بين طموحات الرئيس الشعبوي وفساد «النخبة» السياسية
كثيرون تتملكهم مشاعر القلق والتوجّس، من المآل الذي ينتظر تجربة «الانتقال الديمقراطي» في تونس. حيث وضعتها الإجراءات الأخيرة التي اتخذها الرئيس التونسي قيس سعيّد، على المحكّ، على الرغم من خصوصيتها وتميّزها عن بقية المسارات (الكارثية) التي شهدتها بلدان «الربيع العربي». فهل وصلت هذه التجربة إلى الطريق المسدود والفشل، أم أنّ من المبكر إطلاق حكم نهائي بحقّها، وعلينا الانتظار قليلًا لمعاينة ورصد التوقعات المحتملة للأحداث المتلاحقة؟!
مقاربة الإجابة عن التساؤلات المطروحة حول ما يجري في تونس تقتضي العودة إلى الوراء قليلًا، للوقوف على العوامل التي أعطت لهذه التجربة فرادتها وتمايزها عن سواها، الأمر الذي لم يكن وليد الحظ أو المصادفة، طبعًا، بل جاء حصيلة عوامل عدة اتسمت بها، ورشحتها لتكون «فرس الرهان» على إمكان نجاح صيرورة «التحول الديمقراطي» في بلدٍ، على الأقل، من بلدان العالم العربي!
ومن أهم تلك العوامل:
أولًا ــ تماسك النسيج المجتمعي لتونس، وابتعاده عن الانقسامات ذات الطابع الاثني أو المذهبي، أو القبلي والعشائري، التي عرفتها بلدان أخرى؛ مثل العراق، سورية، اليمن، وليبيا، التي سرعان ما أودت بها إلى نزاعات أهلية، زُهِقتْ فيها أرواح مئات الآلاف من الضحايا.
ففي غياب دولة وطنية حديثة، تضمن حكم القانون والمؤسسات والمواطنة المتساوية، وعندما يكون المجتمع منقسمًا على نفسه، ويجري «الاستثمار» في هذا الانقسام وتوظيفه لغايات سياسية، (أهمّها الحفاظ على استمرار النظام القائم وديمومته)؛ يصبح الوضع مهيًّا لنشوب أبشع وأقذر أنواع الصراعات الاجتماعية. إذ تتحول المواجهة مع السلطة السياسية (التي تبتلع الدولة ومؤسساتها وأجهزتها) إلى صدام واحتراب مع «العصبة» (الطائفة أو القبيلة) التي تستند إليها هذه السلطة، وتهيمن من خلالها على المؤسستين العسكرية والأمنية.
قيادات العصبة المعنية، وأصحاب المصالح والامتيازات فيها، يشعرون بأنهم مهدّدون، ليس بخسارة مناصبهم ومكاسبهم فحسب، بل بخسارة حياتهم ووجودهم ككل، فيسارعون إلى تعميم «هلعهم» من المخاطر المحتملة، لتشمل جميع المنتمين إلى هذه العصبة، كيما «يهبّوا للدفاع عنها، بوصفه دفاعًا عن كيانهم ووجودهم»، وغالبًا ما ينجحون في تمرير لعبتهم القذرة هذه! ليستنفروا، في المقابل، طائفة أو قبيلة موازية (وخصوصًا الفئات المهمّشة والمظلومة منها، التي تستند إليها التمثيلات السياسية الرئيسة في المعارضة)، فيصبح الطريق ممهدًا لاحتراب دموي مدمّر، بأبعادٍ سياسية وأيديولوجية وثأرية، متراكبة مع تدخلات إقليمية ودولية متناقضة المرامي والأهداف، كما جرى ويجري في غير بلد عربي.
ثانيًا ــ الاستبداد النسبي
يجدر بنا الاعتراف بأن النظام السابق للثورة في تونس، على الرغم من استبداده ونزعته الإقصائية في إدارة الشأن العام، وعلى الرغم كذلك من الفساد الذي استشرى في نسخته الثانية «البِنعليّة» (نسبة إلى الرئيس زين العابدين بن علي)، فقد حقّق كثيرًا من المنجزات للشعب التونسي، وخاصة ما يتعلق ببناء دولة وطنية حديثة، وتأكيد علمانيتها ومدنيتها، فضلًا عن الموقف من المرأة، «مدونة (قانون) الأحوال الشخصية»، التي أسهمت بقوانينها العصرية في منح المرأة التونسية حقوقًا متقدمة، مقارنة مع سواها من النساء في أغلب الدول العربية. وهو ما يجعل المرأة التونسية تبدي الآن استعدادًا واضحًا للدفاع بقوة عن هذه الحقوق وعدم التفريط بها. ويُسجّل للنظام السابق إسهامه في نشوء طبقة وسطى واسعة، في ظلّ مستوى تعليمي وثقافي متقدمين، وتوفر مستوى من النمو الاقتصادي مكّن من تحوّل اهتمام الطبقة الوسطى من التفكير في الاحتياجات المعيشية اليومية المباشرة، إلى التركيز على حقوقها السياسية والاجتماعية والثقافية.
يُذكر أنّ الدولة التونسية، في إطار عملية التحديث التي كانت تنتهجها، وضعت منذ الاستقلال ثلث موازنتها للاستثمار في التعليم، وفي صناعة رأسمال بشري يكون قادرًا على إدارة عجلة الاقتصاد وبناء مؤسسات كفؤة، وسط شحّ الموارد الأخرى. وأنها عملت على تأمين العديد من الخدمات الاجتماعية شبه المجانية، ما وفّر الشروط المناسبة لتشكيل طبقة وسطى كانت تتسع باطراد، حتى باتت تمثل نسبة عالية من المجتمع التونسي، وشملت، إضافة إلى الخريجين الجامعيين، صغار التجّار والحرفيين وملاّك الأرضي وأصحاب المهن الحرّة، وقطاعًا واسعًا من الموظّفين في القطاع العمومي. وقد لعب الاتحاد العام التونسي للشغل دورًا رئيسًا في الدفاع عن هذه الطبقة ومصالحها[1].
وفي المحصلة، نجد أن نظام الحكم البائد في تونس لم يكن استبداديًا على نحو مطلق، (توتاليتاريًا)، ولم ينتهج سياسة الإطباق التام على الفضاء العام والحياة السياسية، مثلما فعلت الأنظمة التسلطية الشمولية التي عرفها العالم العربي. ولعلّ هذا كان أحد أهمّ الأسباب التي ساعدت في نجاح الثورة سريعًا وفي سلميتها من جهة، وفي نجاح واستمرار تجربة الانتقال الديمقراطي طوال السنوات السابقة، من جهة ثانية.
ثالثًا ــ مجتمع مدني قوي
تمتاز تونس بوجود مجتمع مدنيّ قويّ وتمثيلات حزبية ونخب سياسية ديمقراطية وحركة عمّالية ونقابية، مستقلّة نسبيًا عن السلطة السياسية، تحتضنها مؤسسات مؤهلة وقادرة على الاضطلاع بمهام عملية التحول الديمقراطي وحمايتها من التدخلات التي قد تُقوّضها.
وقد أسهمت المنظمات المدنية والنقابات التونسية، مستندةً إلى رصيدها التاريخي وثقلها الاجتماعي، وعبر تجربتها الطويلة في العمل المدني السلمي والانحياز إلى خيار الحوار والتداول السلمي للسلطة، في ضبط توازنات المشهد السياسي، والتخفيف من وطأة الأزمات السياسية التي شهدتها البلاد خلال السنوات السابقة، على غرار الدور الوفاقي المميز الذي قامت به «اللجنة الرباعية للحوار الوطني» بقيادة الاتحاد العام التونسي للشغل (المنظمة النقابية الأكبر)، إلى جانب منظمة الأعراف وأرباب العمل، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، والهيئة الوطنية للمحامين التونسيين، وذلك حين قادت الحوار الوطني في النصف الثاني من عام 2013، وتمكنت من احتواء الاستقطاب الحاد الذي حصل بعد اغتيال المعارضَين اليساريين: شكري بلعيد (شباط/ فبراير 2013)، ومحمد البراهمي (تموز/ يوليو 2013)، حيث حمّلت أغلب أحزاب المعارضة حينها حزب النهضة، الذي كان يهيمن على «الترويكا» الحاكمة، المسؤولية (المباشرة أو غير المباشرة)، عن الاغتيالات والعمليات الإرهابية التي شهدتها البلاد. وأسفر «الحوار» آنئذٍ عن إقناع «النهضة» بالتخلّي عن منصب رئيس الوزراء، لصالح حكومة تكنوقراطية، برئاسة شخصية مستقلة، شكّلها مهدي جمعة، كانت مهمتها الرئيسة التحضير لانتخابات تشريعية ورئاسية تنأى بالبلاد عن حال الفراغ والفوضى التي كانت تتهدّدها.
وقد أكسب هذا التطور التجربة التونسية عطفًا وتضامنًا إقليميًا ودوليًا، تمثل في منح «اللجنة الرباعية للحوار» جائزة نوبل للسلام، بتاريخ 9 تشرين الأول/ أكتوبر 2015، بالنظر إلى «إسهامها الحاسم في بناء ديمقراطية تعددية». أفما زال بإمكان هذه اللجنة، أو لجنة أخرى تشبهها، دفع الأطراف المتخاصمة مرة أخرى إلى مائدة الحوار الوطني، والسعي من أجل الوصول إلى توافق سياسي جديد يُنقذ البلاد من الانحدار إلى هاوية الفوضى والاقتتال؟
رابعًا ــ تغليب عوامل الوفاق
جهود اللجنة الرباعية للحوار الوطني وتشجيع العديد من العواصم الغربية في ذلك الحين، أسهم في امتصاص عوامل الانفجار وتغليب عناصر الوفاق. وسجّل البعض وقتها لحزب «النهضة»، تميّز أدائه السياسي وتمتعه بمرونة وبراغماتية عالية، على نحو استفاد فيه من التجربة المصرية وفشل «الإخوان» هناك، وجنّبه الانزلاق إلى المصير الذي لاقاه نظيره المصري، بعد الثالث من تموز/ يوليو 2013. وهناك من أرجع مرونة «النهضة» وتعاطيها السياسي المتقدّم، إلى شخصية زعيمها راشد الغنوشي، الذي عاش مدّة طويلة في الغرب، وتأثر إلى حدّ ما بأفكاره ومقارباته السياسية الواقعية والعقلانية.
يضاف إلى ذلك، إقرار الحركة (بغضّ النظر عن خلفيته ودوافعه) بأن المجتمع التونسي تعددي، ولا يمكنها أن تُكرِهه على الأخذ بالمرجعية الدينية في إدارة شؤون الدولة. وثمة من يرى أنّ هذا الإقرار هو الذي يشكل خصوصية التجربة التونسية وفرادتها، وهو ما ينبغي البناء عليه لتكريس النموذج التونسي في المحيطين العربي والإسلامي، على الضدّ من موقف المتشدّدين، سواء على الضفة الإسلامية أم على الضفة العلمانية. إذ يرى الأول في مواقف النهضة توفيقًا وتلفيقًا مرفوضًا، لا يتناسب مع سعيه لإقامة دولة الخلافة بمرجعيتها الإسلامية الخالصة. وينفي الثاني أية حقوق في الوجود والنشاط السياسيين لأنصار التيارات والقوى الدينية.
خامسًا ــ حياد المؤسسة العسكرية
يضاف إلى ذلك أنّ الجيش التونسي لم يُعرف عنه، خلافًا لنظرائه في مصر أو سورية أو الجزائر مثلًا، أيّ تدخل في ميدان الصراعات السياسية، فقد بقي خارج «لعبة» الانقلابات العسكرية التي عرفتها البلدان العربية السابقة أو سواها. وبالمقارنة بين تونس ومصر (التي كثرت هذه الأيام)، نجد أنّ المؤسسة العسكرية المصرية كان لها حضور وتأثير طاغيين في الأحداث والتطورات التي شهدتها مصر منذ الإطاحة بالملكية قبل سبعة عقود، بما في ذلك دورها في نجاح «ثورة 25 يناير» في البداية، ومن ثم في الانقلاب الذي أطاح بحكم الرئيس (الإسلامي) محمد مرسي.
أما الجيش التونسي الذي يحظى بتقدير وثقة غالبية التونسيين، فإنه يبقى أقرب إلى مفهوم الجيش المهني، خلافًا للحالة القائمة في بقية البلدان المذكورة. صحيحٌ أنه منح الآن الرئيس سعيّد تأييده، ويحاول الأخير إشراكه في القيام بكثير من المهمات والخدمات التي يُفترض أن تقع على عاتق المؤسسات المدنية، (مثل موضوع اللقاحات)، وأن الرئيس قد يُعيّن عددًا من ضباطه في مناصب ومواقع مدنية، إلا أنه من المبكر جدًا الحديث عن طموحه للعب دور سياسي مستقبلي.
أين تكمن المشكلة؟
إذا كانت الحال كذلك، فأين تكمن المشكلة إذن؟ وما الذي أوصل البلاد إلى عنق الزجاجة والاستعصاء مجدّدًا، ودفع الرئيس إلى اتخاذ إجراءاته الأخيرة؟
إنه فشل المنظومة السياسية التي حكمت وقادت مسار الانتقال الديمقراطي، وخاصة فشلها في تحقيق المطالب الاقتصادية والاجتماعية وتوفير حياة أفضل للتونسيين. هذا ما يتفق عليه جميع المهتمين تقريبًا. وإذا كان من المفهوم أن تشهد المرحلة الانتقالية صعوبات وعثرات في بدايتها، فمن غير المفهوم أن تستطيل هذه الصعوبات والعثرات وتمتد طويلًا، فخلال عشرية كاملة، لم تتمكن الحكومات المتعاقبة من فعل أي شيء سوى مراكمة الفشل والإخفاق. فعانت البلاد من ركود اقتصادي وانكماش وصل إلى نسبة 8 % في 2020، وذلك لأول مرة منذ منتصف القرن الماضي، ورافقه زيادة في الدّيْن العام، وتفاقم مشاكل الفقر وارتفاع معدل البطالة، وخاصة بين الشباب والخريجين الجامعيين. ووصل الأمر إلى درجة تعطل «مؤسسات اقتصادية كبرى يتغذّى من مداخيلها الاقتصاد التونسي وميزانية الدولة، وعلى رأسها شركة «فسفاط قفصة» التي ظلت معطلة سنوات، وتسبّب توقفها في خسائر هائلة»[2].
وفي ظل هذا الواقع، أخذت تتآكل الطبقة الوسطى، وأشارت تقديرات تونسية إلى تقلّصها من نسبة 70 % عام 2010، إلى 55 % عام 2015. ورجّح خبراء أن هذا الانكماش أصبح أكبر في السنوات اللاحقة، بفعل تفاقم البطالة وتزايد نسبة الفقراء. وتوقعت بعض الدراسات ارتفاع معدّل الفقر من 15.2 % في عام 2015، إلى 19 % العام الماضي. كما توقعت تصاعد معدّل البطالة من حوالى 15 % إلى 21 % حتى نهاية عام 2020[3].
ومن المعروف أنّ تآكل الطبقة الوسطى لا يُعدّ مؤشرًا لتدهور الأوضاع الاقتصادية فحسب، بل يعدّ كذلك جرس إنذار لاحتمال زعزعة الاستقرار في البلاد. وبالفعل، فإنّ الاحتجاجات والاعتصامات لم تنقطع خلال السنوات الأخيرة، في كثير من المدن والمناطق التونسية، من الجنوب إلى الوسط وصولًا إلى مدن الشمال الساحلي. وكانت الشعارات المرفوعة فيها هي ذاتها الشعارات التي رفعت في بداية الثورة “شغل حرية، كرامة وطنية”.
وقد جاءت جائحة كورونا والطريقة البائسة التي أدارت فيها الحكومة هذه الأزمة لتزيد الطين بلّة، (كما يقال)، ولتضع وطأتها الثقيلة على مجمل المشهد العام في البلاد، إذ كانت حالات الوفاة من جرّائها هي الأعلى في القارة الأفريقية، فضلًا عن تسبّبها في إلحاق أضرار جسيمة بالاقتصاد، وإلقاء عشرات الآلاف من التونسيين في خانة البطالة والفقر. وهكذا عمّقت هذه الأزمة من أزمة الطبقة الحاكمة، وكشفت عن أن المشاكل الحقيقية لأغلبية التونسيين، وفي مقدّمها أمنهم الغذائي والصحي، ليست أولوية بالنسبة إليها، في وقت كانت تنغمس فيه أكثر فأكثر في بهلوانياتها السياسية وصراعاتها على الحكم ومغانمه، متجاهلة حتى التحذيرات التي كانت تطلق من هنا وهناك! وإضافة إلى ذلك، من المؤكد أيضًا أنه تم الاستثمار في أزمة الوباء وتوظيفها لغايات سياسية، وتحولت إلى مادة في الصراعات الدائرة وتبادل الاتهامات بالمسؤولية والتقصير بين الأطراف المتخاصمة.
الإخفاق السياسي
طبعًا، فشل المنظومة السياسية الحاكمة لم يقتصر على الجانب الاقتصادي فقط، بل تمثل أساسًا في إخفاقاتها السياسية المتتالية توازنات سياسية هشة وقلقة تقوم عليها الحكومات. حكومات متعاقبة وكثيرة لكن من دون إنجازات تذكر، وهناك عددٌ من أجهزة الدولة ومؤسساتها مشلول أو معطل. ووصل الأمر خلال الأشهر الأخيرة إلى مستوى القطيعة والصراع العلني، بين رئيس الجمهورية من جهة، والحكومة والبرلمان من جهة أخرى، مما شحن المناخ العام بمزيد من التوتر والغليان. كلّ ذلك أعاق التفكير أو البحث، طبعًا، في انعاش الاقتصاد أو تحسين أوضاع الناس المعيشية.
فهل يُفسر لنا هذا لماذا كان أهم مطالب الحراك الأخير في ذكرى عيد الجمهورية (25/7)، هو التخلص من المنظومة الحاكمة والفاسدين وحل البرلمان، وإيجاد مخرج من الانسداد السياسي الذي أرهق الشعب على جميع المستويات، ولو كان ذلك مقدّمة للعودة مرة أخرى نحو الاستبداد؟!
في الواقع، كثرٌ من يعتقدون أنّ ضمانات الحقوق والحريات في النظام الديمقراطي لا تكفي لاستمرار القبول الشعبي به، بل يجب أن يقترن ذلك بتحقيق النهوض الاقتصادي وتحسّن أوضاع الناس وارتفاع مستوى الخدمات المُقدّمة لهم. وهناك من يرى حتمية الربط بين التحولات الديمقراطية المأمولة وبين مطالب الناس الحياتية، معتبرًا أن الديمقراطية السياسية الحقيقية لا تصبح واقعًا منجزًا إلا بتحقق بعدها الاقتصادي الاجتماعي. وفي حال «إخفاقها في تحقيق التنمية المستدامة والتقدم والسلم الأهلي، فإن توافر الحقوق والحريات الشخصية لن يحول بين الناس واندفاعهم نحو تأييد أنماط أخرى للحكم، على غرار ما حصل لدى انتصار الفاشية في أوروبا، في النصف الأول من القرن العشرين، ووصول الحكومات الدكتاتورية العسكرية في أماكن أخرى من العالم في نصفه الثاني»[4].
تراجع الأحزاب
فشل المنظومة الحاكمة أفضى بدوره إلى تراجع الأحزاب عمومًا، حيث أخذ كثير من جمهورها وقواعدها ينفضّ عنها (وخصوصًا الشباب منهم). وشهد بعضها انشقاقات عدة، وحزب «نداء تونس» (الذي أسسه الراحل الباجي قايد السبسي، السياسي المخضرم من عهد بورقيبة)، من أبرز الأمثلة على ذلك، وخاصة أنّ حزبه كان أشبه بتحالف انتخابي أقيم على عجل في مواجهة «النهضة»، للحدّ من نفوذها في الانتخابات، أكثر منه مؤسسة حزبية بأيديولوجيا وهيكلية تنظيمية حقيقية. وعلى الرغم من فوز السبسي في انتخابات الرئاسة، وحصول حزبه على المركز الأول في الانتخابات البرلمانية 2014: (86 مقعدًا مقابل 69 للنهضة من أصل 217)، فإنه سرعان ما نكث بوعده الانتخابي، وتوافق مع الحركة الإسلامية على تشكيل حكومة وحدة وطنية، وذلك بعد لقاء باريس، بين السبسي وراشد الغنوشي. وهو ما أدى بعد فترة وجيزة إلى تصدّع «النداء» وبدء الانقسامات داخله. وكان من الأخطاء الفادحة التي ارتكبها السبسي محاولته توريث قيادة الحزب إلى نجله حافظ، وهو ما سرّع في عملية الانقسام والانسحاب الجماعي منه، وأفضى في الحصيلة إلى تحوله من الحزب الأول في انتخابات 2014، إلى حزب صغير هامشي حصل على ثلاثة مقاعد فقط في انتخابات 2019.
والأمر نفسه ينطبق على تحالف يساري قومي هو «الجبهة الشعبية» الذي حاز على 15 نائبًا في انتخابات 2014، لكنه خسرها جميعها في الانتخابات الأخيرة، فيما حاز القسم المنشق عنها على مقعد واحد فقط. وهذا ينسحب على كثير من الأحزاب الأخرى، وخصوصًا العلمانية والديمقراطية واليسارية والوسطية منها، على نحو تسوّدت فيه ساحة النشاط السياسي؛ إما أحزاب اليمين الإسلامي (النهضة وائتلاف الكرامة)، أو اليمين الليبرالي (مثل قلب تونس والدستوري الحر). وفي ضوء ذلك، لم يكن غريبًا أن تُظهر بعض استطلاعات الرأي، في أواخر العام 2020، أن 20 % فقط من التونسيين يعتقدون أن الأحزاب السياسية ما زالت فعالة في التصدي لتحديات البلاد. فيما أعرب 61 % منهم عن أن منظمات المجتمع المدني هي التي تملك هذه الفعالية[5].
وصول سعيّد إلى سدة الرئاسة
في هذا السياق، هناك كثيرون يرون أنّ الفوز الكاسح الذي حظي به الرئيس سعيّد، على الرغم من ضعف خبرته السياسية (فهو أتى من خارج المنظومة الحزبية والطبقة السياسية الحاكمة)، كان صفعة لهذه المنظومة، وشكلًا من أشكال الانتقام منها. وقد أسهم الشباب الغاضب والساخط بقوة في حملته الانتخابية، وظلوا يدعمونه بعد فوزه بالرئاسة، من أجل الحصول على صلاحيات تخوله تطبيق أفكاره التي كانت تدور حول خدمة الشباب[6].
وشهدت انتخابات 2019 مزيدًا من التراجع في نفوذ الأحزاب، فتوزعت المقاعد على واحد وعشرين حزبًا. وفازت النهضة بالمرتبة الأولى فيها، ولكن بعدد أقل من المقاعد، مقارنة مع سابقتها. وبعد فشل مرشح النهضة، الحبيب الجملي، في تشكيل حكومة جديدة، وسقوط حكومة إلياس الفخفاخ بعد أشهر من إعلانها، بسبب اتهامات بالفساد بلغت رئيسَها. اختار الرئيس هشام المشيشي لتكليفه بتشكيل الحكومة، على أمل أن تكون حكومة مستقلة عن الأحزاب، لكن المشيشي -خلال مشاورات التشكيل- انقلب على الرئيس، وأخذ يتقرب من الأحزاب التي يمكن أن تؤمّن له الأغلبية البرلمانية (النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة)، آخذًا بعين الاعتبار أن الرئيس لا ينفعه في مسألة المصادقة البرلمانية على حكومته. ومنذ ذلك الوقت، بدأت المناكفة بين المشيشي والحزام السياسي الداعم لحكومته من جهة، وبين الرئيس من جهة أخرى. وبلغ التوتر أقصاه بين الفريقين، في وقت كانت تتفاقم فيه الأزمة الاقتصادية، مع تفاقم وتفشي الوباء[7].
ومثلُ هذا الخلاف بين مؤسسات الحكم لم يكن الأوّل من نوعه في تونس، إذ سبق ليوسف الشاهد، (رئيس الحكومة من عام 2016 وحتى 2019) أن «تمرّد» على إرادة حزبه (النداء)، والرئيس الذي عيّنه في المنصب (الراحل السبسي)، ولكن الأمر لم يبلغ بينهما مرحلة القطيعة النهائية وتعطيل أجهزة الدولة، بل التزم الطرفان الصلاحيات التي حدّدها الدستور لكليهما. ولكنّ سعيّد غير السبسي، وهو لا يخفي رفضه للدستور الحالي، ورغبته في إقامة نظام رئاسي يمسك فيه الرئيس بكل الصلاحيات التنفيذية، على حساب دور البرلمان ورئاسة الحكومة. ولذلك فإن تصريح الغنوشي الذي اعتبر فيه أنّ دور الرئيس التونسي “رمزي” في الدولة، استفزّ سعيّد، ووقع عليه كالصاعقة! علمًا أن دستور 2014، وفي محاولة منه لمنع أيّ طرفٍ من الانفراد بالحكم، سعى إلى توزيع السلطات بين المؤسسات الثلاث؛ البرلمان والرئاسة والحكومة، و«لفّق» نظامًا هجينًا بين البرلماني والرئاسي، تاركًا «مناطق تماسّ تثير غموضًا والتباسًا بين صلاحيات الرئاسات الثلاث»[8].
توترات العلاقة بين السبسي والشاهد، أو بين سعيّد والمشيشي، لم تكن «النهضة» بعيدة عنها، بل كانت على الأغلب منتشية بها، على الرغم من أنها أفضت إلى شلّ عمل الحكومة، وأضحى البرلمان مشغولًا إلى حد كبير بالمشاكسات والمناوشات بين النواب المؤيدين والمعارضين لها أكثر من أي شيء آخر، وكان آخرها صفع النائب الصحبي سمارة (من ائتلاف الكرامة)، للبرلمانية عبير موسي، على الملأ، وهو الحدث الذي لقي استنكارًا واسعًا.
أخطاء «النهضة»
يمكن أن يقال الكثير عن علاقة قوى الإسلام السياسي بالانتخابات والديمقراطية، على مستوى الخطاب والممارسة السياسية والمرجعية الدينية العَقَدية، وقد كتب في هذا كثير من الدراسات، ويحتاج الأمر إلى مزيد منها، على أن ترتبط بتجارب عيانية ملموسة للقوى والتيارات الإسلامية التي حكمت، أو ما زالت في الحكم، خلال العقود الأخيرة على الأقل.
وعلى العموم، فإن تعامل أحزاب الإسلام السياسي مع الديمقراطية يتصف بـ«البراغماتية» العالية. وهم غالبًا يؤمنون بالانتخابات التي تكون كـ «السلم» الذي يوصلهم إلى الحكم فقط. إضافة إلى استعدادهم، من حيث المبدأ، لإعادة إنتاج الاستبداد بحلل وصيغ جديدة، على خلفية رفضهم، وأقلّه تحفظهم، على المبادئ المتصلة بجوهر الديمقراطية وضمانات الحقوق والحريّات الفردية والعامة، سواء على مستوى الممارسة الحزبية الداخلية، القائمة على مبدأ «السمع والطاعة» (حتى تقبيل يد المرشد أحيانًا!)، أم على مستوى العلاقة مع بقية القوى السياسية المختلفة معهم، أيديولوجيًا وفكريًا وسياسيًا.
وعلى الرغم من كلّ المحاولات التي بذلتها «النهضة» لتغيير الصورة النمطية السابقة عن قوى الإسلام السياسي، فإنها، مع ذلك، تواجه حاليًا أسوأ وضع في تاريخها. فهي، حسب تقدير كثيرين، «معزولة ومحاصرة شعبيًا»، بعد أن اجتمع عليها السخط الرسمي والشعبي، واللوم السياسي، بعد أن حُمّلت وحدها مسؤولية فشل التجربة التونسية، بوصفها كانت واجهة سياسية لكل الحكومات السابقة، ومُغذية للصراعات على رأس السلطة التنفيذية. وفوق ذلك، فهي تعاني تصدّعًا داخليًا غير مسبوق. وتوضح لنا بعض الأرقام مستوى التراجع الذي شهدته الحركة خلال العقد الماضي؛ ففي انتخابات «الجمعية التأسيسية» التي جرت مباشرة بعد سقوط حكم بن علي، صوّت للحركة نحو مليون ونصف المليون من الناخبين، وحصلت حينها على 89 مقعدًا من بين 217. وفي انتخابات 2014، تراجع العدد إلى 950 ألف و69 مقعدًا، ثم تراجع ثانية في انتخابات 2019، إذ لم يصوّت لها سوى 560 ألف، ولم تحصل سوى على 52 مقعدًا؛ أي أنها فقدت نحو ثلثي جمهورها وقاعدتها الانتخابية.
وبعد انتخابات عام 2019، أثار زعيمها راشد الغنوشي جدلًا شديدًا، بإصراره على تولي منصب رئاسة البرلمان شخصيًا. ويعتقد محمد كريشان أنّ النهضة «تمسكت بالسلطة بأي ثمن، حتى لو كان ذلك عن طريق بناء تحالفات انتهازية»، ويرى أن الغنوشي، بتوليه رئاسة البرلمان، «ارتكب غلطة عمره». مشيرًا إلى تراجعه، عما قطعه على نفسه وهو يهمّ بالعودة إلى تونس بعد انتصار الثورة، إذ تعهّد وقتها بأنه «لا ينوي الترشح لأي انتخابات، ولا يسعى لأي منصب، وأنه يرغب في تسليم قيادة الحركة إلى جيل الشباب»[9].
ويتفق د. عزمي بشارة مع مجمل هذه الملاحظات، ويلفت الانتباه إلى الكيفية التي تحالفت فيها «النهضة» مع حزب «قلب تونس» المتهم رئيسه نبيل القروي بالفساد وتبييض الأموال، علمًا أنها كانت ركزت هجومها في الانتخابات الأخيرة عليه إلى درجة شيطنته، في حين أنها لم تنبس ببنت شفة ضد منافسه سعيّد. ثم ما لبثت أن تحالفت معه، فبدت بذلك «جزءًا من نظام حزبي فاسد لا تهمّه المبادئ والقيم بقدر ما تهمّه السلطة ومنافعها». ويستغرب بشارة من أن «النهضة» فوجئت بوجود أجندة مناهضة للنظام البرلماني، لدى سعيّد، مع أنها كانت معلنة، وكانت معركته بالأساس ضد البرلمان لصالح نظام رئاسي فردي، ولكنه فضّل تصوير المعركة على أنها معركة ضد الأحزاب والنخب السياسية عمومًا (وهذا جوهر الخطاب الشعبوي)[10].
وفي ضوء هذه الانتقادات، واعترافًا منها بمسؤوليتها عما جرى، فقد تضمن بيان جديد، صدر عنها (12 آب/ أغسطس 2021)، حديثًا عن نقد ذاتي، وإشارات واضحة إلى استعدادها لـ «الاعتذار وتقديم تنازلات مؤلمة»، (قد يكون من بينها استقالة الغنوشي من رئاسة البرلمان، كما نقل أحد قيادييها)، وذلك بعد تقييمات داخلية أظهرت «تراجع شعبية الحركة وتراجع أنصارها في مقابل صعود شعبية الرئيس».
ونُقل عن قياديين في الحركة أن الغنوشي بات «يمثل عقبة أمام الخروج من الأزمة، ليس فقط في العلاقة مع الرئيس سعيّد، ولكن حتى مع حلفاء تقليديين للحركة يرون بقاءه إذكاء للخلافات»، وهو موقف بات شائعًا لدى كثيرين من أنصار الحركة وجزء مهمّ من قياداتها العليا والوسطى[11]. وسبق أن وجّهت مجموعة من قيادات وكوادر الحركة رسالة مفتوحة إلى الغنوشي، طالبوه فيها بالإعلان عن عدم ترشّحه لرئاسة الحركة في المؤتمر القادم، وباتخاذ خطوات عاجلة لتغيير صورة الحركة بين أنصارها ولدى التونسيين، بعدما ارتبط اسمها بالفشل الحكومي وتوفير غطاء للفساد.
مسؤولية الآخرين
قد تتحمّل «النهضة» القسط الأكبر من المسؤولية عمّا حدث، ولكنها ليست وحدها المسؤولة عنه! فللآخرين أيضًا نصيبهم من المسؤولية، وخاصة أولئك الذين سعوا إلى إقصائها بأي ثمن، حتى لو أدى ذلك إلى الإطاحة بتجربة الانتقال الديمقراطي الثمينة في العالم العربي! آخذين بعين الاعتبار أن ثمة أطرافًا خارجية تتربص بهذه التجربة وتسعى إلى تقويضها، بكل تأكيد.
فالرئيس سعيّد الشعبوي الذي يعلن على الملأ معاداته للأحزاب لصالح «ديمقراطية مجالسية» تقوم على التمثيل المباشر، يشكل بدوره خطرًا على الديمقراطية. وقد عبّر منذ انتخابه عن عدم إعجابه بالنظام السياسي القائم، وطالب بتعديل الدستور ليتحول نظام الحكم إلى رئاسي تكون له اليد العليا فيه، من دون أن يكون لديه رؤية واضحة ومتكاملة لمستقبل تونس ونظامها السياسي. وإن تفسيره للمادة (80) من الدستور، هو محل جدل وخلاف كبيرين. ويشير بوضوح إلى استعداده لليّ عنق الدستور والحقائق، بما يتلاءم مع أهدافه وأهوائه.
وإضافة إلى الرئيس، هناك أطراف أخرى ليست أقل شعبوية منه، مثل «الحزب الدستوري الحر» (الذي يمثل واجهة للنظام القديم، وحاز في انتخابات 2019 على 17 مقعدًا)، فزعيمته عبير موسي، بأسلوبها وخطابها الشعبويين، حصرت نشاطها السياسي والبرلماني برمته تقريبًا في مواجهة الغنوشي والإسلاميين. مركّزة على جانب واحد من جوانب الصراع الدائر، المتعلق بثنائية (علماني/ إسلامي)، فضلًا عن إبداء عدم حرصها على استمرار وصون تجربة «الانتقال الديمقراطي»، مع نزوع واضح لديها ولدى حزبها لإقصاء التيارات الإسلامية عن الوجود السياسي ككل، وليس عن محاولاتها للسيطرة فقط. وهو ما يعيدنا إلى مربّع الدكتاتورية والأنظمة التسلطية التي قامت الانتفاضات العربية ضدها.
وعلى ذلك، وفي ظلّ الخشية من أن تفضي الإجراءات الاستثنائية التي أقدم عليها الرئيس إلى تقويض تجربة الانتقال الديمقراطي في هذا البلد، تحت حجة مواجهة الفساد والتحديات الاقتصادية التي يعانيها الشعب التونسي، أو بزعم مواجهة «خطر الإسلاميين ومخططاتهم»، فالخوف يبدو مشروعًا من أن تنتهي هذه التجربة، وتؤول إلى النكوص نحو شكل من أشكال الاستبداد، في وقتٍ لا يملك فيه أيّ فرد «عصا سحرية» لتجاوز المشاكل الحياتية والمعيشية للشعب التونسي!
وفيما رأى البعض أن إجراءات سعيّد إنما هي «المسمار الأخير في نعش الربيع العربي»، فإنّ ما جرى يطرح بالفعل جملة من التساؤلات، حول قضية الطلب على الديمقراطية في البلاد العربية، هذا من دون أن نذهب إلى تكرار «النغمة الاستشراقية المعهودة عن انعدام أهلية العرب أو المسلمين عمومًا للديمقراطية»، وكأن رفض الديمقراطية مسألة جينية لديهم![12].
وعلى العموم، يبدو أنّ الأحزاب التونسية، بيمينها ويسارها، بعلمانييها وإسلامييها (على الرغم من أنها الأفضل والأرقى مقارنة مع نظيراتها العربية)، ما تزال تحتاج إلى وقت طويل لفهم جوهر الديمقراطية، والابتعاد عن الخطاب الأيديولوجي المتعالي، أو الشعبوي المنافق.
السيناريو الأرجح؟
بعيدًا من الانحياز إلى هذا الفريق أو ذاك، فإنّ المرء لا يجانب الصواب إذا مال إلى ترجيح الرأي الذي يقول بأنّ «الاستثناء التونسي»، كما يصفه البعض، سيتمكن من اجتراح طريق خاصٍ به للخروج من مأزقه. أيّ بعيدًا من السيناريوهات التي يجري تداولها في هذا الشأن؛ تكرار النموذج المصري، وانقلاب السيسي العسكري المحمول على احتجاجات شعبية واسعة ضد حكم الإخوان، أو نموذج الجزائر (زمن العشرية السوداء)، وانقلاب المؤسسة العسكرية على إرادة الناخبين الذين أوصلوا «جبهة الإنقاذ الإسلامية» إلى الحكم.
الفرق كبير، كما أعتقد، بين الحالة التونسية وكلا النموذجين السابقين، هذا فضلًا عن الفرق بين الزمنين والسياقين الإقليمي والدولي لكلّ منهما. فلا النهضة هي «إخوان مصر» أو «جبهة الإنقاذ الجزائرية»، لأنها على الأرجح ليست بوارد المقامرة بما حققته من مكتسبات وامتيازات محلية وإقليمية ودولية، وجلّ المؤشرات المعلنة تشي بذلك؛ ولا الجيش التونسي يشبه نظيريه المصري أو الجزائري، في دورهما المعروف في التدخل في الشأن السياسي وصناعة الرؤساء؛ ولا الوضع الإقليمي والدولي كذلك يمكن أن يسمح بانفلات الوضع التونسي وتفجره، في وقت يسعى فيه الجميع إلى تهدئة الجبهات الساخنة هنا أو هناك. ولعلّ هذا ما يفسر تردّد العواصم الكبرى، وعدم اتخاذها موقفًا حديًا من الحدث التونسي، وسعيها إلى سياسة «تدوير الزوايا» بين الأطراف المتصارعة.
وأغلب الظن أنّ المجتمع المدني التونسي، بمنظماته العمالية والنسائية والشبابية والحقوقية وقطاع الأعمال، لن يقبل بإعادة تونس إلى زمن الدكتاتورية. وكان الاتحاد العام للشغل الذي أعطى شرعية للقرارات التي اتّخذها الرئيس سعيّد قد اشترط أن يرافقها «ضمانات دستورية بضبطها بعيدًا عن التوسّع والاجتهاد..». ثم عاد وأصدر، مع عدد من المنظمات النقابية والحقوقية الأخرى، دعوات جديدة (6/8/2021)، تحث السلطات على احترام القانون وحقوق الإنسان والتعجيل بالكشف عن تركيبة «الحكومة الجديدة ورئيسها»، و«خريطة الطريق» التي ستُعتمد لإخراج البلاد من أزماتها المستفحلة.
والأرجح أنّ الرئيس سعيّد لن يكتفي بدعم المؤسستين العسكرية والأمنية، وسيعمد إلى تنسيق خطواته مع منظمات المجتمع المدني، في ظلّ موقفه السلبي من الأحزاب وصيغ التمثيل التقليدية التي يرى أن «عهدها ولّى». فضلًا عن إعلان رفضه الحوار مع الفاسدين والمتحالفين معهم، في إشارةٍ إلى حزبي “قلب تونس” و”النهضة”، اللذين يتهمهما بالحصول على تمويل أجنبي لحملتهما الانتخابية[13].
وبوسع المرء أن يفترض كذلك أن القيادات التونسية تدرك بدورها أن طريقها للتعافي الاقتصادي والسياسي لا تنفع معه الخيارات المعادية للديمقراطية. وقد تكون العودة إلى مسار الحوار الوطني، مثلما جرى في 2013، هي وحدها الكفيلة بإعادة البلاد إلى مربع التوافق، وإنقاذها من خطر الانحدار إلى هاوية الصراعات المزمنة، فضلًا عن مخاطر الانزلاق نحو الاحتراب والفوضى.
[1] حمزة المؤدِّب، من هي «الطبقة الوسطى»؟ تونس مثالًا، «السفير العربي»: 18/ 12/ 2013
[2] د. آمال موسى، «تونس والرّجة الكبرى»، الشرق الأوسط: 28/7/2021
[3] أسامة رمضاني، «الطبقة الوسطى صمّام أمان مهدد في تونس»، صحيفة النهار: 10/9/2020
[4] عمرو حمزاوي، الدرس التونسي الجديد، القدس العربي: 27/7/2021
[5] كما ورد في مقال مارينا أوتاواي المترجم «تونس: الأحزاب السياسية والديمقراطية في أزمة»، حرمون، 3/8/2021). ولكن يلفت الانتباه في هذا المقال ورود بعض الأفكار والاصطلاحات والأسماء غير الدقيقة؛ ومنها أن «النهضة» حازت على الأكثرية في انتخابات «الجمعية التأسيسية» (2011)، أو انتخابات 2019، وكذلك أنّ «نداء تونس» فاز بالأكثرية في انتخابات 2014، وواقع الحال أن «النهضة» أو «النداء» حصلا على المرتبة الأولى، ولم يفز أي منهما بالأكثرية، (النصف + 1)، في أية انتخابات، وأن رئيس الوزراء الذي خلف حمادي جبالي هو علي العريض (وليس لعريده، كما ورد). ويطلق على التوافق بين السبسي والغنوشي «اتفاق الشيخين» (وليس العجوزين). وعلى تحالف الأحزاب الثلاثة التي حكمت بعد قيام «الجمعية التأسيسية»، حتى أواخر العام 2013، مصطلح «الترويكا»، (وهو المصطلح الشائع في تونس، وليس ترجمته الحرفية).
[6] مختار الدبابي، الشباب والثورة المؤجلة في تونس، العرب: 1/8/2021
[7] أسامة بوذريوة، جذور الأزمة السياسية الحالية في تونس، معهد واشنطن: 30/7/2021
[8] الأزمة السياسية الدستورية في تونس.. حيثياتها وآفاقها، «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات»: 27/4/2021
[9] محمد كريشان، ورطة حركة «النهضة»… وتونس، القدس العربي: 11/8/2021
[10] عزمي بشارة: في أخطاء حركة النهضة التونسية، تعليق منشور على صفحته في «فيسبوك»، ثم أعادت «العربي الجديد» نشره في نفس اليوم: 9/8/2021
[11] النهضة تمهد لاستقالة الغنوشي من رئاسة البرلمان، العرب: الجمعة 13/8/2021
[12] جلبير الأشقر، «من المسؤول عن إخفاق التجربة التونسية؟»، القدس العربي: 11/8/2021
[13] كمال بن يونس، شخصيات رسمية تونسية في «الإقامة الجبرية»، الشرق الأوسط: 7/8/2021