كثيرًا ما طرح المواطنون هذا السؤال، وأجاب بعضهم عنه بصيغة مفعمة بالأمل، لاعتقادهم أن ثورة عام 2011 التي انطلقت من حوران ستنطلق مرة جديدة منها، بينما يجمع بعضهم الآخر تفاصيل ووقائع يعتقد أنها تثبت وقوع الثورة، التي استعيدت وتنتشر في بؤرتها الأصلية هذه، ولن تلبث أن تعمّ الأرض السورية، وإن اختلف زخمها من موقع إلى آخر، بسبب اختلاف ظروف الشعب، وحجم انخراط ووجود أجهزة وميليشيات الأسدية، وقوة الروس والإيرانيين ومرتزقتهم فيها، وتلاعبهم بالمناطق التي انطلقت ثورة عام 2011، وتتجدد انطلاقتها منها، بعد التجربة المرّة التي عاشتها في ظلّ ما سمّي “المصالحة الوطنية” مع النظام، وكانت استمرارًا لحربه ضدها.
لا شكّ في أن الظروف تستدعي انفجارًا اجتماعيًا يشمل مناطق الجنوب السوري، التي استعادها الروس والإيرانيون للأسدية؛ فالملاحقات الأمنية عادت بكامل زخمها، والفتك بمن وعدتهم “المصالحة” بالأمان جارٍ على قدم وساق، عقابًا لشعب القرى والبلدات والمدن، الذي تمرّد طلبًا للحرية، وتغيير علاقات أجهزة الأسد القمعية بالمواطنين، التي دأبت على ممارسة ضروب مفتوحة من اضطهادهم وترويعهم، وشملتهم أفرادًا وجماعات، وغطت كل ما يتصل بوجودهم، من رغيف الخبز إلى الماء والكهرباء والدواء وما سواها من خدماتٍ هي حق للبشر في كل دولة ومجتمع، لكن الحصول عليها صار حلمًا بعيد المنال، بل بات كابوسًا يوميًا يرزح السوريون تحته إلى حدّ الموت جوعًا وعطشًا وبردًا وعريًا ومرضًا وحرمانًا، حتى صار السؤال الذي يطرح نفسه في كل مكان: من أيّ طينة قُدَّ هؤلاء البسطاء، الذين صمدوا أمام القصف والحصار والتجويع والانتقام، دون أن يركعوا، بالرغم من أنه أطاح بجميع فئاتهم، وأوصل تسعين بالمئة منهم إلى ما دون مستوى الفقر، في سابقة لم تشهد مثلها البلدان التي هُزمت في الحربين العالميتين الأولى والثانية، دون تجاهل الفارق الذي يفصل ضحايا سورية عن ضحايا الحربَين، الذين نالوا خلال فترة قصيرة مساعدات دولية أتاحت لهم الشروع في إعادة بناء أوطانهم، حتى تلك التي دُمّرت وهُزمت، بينما يُترك السوريون لمصيرهم المرعب، دون أن يتوقف قتلهم بمختلف أساليب ووسائل القتل الأكثر إجرامًا، أو يمد أحد يده إليهم بالعون الذي يقيهم الموت والتدمير. فإذا أخذنا بعين الاعتبار أن ثمة سلاحًا كثيرًا بقي بين أيدي المواطنين، وأن أبواب الأمل بخروجهم من بؤسهم مغلقة؛ بدت عودة الثورة خيارًا وحيدًا لم يبق لهم غيره، من المرجح أن يصبح حقيقة واقعة ستتحدى الأسدية بما لا تستطيع تخطيه، وهي على ما هي عليه من إفلاس وافتقار إلى القدرة على إدارة مآزقها المتزايدة، وسط اندلاع قدر من الفوضى يشل سلطتها، ويقوض علاقاتها مع السوريين، وخاصة سوريي المعازل الخاضعة لها، التي لم يسبق للثورة أن حكمتها أو انتشرت فيها، لكنّها تعاني الأمرّين، بسبب فساد أجهزتها وضعف بشار الأسد، الذي تكرر حديث الروس عنه في الأشهر الأخيرة، كطرف أوصل من يحكمهم إلى أوضاع جعلتهم يحسدون من رُحّلوا أو هُجّروا من وطنهم، ويحسدون حتى من يعيشون في “المناطق المحررة”.
أعتقد -شخصيًا- أن من الصعب عودة الثورة إلى المناطق التي أعادها الروس بالقوة إلى الأسدية، أما أسبابي، فهي:
- افتقارها إلى قيادة سياسية تستطيع توحيد أهلها، وإخراجهم من سطوة الأسدية، بضمّهم إلى الثورة، بينما تخترقهم المخابرات بقوة وعمق، وتتفاوت خياراتهم ومواقفهم، بعد ما أصيبوا به من خسائر وقدّموه من تضحيات، وما يعانونه من حصار وإغلاق يجعل من العسير إحياء حراك تراكمي مدني يُخرج الأسدية من مناطقهم، ويحميها من إيران ومرتزقتها ومن الروس والأسديين، وينجح في بناء ميزان قوى تكفل تفوق الثورة الجديدة على ما لدى أعدائها من قدرات، في ظل تشتت قدرات منطقتهم ووحدة ما لدى الأعداء من قوى منظمة ومنتشرة في كل مكان.
- الحال التي آلت إليها ثورة الحرية، وترتبت على غمرها بثورة مذهبية متعسكرة مضادة ومعادية لها، وافتقارها إلى قيادة وطنية تخلّصها مما خضعت له من فلتان وفوضى وارتجال وواقع مناقض لقيم الحرية والعدالة والمساواة والكرامة الإنسانية، وما وُعدت به، وأنشأ فشله أسدية موازية في معظم المناطق المسماة محررة، لوّعت المواطنين أيّما تلويع، وعاملتهم بطرق مستوحاة من تراث استبدادي/ إجرامي، قام السوريون بثورتهم للتخلّص منهم، فوجدوا أنفسهم أسرى له، في المناطق التي تنتشر فيها عصابات النصرة وأحرار الشام وجيش الإسلام وأشباهها، التي أوصلت سكانها إلى حال لم تترك لها خيارًا غير الخلاص منها، ومن قدوتها: بشار الأسد. وليس في تجربة المناطق التي خرجت عن الأسدية ما يشجّع أهلها، التي يجوّعها سفاح دمشق ويضطهدها ويصفي خيرة شبانها، ما يغريهم بتقديم تضحيات جديدة للالتحاق بالنصرة وأضرابها من أعداء الشعب والثورة، واستبدال جرائم الأسدية بجرائمها، وعسفها وقمعها وتجويعها وانتهاك كرامات ناسها: رجالًا ونساء! كان أهل حوران سيثورون ويقدّمون ما هم أهل له من تضحيات، لو كانوا واثقين من أن ثورتهم ستخرجهم من الاستبداد الأسدي إلى فضاء الحرية والعدالة والمساواة. من المستبعد أن ينخرط أهل حوران في ثورة جديدة، كي يتخلصوا من استبداد سياسي، ويخضعوا لإجرام مذهبي لا يقلّ فتكًا وبطشًا عن إجرامه، فلا عجب أنه لم يبق لهم إلا ما يشتركون في طلبه مع بقية إخوتهم السوريين: حلّ سياسي دولي يطبّق بيان جنيف وبقية القرارات الدولية، ويخرجهم من راهنهم الكابوسي إلى ما قاموا بالثورة ليبلغوه: الحرية، التي يفتقر إليها سكان مناطق الجولاني افتقار سكان مناطق الأسد!
- إذا كانت تلك العصابات قد قوّضت الثورة كحراك مدني/ سلمي، وكبرامج وخطط وقيادة، فلماذا يستشهد شباب حوران ومواطنوها لينتهي بهم المطاف بالخضوع لها، وهم من أشراف الثورة وأكثرهم تمسكًا بقيمها وأشدهم مقاومة للأسدية، بما يتخذونه من مواقف شجاعة، لا تترك شكًا في رفضهم القاطع للأسدية، ولأعداء الحرية والثورة، من الطغاة المحسوبين زورًا وبهتانًا عليها خارج منطقتهم؟