز على الصناعات العسكرية وبناء قوة دفاعية، من خلال امتلاك السلاح النووي الذي يحتاج إلى تكاليف ضخمة لا يمكن تغطيتها إلا من خلال تلك المشاريع الاقتصادية والتنموية الضخمة، كما الحال في أميركا وباقي الدول العظمى، ولهذا قام بوتين، أوّل تسلّمه السلطة، بإنشاء نظام اقتصادي وتنموي جديد يعتمد على نظام اقتصاد السوق، وتحالف مع المافيات الروسية التي قامت برعاية تلك المؤسسات والحفاظ عليها، كي تؤمن تغطية القدرات الروسية العسكرية، ومن ثم مواكبة التطورات الدولية التي حصلت إبان تسلّمها الراية، كوريثة للاتحاد السوفيتي.
استطاع بوتين خلال فترة حكمه، بمنصب رئيس جمهورية روسيا الاتحادية تارة، وبمنصب رئيس للوزراء تارة أخرى، السيطرة على مقدرات الدولة، ونشطت الحركة الاقتصادية والتجارية، وحقق نتائج إيجابية في تغطية نفقات الصناعات الحربية الروسية التي ازدهرت بشكل كبير، وأصبحت روسيا من خلال ذلك ثاني أكبر دولة في العالم، من حيث تصدير السلاح، وبهذا عادت روسيا بوتين إلى مقارعة الولايات المتحدة الأميركية ومنافستها في سوق السلاح الدولي، وهذا شجع بوتين على التخطيط لإعادة دور روسيا في الشرق الأوسط الذي كادت أن تفقده، بُعيد انطلاق ثورات الربيع العربي، حيث خسرت روسيا حليفها الاستراتيجي القوي معمر القذافي، وكانت هذه ثاني خسارة كبيرة لروسيا في الشرق الأوسط منذ الغزو الأميركي للعراق والإطاحة بالرئيس صدام حسين حليفهم التاريخي، وقبل ذلك حين توقيع اتفاقيات السلام المصرية مع الكيان الصهيوني، خسرت روسيا أيضًا جمهورية مصر العربية التي تحوّلت إلى حليف استراتيجي للولايات المتحدة الأميركية، خاصة في مجال عقد صفقات السلاح بين البلدين، وبهذا فقدت روسيا كثيرًا من حلفائها في منطقة الشرق الأوسط، ولهذا صمّم بوتين على المضيّ قُدمًا في تحقيق حلمه لإعادة دور الإمبراطورية الروسية إلى سابق عهدها، في محاولة لإيجاد موطئ قدَم دائم له في المنطقة، وعلى وجه الخصوص على سواحل البحر الأبيض المتوسط.
ثالثًا- الإرادة وفرص التدخل:
لم تنقص بوتين النية والإرادة لتحقيق حلمه، وكان تدخله في سورية لصالح بشار الأسد الباب المثالي والعريض الذي ولج منه لتحقيق هذا الحلم؛ حيث أسس لقاعدة بحرية ضخمة في ميناء طرطوس السوري على البحر المتوسط، وعزز هذه القاعدة بإنشاء قاعدة عسكرية جوية في مطار “حميميم” قرب القرداحة معقل الأسد، كنقطة ارتكاز لجميع عملياته الحربية في سورية، وانتشرت القوات الروسية على مساحات واسعة من سورية، ضمن نقاط وقواعد في كثير من القواعد الجوية والمدن والمناطق السورية، وتقاسمت القوات الروسية مناطق النفوذ مع المحتل الإيراني، واستطاعت تحقيق كثير من المكاسب الاقتصادية عبر عقد معاهدات مع الأسد ضَمِن من خلالها بقاءه في سورية، لمدة لا تقل عن أربعة وتسعين عامًا، لم تكن الظروف الملائمة لعودة الروس إلى الشرق الأوسط من البوابة السورية فقط، إنما كانت هناك أسباب أخرى مهمة شجّعت بوتين على المُضي قُدمًا في تنفيذ مخططاته، ومن أبرز هذه الأسباب:
- انكماش الولايات المتحدة الأميركية داخل حدودها، وبدء انسحابها الجزئي من كثير من بؤر التوتر، خاصة في الشرق الأوسط، نتيجة فقدانها بشكل متسارع قواها الناعمة.
- ظهور مزاج عال لدى حلفاء أميركا في التمرّد عليها.
- النشاط الصيني المحموم للتقدّم نحو الشرق الأوسط، حيث اخترقت حواجز كثيرة، واستطاعت كسرها بفضل قوتها الاقتصادية والعسكرية المتنامية باطراد.
- اطمئنان بوتين للموقف العربي الذي أثقلته الخلافات التي تفاقمت إلى درجة أن بعض الدول العربية ذهب بعيدًا ليستعين بروسيا لحلّ مشكلاته الداخلية والخارجية، ولهذا كان بوتين مطمئنًا جِدًّا، إلى أبعد الحدود، من ردات فعل الدول العربية التي لا يوجد أي أسباب موضوعية تحثها على القيام بإنشاء تحالف يمكن أن يعرقل دخول روسيا إلى الشرق الأوسط.
- الخلافات العميقة داخل حلف الناتو، وقد وصلت إلى درجة التهديد بحلّ هذا الحلف لصالح روسيا؛ فتركيا وفرنسا وقبرص وإيطاليا لم تعد تكترث لهذا الحلف كما في الماضي.
- تصريحات الرئيس الأميركي الأسبق رولاند ترامب التي تُظهر بجلاء عدم الاهتمام بحلف الناتو ومستقبله.
وبهذا؛ تكون الفرص متاحة تمامًا لعودة الروس إلى منطقة الشرق الأوسط من أوسع الأبواب، خاصة أن هذه الفرص تتماهى مع إرادة قوية وصلبة يتمتع بها بوتين تحفّزه على قلب بعض معادلات التوازن الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الأميركية، ولم يترك بوتين فرصة أو إجراء يمكن أن يقوم به ليخدم هدفه الاستراتيجي في الولوج إلى الشرق الأوسط تمهيدًا للسيطرة عليه، ولهذا أقام الروس قاعدة عسكرية ضخمة في القطب الشمالي بالقرب من الحدود الأميركية هناك لمقايضتها بميناء على المياه الدافئة، وهذا يبرهن أن بوتين ماض في مخططه الهادف إلى الهيمنة على الشرق الأوسط، وإضافة إلى ذلك، هناك أسباب غير معلنة، ويمكن أن نقول إن بوتين عمل -من خلال تدخله في المنطقة- على تحقيق عدد من الأهداف المعلنة، ومن أهمّها:
- الدخول في السباق الحاصل في سوق بيع الأسلحة في الشرق الأوسط الذي يمكن أن يُدرّ مليارات من الدولارات، من خلال زبائن يمكن أن تدفع مبالغ هائلة، بالإضافة إلى عقد تحالفات استراتيجية مع تلك البلدان.
- من خلال تدخل روسيا في سورية، حاول بوتين لفت الأنظار عن غزوه لأوكرانيا واسترداد شبه جزيرة القرم.
- أراد بوتين تحقيق خرق مهم في علاقات روسيا مع دول الخليج، خاصة في مجال النفط.
- نجح بوتين في جرّ أميركا للقبول بالتنسيق مع روسيا في كثير من القضايا المعقدة، خاصة في سورية والعراق وإيران وغيرها.
- من أهمّ الأهداف التي سعى إلى تحقيقها بوتين من تدخله في الشرق الأوسط، إضعاف حلف الناتو من خلال اختراق صفوفه الخلفية في الشرق الأوسط خاصة في تركيا.
يعتقد بوتين روسيا، من خلال كل هذه الإرهاصات التي تحيط بالمنطقة، أنه سيكون بديل الولايات المتحدة الأميركية، بل وريثها في المنطقة، في إطار عملية تسليم واستلام بين الدولتين المتنافستين، عَسْكَرِيًّا وَسِيَاسِيًّا، مرتكزًا على النموذج الوحيد الذي حدث في القرن العشرين: نقل هيمنة بريطانيا العظمى على القرار الدولي إلى الولايات المتحدة الأميركية، مُعتقدًا بأن روسيا يمكن أن تصبح لاعبًا أَسَاسِيًّا في النظام العالمي والإقليمي الجديد.
خامسًا- المآلات:
اعتقد بوتين أنه استطاع، عبر بوابة سورية، الولوج إلى الشرق الأوسط عَسْكَرِيًّا، إلا أن الأوضاع التي خلقها التدخل الروسي في سورية لم تساعده في بسط سيطرته الكاملة على كامل التراب السوري، كي يعتبر ذلك مقدمة ناجحة للدخول إلى الشرق الأوسط، وهذا يعود إلى الأسباب التالية:
- على الرغم من تحقيق كثير من الانتصارات العسكرية على الأرض، نتيجة عدد من الظروف التكتيكية والأمنية والسياسية، فشلت الصناعات الحربية الروسية في إقناع السوق بفاعلية الأسلحة التي تصنعها، لافتقادها مواصفات الأسلحة ذات الدقة العالية التي يمكن أن تواكب التطور التكنولوجي لأسلحة البلدان الغربية، ولوجود أخطاء مصنعية لا يمكن لدولةٍ، لها حجم الصناعات العسكرية الروسية، أن تقع فيها، وهذا ما أكده سحب أكثر من اثني عشر نوعًا من أصل أربعة وستين نوعًا من الأسلحة والذخائر المصنعة حديثًا، التي جرّبتها روسيا في معركتها على الشعب السوري، وإعادتها إلى مصانعها لتلافي الأخطاء المصنعية الكارثية التي وقعت بها.
- على الرغم من إعادة أغلب الأراضي المحررة للأسد حليف الروس، لم تستطع القوات الروسية تحقيق الاستقرار في سورية وفقًا لشروطها.
- روسيا لا تمتلك موارد اقتصادية كافية لإعادة إعمار سورية، ولهذا تحاول الضغط على الدول المانحة، وعلى أوروبا بالخصوص، لاستخدام قضية اللاجئين السوريين في تلك الدول كورقة ضغط إلا أن الروس فشلوا في ذلك.
- تمسك الروس ببشار الأسد ومحاولة إعادة إنتاجه وتثبيت حكمه، على الرغم من معرفتهم أنه مجرم حرب تسبّب في قتل مليون سوري، وهجّر أكثر من خمسة عشر مليونًا من السوريين إلى خارج وداخل سورية، وهؤلاء جميعًا يرفضون العودة ما دام بشار الأسد موجودًا في السلطة.
- نتيجة الظروف التي خلقها التدخل الإيراني في سورية وتمدده بشكل يمكن أن يكون خطرًا حَقِيقِيًّا على إسرائيل، بات من المرجح اندلاع حرب بين إسرائيل وإيران على الأراضي السورية، وهذا لن يحقق بسط الهيمنة والاستقرار الذي ينشده الروس في سورية.
- الوجود العسكري الأميركي في الجزء الشمالي الشرقي من سورية يشكّل مصدر قلق للروس، لا يمكن تجاهله، إذا أرادت موسكو إثبات أنها القوة الوحيدة ذات النفوذ الحاسم التي تسيطر على سورية والمنطقة بمقدراتها ولا ينازعها على ذلك حتى أميركا، وهذا الوجود لا يمكن أن يزول إلا وفق اتفاقيات يمكن مقايضته بمصالح أميركا في مكان آخر من العالم.
وبعيدًا عن سورية وتعثر الروس فيها، يحاول زعيم الكرملين العودة إلى فتح الطريق إلى ليبيا التي تُعدّ منطقة مهمّة جِدًّا ومحورية، في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، لكن هذه الجهود ما زالت تراوح في مكانها بانتظار تحقيق اختراق ملموس وتقدّم حاسم للروس في سورية، أما في أوكرانيا، فالأمر يختلف تمامًا، من حيث قوة الأوراق التي تلعب بها الولايات المتحدة مستفيدة من قرب أوكرانيا جُغْرَافِيًّا من دول الاتحاد الأوروبي ووجود لاعبين أقوياء داخل أوكرانيا يمكن استخدامهم في إفشال أي مخطط أو تحرك روسي في تلك المنطقة.
من الواضح أن روسيا تقوم بنشاطاتها في منطقة الشرق الأوسط بلا استراتيجية عامة تتلاءم مع القضايا الإقليمية المستجدة، وجُلّ ما تفعله موسكو هو إجراءات تكتيكية تضمن استمرار فاعليتها ووجودها في المنطقة، وهنا يجب أن نعرف أن روسيا لا تملك أي مشروع للقوة الناعمة التي يمكن أن تحقق من خلالها أهدافها الاستراتيجية، إن وجدت، كالاستثمارات وغيرها من أدوات هذه القوّة، بل على العكس من ذلك تعتمد موسكو على الاستحواذ على الاستثمارات المحدودة الزمان والمكان لاختراق العقوبات المفروضة عليها من المجتمع الدولي، الأمر الآخر إصرار موسكو على الولوج إلى أي أزمة قائمة دون التفكير في حل هذه الأزمة والخروج منها، وهذا يتمثل في طرحها لكثير من المقترحات للحفاظ فقط على بقائها وفعاليتها في تلك المشكلة، وهناك كثير من الأمثلة على ذلك، على رأسها رعاية الحوار بين الأطراف الليبية واقتراح خطط أمنية تديرها مع دول الخليج العربي.
- الخاتمة:
من خلال ما سبق، يمكن القول إن روسيا -على الرغم من جعل نفسها لاعبًا لا غنى عنه في الجغرافيا السياسية الإقليمية وامتلاكها كثيرًا من نقاط القوة التي تمتلكها في المنطقة- قد استطاعت تكريس وجودها العسكري لمدة أربعة وتسعين عامًا على الأقل، وفق اتفاقية عقدتها مع بشار الأسد في محاولة للحصول على أكبر قدر من النفوذ على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، لتكون في مواجهة حلف الناتو هناك، ووجود روسيا في ليبيا الغنية بالنفط ونشاطها السياسي والاستخباراتي الملحوظ هناك عبر مجموعات (فاغنر) حقق لها موطئ قدم في منطقة استراتيجية أخرى، بالإضافة إلى تحركاتها في أوكرانيا، وعلى الرغم من ميل التوازن لصالح القوى المعادية للولايات المتحدة الأميركية، لم يحقق هذا كلّه لروسيا التوازن الاستراتيجي المطلوب، كي تصل إلى قوة أميركا وحلفائها في المنطقة، نتيجة عوامل حاسمة عدة من أهمها أن روسيا دولة ضعيفة هشّة منخورة من الداخل، تحكم شعبًا مقهورًا، ولهذا كله روسيا أضعف من أن تكون مهيمنة على منطقة الشرق الأوسط، بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن نقول إن بوتين لم يحقق التنمية الكافية في بلاده التي يمكن أن تحقق لبلاده التفوّق على خصومه خاصة الولايات المتحدة الأميركية، ولهذا يحرص بوتين مؤقتًا على الصراع ذي المستوى المنخفض مع الولايات المتحدة، وعلى عدم المواجهة المباشرة معها في منطقة الشرق الأوسط. كل ذلك من أجل البقاء في المنطقة، وتحقيق مكاسب آنية لموسكو، وهذا يفسر إبقاء الصراع في منطقة الشرق الأوسط دون حلول، وبالنتيجة لا يمكن أن نصنّف روسيا الاتحادية -بكل المقاييس- كدولة عظمى، يمكن أن تنافس الولايات المتحدة الأميركية على زعامة العالم، لأنها أضعف بكثير من أن تكون قوة مهيمنة على منطقة الشرق الأوسط، وحجمها الحقيقي بمقاييس الدول لا يتعدى اعتبارها دولة من العالم الثالث تمتلك السلاح النووي، وبتعبير آخر: يمكن تشبيه روسيا الاتحادية بالضفدع الذي يمتلك مخالب أسد.
الهوامش:
1 – ويكيبيديا، فلاديمير بوتين، https://ar.wikipedia.org/wiki/
2 – الأمم المتحدة، اليوم الدولي لإحياء ذكرى كارثة تشيرنوبيل، https://bit.ly/3zRojWh
3 – أنظر المرجع رقم “1”
4 – NATO REVIEW، العقوبات بعد شبه جزيرة القرم: هل نجحت؟ https://bit.ly/3zRbDie