ما يلي ليس إشادة بميشيل كيلو أو تبجيلًا له، مع أن الرجل يستحق ذلك ويليق به كواحد من أهم طلاّب الحرية عالميًا. فعْلُه، وما جرى له، ورواه، وأفكاره العلنية، لا تحتاج إلى شهود؛ فهو ببساطة سورية التي يريدها ويطمح إليها كل سوري حقيقي. سأسلط الضوء فقط على منتجٍ قدّمه هذا الرجل، يجعلنا نعرف أين نقف، وما حدث لنا، ولماذا..
جدير بالذكر أن كتابة ميشيل كيلو ومفرداته وجمله ومعانيه يصعب تكثيفها أو تلخيصها؛ لأنها ذاتها عصارة دلالية نابعة من راصد عاقل، وباحث مجرّب، وميداني خبير. وللحقيقة، اجتهدتُ يومًا وتحدثتُ في إحدى دراساتي عن بنية دولة الأسد التي جعل أيديولوجيتها مبنية على مبدأ المواجهة لا التعايش بين الحاكم والمحكوم؛ وإذ بي أكتشف، بعد التعمق بما كتبه ميشيل كيلو، أنني أسبح بشبر ماء مقارنة بعمق ما قدّمه. فهو يرى أن المواجهة بيد الحاكم هي التركيبة المجتمعية المريضة المنخورة التي صنعها الأسد بفعل “دولته العميقة” المتمثلة بأجهزة الموت التي خلقها، حزبيًا ومخابراتيًا وطائفيًا واقتصاديًا، لتكون طوع بنانه، وتلغي بدورها الإنسان السوري الحقيقي.
في ثلاثة كتب قاربت صفحاتها الألف، قدم ميشيل كيلو سورية بعد استقلالها الأول. جلّ تركيزها كان على ما فعله “الفرد” الأسد بسورية؛ وأقام “الدولة الأسدية” التي عبثت بسورية الوطن، فألغت الإنسان والوطن. تقع هذه المجلدات في ثلاثة أجزاء تحت عنوان: (من الأمة إلى الطائفة – سورية في حكم البعث): الأول من عام 1947 حتى 1966، والثاني من عام 1966 حتى 1970، والثالث من عام 1970 حتى قيام ثورة سورية 2011.
في الأول، يتحدث كيلو عن تأسيس “البعث” بأهدافه، وشعاراته، وطموحاته، وتحولاته، وسقطاته، وخيباته، والواقع الذي اصطدم به عربيًا ودوليًا؛ ورؤيته تجاه الأمة، والوحدة، ثم الانفصال، واللجنة العسكرية، وصولًا إلى 23 شباط 1966؛ وامتطاء البعث الحقيقي من قبل حزب السلطة: “الأسدية”.
يبدأ الجزء الثاني بالتطورات، والصراعات، والأفخاخ التي سبقت حرب سبعة وستين، داخليًا وعربيًا ودوليًا، مرورًا بالوحدة، والانفصال و”ثورة” آذار، وكارثة 1967، وخسارة أرض الجولان السورية؛ وجعل نتائج الاحتلال أداةً لإعادة هيكلية المنطقة، وكيف أصبحت إسرائيل أداة وذريعة في تلك الصراعات والمآسي والتلاعب بمصير المنطقة وشعوبها؛ حيث يرى ميشيل كيلو أن كارثة حزيران 1967 كسرت، بصورة نهائية، ما كان يعتبر طوقًا عربيًا مضروبًا حول إسرائيل، وجعلت شعار “تحرير فلسطين” الشماعة التي يعلق عليها الاستبداد كل ما يريد، ووأدت “حركة التحرر والنهوض العربي”. ومع حركة الأسد “التصحيحية”، تم إخراج السياسة من المجتمع، والمجتمع من السياسة؛ ونشأ شرخ لا يُرمّم، بين الحاكم والمحكوم الذي لم يرَ فيه النظام الحاكم إلا عدوًا. فحركة الأسد أحلت الاستبداد محل الديمقراطية، والقسر بديلًا للحرية، والتجزئة مكان طموح الوحدة؛ وفتحت مع الخارج ارتهانًا لتحمي أبديتها. عام سبعة وستين، كان حافظ الأسد قد غيّب الحزب والحكومة، وكان ذلك أول توثيق علني بأنه أضحى الحاكم بأمره في سورية، حيث اعتَبَر الحزب ستارة أيديولوجية محدودة القيمة، من خلال تحويله إلى مجرد متعاون أو ممسحة للدولة العميقة كجسد مترهل دون عمل.
يرى كيلو أن المؤسسة العسكرية ودولتها العميقة سيطرت على الحياة السورية والمجتمع عمومًا، حيث قام الأسد ببناء حزب سياسي آخر غير حزب البعث، واسمه الفعلي “حزب الأمن والجيش”، وحمّله اسم “البعث” لصاحبته “الدولة الأسدية العميقة”.
يكرّس ميشيل كيلو الجزء الثالث لعصر الأسد وما فعله بسورية. وبحسب كيلو، كوّن الأسد تركيبته تلك عبر آلية “الاحتواء”، من خلال شفط وتمزيق وتشتيت إنتاجية المجتمع المادية والبشرية؛ ونشر فيه الفساد والإفساد؛ وغذّى ونمّى كل تخلف وتحجر فيه؛ بحيث لا تقوم له قائمة من خلال وضعه أمام الخيار الوحيد: الولاء المطلق للأسد، أو الزوال. فأي محاولة لمغادرة مجتمع الحرمان والعبودية والتمزق وتأليه الأسدية، جريمة وخيانة وطنية!
أوجد الأسد منظمات ونقابات واتحادات مهنية منفصمة ومنفصلة عن بعضها البعض وعن منتسبيها، بالرغم من ادعائها تمثيلهم، ولكن قياداتها أدوات تدجين بيد عناصر الدولة القمعية العميقة غير المعروفة إلا بفعل الخوف والرعب والوهم المتاصل في الذهن، والحاضرة في عملية السطو والتمزيق، حيث كانت المهمة الأساس لتلك العناصر الاقناع أن العبودية هي المصير الأفضل، وإلا…
يرى ميشيل كيلو أن الأسد أوجد دستورًا يحمل في طياته بذور وأدوات القمع اللازمة، تحت اسم قوانين، كي يكون “مجتمع الاستبداد” مقوننًا، وكي يلمس “مجتمع الحرمان” أو “المحرومين” ملامح قوننة، ولكنها قوننة استبداده؛ حيث كان تناقض القوانين وإمكانية الالتفاف عليها ضرورات لإفشاء الإفساد والفوضى اللازمة؛ أما القانون الحقيقي فلا وجود له. المتوفر فعلًا هو قانون الرعب والاستبداد وتقرير المصير عنوة. لقد كان “الارتباط بالأجهزة” في الدولة العميقة، ولو بأدنى المراتب الوظيفية، هو سيد المكان.
في دولة الأسد، الولاء للسلطة؛ وليس أي سلطة، بل لدولة الأسد العميقة، التي تحدد نسبة الوطنية. ومن هنا تجد أن “مجتمع المحرومين” مغيَّب معطَّل مستبعَد ممزق، لا حول له ولا قوة؛ يقبل الحكم الجائر وخسارة حقه، خشية من الانتقام، حيث بدا وكأنه مجتمع “لا يحق أن يكون له وطن”. من “مجتمع المحرومين” هذا، تمَّ شفط النخبة إلى المنفى أو إلى القبر أو إلى المعتقل أو إلى صفوف مجتمع السلطة، لتكون بدورها أداة تسلط وفساد وإفساد. “مجتمع المحرومين” هذا هو الذي تم تدميره في سورية.
عندما يفرغ أي إنسان عاقل، أو بربع عقل، يفكّر ويشعر بأن ألف ثورة يجب أن تقوم في سورية. ثورة يستحيل أن تموت برؤية ميشيل كيلو، ولكل هذا كَتَبَ وصرخ ميشيل كيلو، ولكل هذا تعرَّض لكل ما تعرض إليه، ولكل هذا ما رسمه لا بد أن يكون ضوء منارة وخط هداية ومنهج عمل، لاستعادة سورية التي تليق بأهلها ويستحقونها.
مهما كُتب عن ميشيل كيلو وعن إنتاجه الفكري الثوري التحرري الإنساني في مقالاته ومقابلاته وأحاديثه ومواقفه، فلن يفيه حقه. إنه الإنسان الثائر المثقف النبيل. إنه الصوت السوري الحر الذي لن يغيب.