بلا شك، أثار مقتل المجرم قاسم سليماني ردات فعل واسعة في المنطقة والعالم. كيف لا وهو قائد “فيلق القدس” في الحرس الثوري الإيراني، والذراع الأيمن للمرشد الأعلى علي خامنئي، ويقال إنه المدلل لديه، لما يلعبه من دور خطير في المنطقة العربية وخارجها.
ونحن -المناصرين للثورات العربية- فرحنا بنفوق هذا الرجل الجبان المجرم، الذي يُعدّ مسؤولًا عن جلب ميليشيات مرتزقة من كل أصقاع الأرض ليقتلوا السوريين تحت رايات طائفية مقيتة. والمفارقة أن فيلقه يحمل اسم القدس، لكنه يقاتل في المدن السورية: حلب والقصير وفي الميادين وغيرها، وفي العراق وفي اليمن، ولكن القدس في اتجاه آخر. هكذا هي الدعاية الخمينية الكاذبة، حيث إنهم هم من أطلق “يوم القدس”، ويزاودون بقضية فلسطين، مثلهم مثل النظام الأسدي، عندما أسس أبشع فرع مخابرات وأكثرها إجرامًا، باسم “فرع فلسطين”.
كان سليماني يتجول بين العراق وسورية ولبنان واليمن، كأنه يتنقل ضمن حدود الدولة الإيرانية. ووصلت به العجرفة والكبرياء إلى درجة أنه استهتر بشعوب المنطقة وقدراتها، واستهتر بأميركا و”إسرائيل”، وكان ذلك بلا شك دعاية كاذبة، ولولا سماح أميركا له بالفرعنة لما بلغ ما بلغ. وعندما قررت أميركا التخلص منه لانتهاء دوره؛ قضت عليه بلمح البصر.
نظام الملالي حوّل أربع دول عربية إلى رهينة لسياسته وأيديولوجيته التوسعية والطائفية. وقد كان سليماني الحاكم الفعلي لسورية والعراق ولبنان واليمن. وكان قائدًا عسكريًا موغلًا في دماء الشعوب، وخلقوا له هالة وأسطورة تنسجم مع البروباغندا الخمينية التي تذكرنا بالدعاية السوفيتية، فهم يصرفون الأموال في خلق شخصيات وإعدادها لتقوم بوظائف معينة، ويقدّمون لها دعاية إعلامية وسياسية ونفسية وعسكرية، ونسوا أن لكل بداية نهاية.
كانت الأخبار عندما تذكر سليماني ترفق ذلك بهالة معينة ووصف مضخم، بأنه قائد عسكري يستطيع أن يظهر حيث لا يتوقع الآخرون، ويزور الجبهات ويعطي التعليمات، وفي الوقت نفسه يظهرونه على أنه متواضع وبسيط وهادئ.
انتهت أسطورة سليماني، كمجرم حرب وقاتل بدم بارد وطائفي وعدو للشعوب. ولكن ماذا يعني مقتل سليماني؟
واشنطن قتلت سليماني بصاروخ واحد، وقتلت معه مسؤولين آخرين في “الحشد الشعبي” و”حزب الله”، وكلهم مجرمون قتلوا الأبرياء تحت مبررات طائفية مقيتة.
هل نقول إن أميركا تساعد الشعوب وتقتل المجرمين؟ طبعًا لا. ومع ذلك، نحن لا نخفي فرحتنا بقرار ترامب في التخلص من هذا المجرم ذي التاريخ الأسود المليء بالجرائم. ولكن هناك مجرمين آخرين يقومون بجرائم أكبر من سليماني، وما زالوا يسرحون ويمرحون، ولم تقرر أميركا التخلص منهم!
بشار الأسد، طاغية دمشق، قتل مليون سوري، ودمّر البنية التحتية والمجتمعية، وهجّر ملايين السوريين، وما زال يقصف المدنيين -مدعومًا من موسكو- بالبراميل والصواريخ، وترامب يتفرج!
صحيح أن واشنطن أصدرت قانون قيصر ضد النظام السوري وحلفائه، وهو قانون مهمّ يُشكر عليه الكونغرس وترامب، لكن الخطوات الأميركية -مع الأسف- تأتي بطيئة جدًا وقليلة الفاعلية، بينما يُقتل السوريون ويشردون ويموتون من البرد والجوع.
تسع سنوات مرت على انطلاقة الثورة السورية ضد الظلم والاستبداد، ثورة الحرية والكرامة، وما زال القتل والتدمير مستمرًا في إدلب، ويتمّ تهجير السوريين وطردهم من أي مأوى، والعالم صامت، وواشنطن لا تجد وسيلة لإرغام عصابة الأسد على التوقف عن القتل على الأقل.
مقتل سليماني كان خطوة مهمة جدًا في تقليم أظفار الإجرام بحق شعوب المنطقة، ولكنه خطوة جزئية محدودة، إذا ما تحدثنا عن ممارسات الأنظمة المستبدة التي استباحت دماء شعوبها في دمشق وطهران.
من جهة أخرى، نجد في مقتل الرجل الجبان سليماني دعمًا لانتفاضة الشعب العراقي واللبناني بشكل مباشر، لأن سليماني كان جالسًا في بغداد ويخطط لقمع التظاهرات الشعبية، وكذلك كان يسافر إلى دمشق وبيروت، وهو يعطي الإرشادات لأزلام النظام الإيراني: الأحزاب والميليشيات الطائفية ومعهم الأسد المجرم.
إن الوظيفة الإجرامية والخطيرة لنظام الملالي لهي أخطر من الأجندة الصهيونية العالمية، وتهدف إلى قمع الشعوب وإخضاع الدول لسياستها في امتصاص الخيرات وتشييعها وتحويلها إلى مزرعة له، عبر إثارة الفوضى والفتن الطائفية والحروب، وتشكيل الميليشيات الطائفية التي تقوض وجود الدول، كما نرى في لبنان والعراق بوضوح. وكل ذلك يرضي “إسرائيل” وأميركا. ولذلك يجب ألا نتسرع ونحكم بأن أميركا دخلت في مواجهة كبرى مع إيران، وأنها تريد إنهاء نظام الملالي. فالموضوع هو تقليم أظفار وتسخين أجواء، لاعتبارات قد تتعلق بالأوضاع السياسية داخل الولايات المتحدة، وترتيبات داخل منطقة الشرق الأوسط، لمصلحة “إسرائيل” بالدرجة الأولى.
علينا، في خضم الفرحة بمقتل مجرم عنيد وخطير كسليماني، ألا ننسى أن أميركا لن تخلصنا من الوباء، ومن المجرم الآخر بشار الأسد، وعلينا أن نحك جلدنا بأظفارنا، وألا ننسى أن كل الدول المنخرطة في الصراع الدائر على أراضي بلادنا تبحث عن تحقيق مصالحها وتنفيذ أجنداتها، وأنها تستخدم الورقة السورية لتحقيق مكاسب أكبر، ولا أحد منها يفكر في مصلحة شعبنا السوري أو غيره من الشعوب العربية.