بسبب فشل الحل السياسي حتى الآن، وتضاؤل فرصة تشكيل هيئة حاكمة انتقالية، وتعدد الجهات العسكرية التي تتحكم بسورية، بدأ كثير من السوريين يتحدثون عن قرب تشكيل مجلس عسكري مشترك، من ضباط معارضين منشقين عن النظام السوري، ومن ضباط مازالوا يعملون مع النظام، وعلويون بشكل أساسي، ممن لم تتلوث أيديهم بالدماء من كلا الطرفين، يستلم هذا المجلس العسكري زمام الحكم في سورية لفترة انتقالية، ويفرض الأمن ويجمع السلاح ويوقف الفصائل المتمردة والمتشددة، ويوقف “شبيحة” النظام المنفلتين، ويُشرف على الانتقال السياسي، ويطرد المقاتلين الأجانب من كافة الجنسيات والأيديولوجيات من سورية، ويضع حدا لأجهزة النظام الأمنية المنفلتة، ويتعاون مع القوى الكبرى لتمرير المرحلة الانتقالية، ويكون الضامن والسلطة التي تطبق قرارات الهيئة المدنية الحاكمة الانتقالية المفترضة التي أقرتها قرارات الأمم المتحدة.
يقول كثير من السوريين إن “الهيئة الحاكمة الانتقالية” التي نص عليها بيان جنيف 1، والتي أيّدها القرار الأممي 2245، لم تتحقق، بسبب دعم روسيا للنظام السوري، ورفضها لهذا الإجراء، بل ولم يعد ممكن تشكيلها بسبب وجود فوضى عسكرية لا يمكن ضبطها، ويؤكد كثيرون على أن “المجلس العسكري المشترك” هو الحل.
خلال الأسابيع الأخيرة، تحدثت وسائل الإعلام السورية المعارضة، وبعض وسائل الإعلام غير السورية، عن سيناريو – قديم جديد – لتشكيل مجلس عسكري يحكم سورية مرحليًا، وأخذ هذا الموضوع صدى واسعًا على كافة المستويات، وحتى الدولية منها.
تمحور هذا المشروع حول شخص العميد مناف طلاس، ليكون على رأس هذا المجلس، وفي الحقيقة هو صاحب المشروع، ويعمل عليه منذ سنوات، وتحدث مصدر عسكري مقرب من العميد طلاس عن مشروع وطني يتم الإعداد له لقيادة سورية، يحتاج فترة زمنية من التحضيرات والنشاطات المعلنة وغير المعلنة قبل الخطوات العملية باتجاه المخرجات النهائية للمشروع، وأعلن أنه تمت مناقشته لدى الدول الصديقة للشعب السوري، وسيبصر النور قريبًا، وهو لا يتعلق بمجموعة صغيرة تنشط في منطقة محددة، وإنما يتعلق بمجموعة على مستوى الدور الوطني السوري، ويشمل نشاطها كافة مناطق الأطراف السورية الفاعلة، بالإضافة الى المحاور الدولية المهتمة بالملف السوري.
وبخصوص المقاربة الدولية للمشروع قال إنه لا يمكن حتى الآن الحديث عنها قبل تبلور المشروع على الصعيد الوطني السوري بطريقة يمكن عبرها الانتقال الى مرحلة المشاورات الدولية بخصوصه.
وحول أولى الخطوات الحقيقية التي استجدت على أرض الواقع بهذا المشروع، قال إن أهم الخطوات في هذا الاتجاه تركزت على تأسيس مقاربة جديدة بين السوريين تبحث عن حل من داخل الأطراف السورية، وليس بانتظار حلول دولية تفرض على السوريين حسب رغبة الدول والوقت الذي تختاره هذه الدول، وكذلك قدرة المشروع على استقطاب الكثير من الفئات المهمشة بين السوريين سواء على صعيد العسكريين أو على صعيد المواطنين من الفئة الصامتة والثورية والفئة المتعبة من الجمهور السوري، وحاليًا يتم العمل على إنضاج الحوامل الرئيسية للمشروع على صعيد الحامل السياسي والاقتصادي والإعلامي خلال المرحلة القادمة، وتجري المشاورات بخصوصها مع الأطراف السورية بعد حصول المشروع على قبول منهم، ودعم أولي بانتظار مشاورات متعلقة بالتفاصيل الفنية والإجراءات.
في حقيقة الأمر، بدأ مشروع العميد طلاس مطلع عام 2016، وق تسرّبت في ذلك الوقت وثيقة أميركية تتعلق بالأزمة السورية، وفيها وضعت واشنطن تسلسلًا زمنيًا للعملية السياسية، يتم بموجبه تشكيل مجلس عسكري من النظام والمعارضة، ويتم تشكيل هيئة حكم انتقالي، ويوضع دستور جديد يتم الاستفتاء عليه، ويتخلى الأسد عن سلطاته وتغادر الحلقة الضيقة المحيطة به، لتبدأ الهيئة الانتقالية بممارسة صلاحيات تنفيذية كاملة.
لم تكن هذه الوثيقة الأميركية رسمية، وإنما كانت لجس النبض، وربما كانت مسودة أولية لمشروع، أو تمهيدية كاقتراح لحل الأزمة السورية، لكن مجرد ذكر الولايات المتحدة لمحجلس عسكري مشترك لأول مرة، أثار الاهتمام، وكانت هناك ثلاثة مؤشرات دفعت الكثيرين للتوقف عند هذه الوثيقة طويلًا واستنتاج أنها خطّة جدّية أميركية ستُطبق يومًا ما.
أولى هذه المؤشرات أن هذه الوثيقة المُسرّبة تتوافق تمامًا مع القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن الدولي الذي حدد برنامجًا زمنيًا متطابقًا مع الوثيقة الأميركي في ذلك الوقت، وهذا التطابق بالبرامج يؤكد على وجود صلة ما بين الوثيقة الأميركية وبين القرار 2245.
المؤشر الثاني أن الوثيقة نُشرت عن طريق وكالة “الأسوشيتد برس” الأميركية، وهي وكالة جادة غير معروف عنها الخداع أو الكذب بنقل الأخبار، وتصدر عنها أخبار سياسية وعسكرية واستخباراتية غاية في الأهمية والسرية، وتمر عبر فلاتر الاستخبارات الأميركية، وتكون كل محسوبة بدقة في مثل هذه الأخبار.
المؤشر الثالث على جدّية تلك التسريبات نقلها قياديون من الجيش السوري الحر والمُكوّن بغالبيته من ضباط وجنود منشقين عن الجيش، حيث أشاروا إلى تحضيرات في ذلك الوقت تجري لتشكيل مجلس عسكري مشترك بين المعارضة والنظام، وأكّدوا أنه مشروع يتم الإعداد له بهدوء.
وفق مصادر مقربة من العميد طلاس، فإن تواصله مستمر مع ضباط رفيعي المستوى منشقين عن النظام، وضباط رفيعي المستوى من اعاملين مع النظام، بحكم قربه وصداقته السابقة معهم، وثقة الطرفين به، وهو ضابط له خبرة عسكرية، ورفض أن تتلطخ يداه في الدم، وسنّي توافق عليه المعارضة الإسلامية، وصديق لكل الضباط العلويين رفيعي المستوى بحكم قربه السابق حتى من أسرة الأسد، ويمكن أن يثق به العلويون، وتؤكد المصادر أن طلاس قادر على تأسيس مجلس مشترك يضم ما يزيد عن 50 ألف مقاتل من الطرفين خلال يومين، فيما لو حظي مشروعه لى موافقة دولية أو أميركية.
المشروع لا يمكن أن ينطلق بوجود الأسد، وسيكون شرط الانطلاق تنحية الأسد، وستكون مهمة المجلس المشترك استعادة السيطرة على الأراضي السورية، ومراقبة سير عملية التغيير السياسي، وضمان تنفيذ القرارات التي سيتم التوافق عليها بالمفاوضات.
طلاس ضابط رفيع منشق لم تتلطخ أيديه بالدماء، ويعرف المؤسسة العسكرية جيدًا، باعتباره كان قائدًا لأهم لواء في الحرس الجمهوري، مهمته حماية العاصمة، صحيح أنه مظلوم بالسيرة الذاتية لوالده (وزير الدفاع زمن حافظ الأسد)، لكنه محترف وله جمهور من الطرفين، ولديه قدرة على تجميع ضباط من مختلف الانتماءات الدينية والمناطقية والقومية من طرفي النزاع، وصاحب علاقات عربية وإقليمية وغربية.
قد يكون المشروع الذي يعمل عليه عدد غير قليل من الضباط المنشقين عن الجيش والقياديين في الجيش الحر هو عصب الخطة الأميركية التي تم تسريبها قبل سنوات، وقد يكون مشروعًا مستقلًا لا علاقة له بالولايات المتحدة، لكنّه بكل الحالات مدخل يفكر فيه البعض لحل المأساة السورية، وإن نجح سيكون هو الذراع الضاربة التي تُنهي الأزمة السورية، على اعتبار أنه سيضم الجميع بالتراضي، وسيشارك بقيادته معارضون يضمنون تحقق أهداف الثورة ومعهم ضباط من النظام من الطائفة العلوية ممن اقتنعوا بأن ما قام به الأسد دمّر سورية وسيُدمّر الطائفة قريبًا إن لم يتم وضع حد له، وسيضمنون بدورهم عدم حصول انتقامات ضد الطائفة العلوية التي أقحمها النظام في حربه.
يُدرك الكثير من الضباط العلويين أن الأسد استغل الأقليات في لعبة طائفية، عوضًا عن أن يضع هذه الأقليات في قالبها الوطني، وعمل على اختصار الشعب السوري بعائلته، وحارب أبناء الطائفة العلوية الذين لم يؤيدوه، كأبناء الطائفة المرشدية، الذين حاربهم وأبعدهم عن وسائل الإعلام وحاصرهم اقتصاديًا، وحدد سقف تدرجهم بالسلم الوظيفي، ولم يُعيّن منهم أي مدير أو محافظ أو سفير طوال حكم الأسد الأب والابن، وحرمهم من الرتب العسكرية العليا، ومع انطلاق الثورة عام 2011 كان لديهم مطالب تنسجم مع مطالب الثورة، لكن النظام أرعبهم فجرّهم إلى حربه، كما أرعبهم المسلحون التكفيريون أيضًا، فظلوا ضائعين، وهناك الآن مئات الضباط الكبار من الطائفة وآلاف الجنود مستعدون للتعاون مع الطرف الآخر في مجلس عسكري مشترك لا علاقة للأسد به، شرط أن يلقى دعمًا دوليًا، يستطيع خلال وقا قصير أن يقضي على كل التنظيمات والفصائل المتطرفة وينظف سورية من كل المقاتلين الأجانب، وتشكيل جيش جديد من مقاتلين محترفين نظاميين، ويأمر كل القوى العسكرية العراقية واللبنانية والإيرانية أن تغادر سورية وإلا سيحاربها، ويطرح طلاس للمقربين منه فكرة أنه سيتعهد هذا المجلس بأن لا يتدخل بالشأن السياسي بل يساعد على ضبطه وتنظيمه فقط، كجزء من تأكيدات على أن المجلس لن يعود سلطة عسكرية بديلة عن السلطة الحالية.
يتواجد في تركيا والأردن مئات من الضباط السوريين (الأمراء) المنشقين عن النظام، وعشرات آلاف من الجنود المنشقين ممن رفضوا المشاركة بالحرب مع النظام ضد الشعب، ويبدو أن هؤلاء هم النواة التي يرتكز عليها المشروع، وهم أبناء المؤسسة العسكرية، مُدرّبون ويُتقنون فنون الحرب، ومستعدون لمشاركة نظرائهم بالجيش النظامي لإعادة الاستقرار إلى سورية فيما لو تمت تنحية الأسد وكبار قياداته الأمنية، ومعهم من الطرف الآخر ضباط علويون لم تتلوث أيديهم بالدماء، مُقتنعون بأن النظام ورّطهم مع طائفتهم في حرب عبثية، لكنهم، وبسبب فوضى السلاح وارتفاع مستوى العنف والرغبة بالانتقام من بعض الجهات المتشددة، والكثير الكثير من المنكوبين من حرب النظام، باتوا يخشون تغيير النظام دون أن يكون هناك بديل واضح يضمن لهم أمنهم ومستقبل من يمثلونهم، وهم مستعدون للمشاركة بمجلس عسكري مشترك مدعوم دوليًا يحقق لهم هذه الضمانات.
من جهتها رحبت “قوات سوريا الديمقراطية – قسد” بتشكيل هذا المجلس العسكري الانتقالي، لإدارة سورية في مرحلة انتقالية، شرط تمثيل جميع القوى السورية مع وجود كيان سياسي يمثل جميع القوى السياسية بمهام مكملة لبعضها.
ورغم أن هذه القوات تحتمي بالأميركيين وتعتقد أنها قوية بهم، إلا أنها وافقت على هذا المجلس، وقال غابرييل كينو، المتحدث الرسمي للقوات، فإن تشكيل المجلس العسكري خطوة أساسية للحل في سورية، وإن قوات “قسد” جاهزة للمشاركة بالجسم العسكري، وكشف عن وجود اتصالات مع العميد طلاس بهدف التوصل لتفاهمات تُرضي جميع الأطراف.
وأوضح “حصلت مجموعة من الحوارات بيننا لمعرفة مهام المجلس، والهدف منه والأفكار المطروحة حوله”، ورحب بتشكيل المجلس، وأضاف “نرحب بأي خطوة تؤدي إلى حل الصراع السوري، وتعمل على ضم جميع القوى الفاعلة على الأرض”.
ويرى كينو أن طلاس “شخصية وطنية مقبولة من جميع مكونات الشعب السوري، وشخصية يمكن التوافق حولها من جميع الأطراف في هذه المرحلة”، وأن “قسد” “تنظر بعين الثقة إلى العميد طلاس وليس لديها مشكلة حوله أو معه وثقتنا به كبيرة” على حد قوله.
ووفق مصادر مقربة من العميد طلاس، فإن علاقته بتركيا جيدة للغاية، وأقام فيها عدة أشهر بشكل متقطع خلال العامين 2018 و2019، التقى خلالها بضباط منشقين، ودرس معهم استراتيجيات تشكيل المجلس العسكري المشترك، وكان موضع ترحيب من الأتراك، إلا أن مشروعه توقف بشكل مفاجئ بسبب طلب أميركي من الأتراك بالتريث بهذا المسار.
من المفارقات، أن المعارضة السياسية السورية لا تؤيد هذه الفكرة، وفي الغالب الأعم لسببين، الأول خوف بعض المعارضين أن يعود الحكم في سورية للعسكر من جديد، والثاني أن بعض الكيانات المعارضة خشيت أن يتم تهميشها بهذه الحالة وتخرج دون مكاسب، لأن المجلس العسكري سيكون أقوى منها وقد يحلّها جميعها لصالح هيئة سياسية مشتركة تتشكل على غرار المجلس العسكري المشترك.
لاشك أن فكرة تشكيل مجلس عسكري مشترك، وسطي يستبعد كل من أعطى أوامر القتل، ستلقى دعمًا وتأييدً سوريًا كبيرًا، سواء أكان هذا المشروع سوريًا بحتًا أم كان اقتراحًا أميركيًا يتم تنفيذه بيد السوريين، وسيكون – إن حصل على دعم أميركي أقصر الطرق وأنجحها لإنهاء حرب عبثية دامية دخلت عامها العاشر.