اعتقدَ نتنياهو، ومؤسسته السياسية الحاكمة، أن الظروف باتت متاحة له لإنجاز مزيد من التوغل في مشروع دولته التوسعية العنصرية الإجلائية، على خلفية تأثير المناخات الدولية والعربية، بعد الاتفاقات بين أكثر من دولة عربية وإسرائيل “التطبيع”، وبفعل تخلخل البنية الذاتية الفلسطينية، وعجز السلطة الفلسطينية عن فرض إجراء الانتخابات في مدينة القدس الشرقية، وهو ما جعلها تلغي الانتخابات في كل الأراضي الفلسطينية التي تسيطر عليها.
كما لعبت أغراض نتنياهو الشخصية في السعي لحلّ أزمته الحكومية، وإنقاذ نفسه من السقوط والفشل، دورًا إضافيًا في إقدامه على دعم تحركات المستوطنين للسيطرة على منازل في حي الشيخ جراح في القدس، فكان ما لم يكن بحسبانه هو ومؤسسته اليمينية المتطرفة.
بداية، أظهر سكان حيّ الشيخ جراح، المستهدف بالاستيطان، تصدّيًا بطوليًا للدفاع عن حقهم في منازلهم، وهو حقّ مثبت في وثائق وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين، وفي عهد السلطات الأردنية قبل احتلال 1967. وما لبثت المواجهة تلك أن ارتبطت بمواجهة أخرى أكثر عددًا وأقوى رمزية؛ ذلك أن الدفاع عن الأقصى وحق الفلسطينيين في إقامة صلواتهم وشعائرهم في ساحاته تحوّل إلى اصطدام مع المستوطنين وقوات الاحتلال، وأصبح الشيخ جراح هو القدس الشرقية بكاملها.
لكن التطور النوعي اللافت والمهمّ جدًا حصل بالإسناد الشعبي الفلسطيني القادم من خلف “الخط الأخضر”، من هناك تقدّم آلاف الفلسطينيين للدخول إلى حي الشيخ جراح، والاعتصام مع أبناء الحي، لمنع قرار المحكمة الإسرائيلية العليا من بتّ الأمر لمصلحة المستوطنين. وعندما أعاقت قوات الاحتلال وصول فلسطينيي مدن وبلدات 1948 إلى القدس والشيخ جراح؛ تحولت المدن الفلسطينية كلها، في أراضي 1948، إلى ساحات تظاهر لدعم القدس، وهو ما يندر حدوثه بهذا الشمول والاتساع، مع إرادة عالية على المواجهة.
أغلب الظنّ أن المواجهة التي بدأت في الشيخ جراح، قبل أسبوعين، سوف ينظر المحللون إليها باعتبارها محطة نوعية في مسار الصراع مع الاستراتيجية الإسرائيلية، ومع المرتكزات الفكرية التي انطلقت منها الصهيونية لتجسيد مشروعها الاستيطاني الشامل في فلسطين.
قبل مدة، أعلنت إسرائيل نفسها “دولة يهودية”، وهو ما يعني أن لا حقوق في إسرائيل إلا لمن يقبل بقانون الدولة اليهودية، وكانت تعلن دائمًا أن “القدس الموحدة” عاصمة أبدية لإسرائيل، وعزز موقفها ومساعيها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، وجاء اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، وإقراره نقل سفارة أميركا إليها، محركًا للغلواء اليمينية العنصرية التي يزداد وزنها في المؤسسة السياسية الإسرائيلية، وهو انعكاس للانتشار الواسع للأيديولوجيا اليمينية المتطرفة والعنصرية داخل المجتمع الإسرائيلي.
تجربة الشيخ جراح قد أظهرت صلابة الموقف الشعبي الفلسطيني في مواجهة كل إجراءات التهويد، بالصلابة التي ترتكز إلى وحدة الفلسطينيين كشعب، والحفاظ على تلك الوحدة يشكّل صمام الأمان الوطني، لإفشال كل محاولات إسرائيل وقطعان مستوطنيها.
في الشيخ جراح، هناك معنى جذري عميق للموقف الفلسطيني الشامل الرافض للقرارات العنصرية والمتصدي لها بالحناجر والصدور العارية “والإبتسامات الساخرة”، أقصد بالمعنى أن مقولة “فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” التي اعتقد القادة والمفكرون العنصريون أنها باتت حقيقة راسخة، تلك المقولة الزائفة تم تهشيمها في الشيخ جراح، وبعودة صوت الفلسطينيين في حيفا واللد ويافا وسخنين وأم الفحم، ليقول: نحن هنا، وهذه بلادنا.
في الشيخ جراح أيضًا، لا شك أن الزعامة في إسرائيل اكتشفت خطأ تقديرها بأن انخراط القيادة السياسية الفلسطينية في مشاريع التسوية، وقيام سلطة لتلك القيادة، سيشكل ضمانة لضبط حركة الشعب الفلسطيني بما يتلاءم مع حالة “التعايش” المزعومة التي تنشدها السلطات الإسرائيلية. لم تفهم قيادات إسرائيل الفرق، بين تمكّن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية من توقيع اتفاق أوسلو والالتزام بمحدداته “أمن إسرائيل” خاصة، وبين الإرادة الحقيقية للفلسطينيين في مطارح وجودهم كافة، من أراضي 1948 إلى الضفة والقطاع إلى بلدان الجوء والمنافي البعيدة.
وانطلاقًا من المواجهات في الشيخ جراح، وتداعياتها لتشمل المدن الأساسية في إسرائيل (حيفا، يافا، عكا، اللد، الرملة، وسواها)، لا بدّ أن رجال الفكر والاستراتيجيات، في المراكز الإسرائيلية، ومعهم المحللون الدوليون الموضوعيون، سيقفون على حقيقتين مترابطتين: الأولى أن الشعب الفلسطيني واحدٌ، رغم تنوع مناطق وجوده، ورغم اختلاف البنى الحاكمة في تلك المناطق-الدول، وتعدد انتماءاته السياسية والحزبية؛ والثانية أن تداعيات الصدام في الشيخ جراح، وامتداده إلى القدس، وتوسعه إلى بقية المدن الفلسطينية، ومنها الواقعة تحت سلطة الدولة الإسرائيلية، سيعيد الاعتبار لرواية النكبة الفلسطينية، بما يدحض كل منظومة الدعاية الإسرائيلية التي أطلقت بعد إعلان تأسيس “دولة إسرائيل”، إذ حاولت إسرائيل تقديم رواية زائفة عن سبب ترحيل اللاجئين من بلادهم، وأحالته إلى الحرب التي “شنتها” الجيوش العربية على “الدولة الفتية”، وإظهار هجرة الفلسطينيين عن أرضهم بسبب مجريات تلك الحرب، فضلًا عن الادعاء بأن اليهود اشتروا مساحات كبيرة من أصحابها العرب، وأسسوا عليها دولتهم!
ما جرى في الشيخ جراح، كلحظة بداية للهبّة الفلسطينية الشاملة التي رآها العالم في الأيام الماضية، أظهر جليًا تمسّك الفلسطينيين بأرضهم، وكشفت فشل بعض محاولات أفراد يهود، لتملك أراض ومنازل في القدس، بتقديم مبالغ خيالة لأصحابها (تقديم 40 مليون دولار لشراء مطعم يمتلكه عربي في القدس، ورفض صاحبه)، بيد أنه من الخطأ الاعتقاد بأن الصدمة التي تلقاها نتنياهو والمستوطنون اليهود المتطرفون سوف تثنيهم عن معاودة الكرّة على الشيخ جراح وغيره من أحياء القدس، وبعض البلدات الفلسطينية داخل الخط الأخضر، ومعروف أن السلطات الإسرائيلية فكرت جديًّا منذ فترة في تمرير اقتراح على سلطة أوسلو، يتم بموجبه تبادل بين سكان ثلاث قرى فلسطينية داخل إسرائيل، وبين مجموعات استيطانية يهودية تتمركز في الضفة الغربية. لكن تجربة الشيخ جراح قد أظهرت صلابة الموقف الشعبي الفلسطيني في مواجهة كل إجراءات التهويد، بالصلابة التي ترتكز إلى وحدة الفلسطينيين كشعب، ولذلك ستفشل كل محاولة من هذا النوع. وعليه فإن الحفاظ على تلك الوحدة يشكّل صمام الأمان الوطني، لإفشال كل محاولات إسرائيل وقطعان مستوطنيها، ومحاولاتهم للسيطرة على مزيد من الأرض، وتهجير مزيد من أبناء الشعب الفلسطيني عن منازلهم وبلداتهم.