عبّر السوريون، بمختلف مشاربهم، عن الألم والوجع الذي تركه رحيل المفكر والسياسي المخضرم ميشيل كيلو، وشهدنا حالة إجماع شعبي ووطني لافت في وداعه، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والمقالات والندوات التي أجمعت على أن الراحل ميشيل كيلو كان شخصية استثنائية بكل المقاييس.
فقد كان إنسانًا بسيطًا وشعبيًا، وروحُه طيبة في الحديث، وكان يستخدم عبارات من قلب المجتمع السوري، ليؤكد ارتباطه العميق بوسط اجتماعي ترعرع فيه وانتمى إليه بتربية سورية حقيقية، ويمكن وصفه بأنه كان سوريًا، في أعماق قلبه وفي سلوكه وفي تعامله مع الآخرين. كان يهتم بالأصدقاء والشباب والمثقفين والثوار، وبكل من يعمل لحرية سورية وكرامتها، وكان إنسانًا بحروف من ذهب، لأنه لم يضَع نصب عينيه إلا مصالح السوريين وطموحاتهم، وكان لديه نظرة واسعة وقلب كبير يتعامل من خلاله مع الناس، فيرى الجانب الإيجابي حتى في الشخص الذي سُجن من أجل التهريب والتقى معه بالسجن، لأنه كان يثق بالناس، ودائمًا يبحث عن أسباب الظواهر، ويدعو لمعرفة أسباب القيام بأي فعل. فعندما يقوم الفقير بأشياء منافية للقانون، يجب معاقبة من أوصله إلى هذه الحالة، ذلك الذي حرمه من لقمة العيش وجرده من حقوقه الإنسانية.
كان إنسانًا رقيقًا. ويظهر ذلك من قصته في السجن مع الطفل الذي طُلب منه أن يحكي له قصة، ولكن الطفل الذي وُلد في السجن لم يكن قد رَأى الشمس ولا الشجر ولا العصفور، فأبكاه حال ذلك الطفل. ونكتشف من حكاياته وممارساته أنه يهتمّ بشؤون الناس، ويتألم لمعاناتهم، وكان يحلم بالعودة إلى سورية وإلى ريف اللاذقية، ليجلس على تلة صغيرة يتذكرها منذ الطفولة. إنه مرتبط بسورية وتراثها وأهلها، وبالعادات السورية في الطيب والكرم والعيش بنظافة وبشهامة الإنسان السوري البسيط.
ميشيل كيلو مثقفٌ من الطراز الرفيع، وهو موسوعة الذاكرة السياسية والتاريخية السورية. عرف تاريخ سورية الحديث، وعاصر أهمّ الأحداث، وكان مساهمًا فعالًا في نشاطات الحركة السياسية والثقافية السورية، واكتسبت شخصيته شهرة واسعة في الأوساط الثقافية والسياسية، وعُرف عنه جرأته وشجاعته في قول الحقيقة، وكان سياسيًا مخضرمًا يُتقن الحوار ومجابهة أشرس الخصوم حتى ضباط الأمن الكبار. وكان يحظى باحترام السوريين -معارضين وموالين- وهو من أبرز الشخصيات المعارضة التي ساهمت في تطوير الفكر السياسي والثقافي، وقد مارس العمل السياسي عمليًا، ودخل السجون مرات عدة، ودائمًا كان في قلب الحدث بالكتابة والحديث والنشاط الفعلي.
كان ميشيل كيلو إنسانًا حكيمًا، ولديه طاقة هائلة في التفكير والتحليل الذي يستند إلى خبرة غنية وثقافة واسعة بالمجتمع السوري، وقد كان يقول: يجب على من يتصدّر المشهد السوري أن يكون عارفًا بسورية والمجتمع وتفاصيل الحياة، معرفة قريبة وعميقة وواقعية، لا معرفة نظرية فحسب، وكان هو يجسد هذه الظاهرة.
ترجم كتبًا سياسية وفكرية وتاريخية مهمّة، أغنت المكتبة العربية، وألّف عددًا من الكتب والروايات والقصص الأدبية. وكان أبو أيهم -رحمه الله- مدرسة في السياسة، وكلّ من يعرفه وتواصل معه يشعر بأن أمامه إنسانًا هو عبارة عن مكتبة متنقلة، وتراه يتحدث عن القضايا الكبرى، ويلخصها بكلمات، ويضرب أمثلة قد تكون حكايات بسيطة تثبت فكرته.
لقد شهدت كلّ الأحداث الكبيرة المتعلقة بالحياة السياسية المعارضة للنظام أن ميشيل كيلو كان في المقدمة، وكان سباقًا في تقديم المبادرات لإنشاء لجان إحياء المجتمع المدني وإعلان دمشق، ولا يوجد معارض سياسي في سورية إلا واحتك به وتعلّم منه. ويشهد له السوريون كيف وقف في اجتماع مع مسؤولين في النظام (وتم تسجيل ذلك اللقاء) وقال كلامًا وطنيًا جريئًا غير مسبوق، حتى إن كاتبًا من حلب روى أنه كان يحمل شريط التسجيل في الشارع، وهو خائف من الاعتقال، كما أكدت المقترحات التي قدّمها مع شخصيات وطنية أخرى، بدعوة من مسؤولين في البعث، للجنة الحريات والديمقراطية خلال التحضير للمؤتمر القطري الذي عقد عام 2005، أن أفكاره القوية والمقنعة لاقت رواجًا كبيرًا في الشارع السوري، وأجبرت النظام على تقديرها ومحاولة الاستفادة منها، لكي يحمي نفسه من احتمال تغيرات ثورية قادمة، ولكن نظام الأسد (وخاصة في عهد بشار الذي يسميه كيلو تهكمًا بـ “العبقري”)، كما يشير ميشيل كيلو، اتخذ طريقًا معاديًا للشعب، ودمّر الاقتصاد والسياسة والفكر والحياة. ووضع سورية في سجن كبير سائر نحو الانفجار المتمثل الثورة السورية العظيمة في آذار 2011.
تعرّفت إلى ميشيل كيلو، شخصيًا، في السنوات الأولى للثورة، وكان أول لقاء معه في إسطنبول، وكان متواضعًا ودودًا، وسهرنا ساعات وحدنا، ويومها طرحت عليه أسئلة صريحة، وانتقدته بأدب وتواضع على نشاطه في الائتلاف؛ فشرح لي بالتفصيل ما حدث، وقال (بالمعنى): “لقد اخطأنا باختيارنا لأحمد الجربا، لأنه أخلف الوعود التي قدّمها لنا”. ولذلك كتب ضده، وخرج لاحقًا من الائتلاف، لقناعته بعدم جدوى الائتلاف بعد أن ارتهن لجهات خارجية.
آمن ميشيل كيلو بوحدة الشعب السوري، ورفض الطائفية والمللية، وشرح في مقابلاته وفي كتبه سبب الطائفية في سورية، وكيف أن رجال الدين هم تابعون للحاكم المستبد الفاسد، وأن السوريين يجب أن يعملوا على بناء دولة مواطنة، تلغي التمييز بينهم على أساس الدين أو الطائفة أو الجنس.
لقد ترك إرثًا غنيًا من الأفكار الثقافية والسياسية والاجتماعية التي يجب أن يرجع إليها الشباب ويدرسوها، وعليهم أن يتابعوا مقابلاته بالفيديو، ويستفيدوا من المنطق السياسي وطريقة التفكير العميقة والشاملة للظواهر وربط الأحداث ببعضها.
من أهمّ ما ترك ميشيل كيلو كتابه الأخير، الذي عمل عليه بشكل مكثف وكأنه كان يسابق الزمن لإنجازه، وعنوانه “الانتقال من الأمة إلى الطائفة….”، وهو موسوعة التاريخ السوري وحكم العسكر وحزب البعث الذي تأسس عام 1946، واستلم السلطة بانقلاب عسكري عام 1963، وحوّل سورية من مجتمع متجّه للتبلور كمجتمع وطني سوري، ومن أمّة (كما وعد البعثيون في شعاراتهم)، إلى طائفة، حيث فرق بين الأفراد وبين الجماعات والأسر، لكي يسيطر عليهم.
لقد أثبت في كتابه الكبير (وكان لي شرف الاطلاع عليه كمخطوطة ومراجعته بطلب من الراحل) أن البعث والتوجه الطائفي في النظام دمّر سورية مجتمعيًا، وحرم الناس من كل حقوقهم، وأصبحت عائلة الأسد هي مالكة البلاد والعباد.
بعد دخوله المشفى، رحمه الله، كنا نتراسل، وكان يسألني عن صحتي، ويطلب مني وضعه في صورة التطورات الصحية الخاصة بي.
لقد رحل ميشيل كيلو، وبقي إرثه الثقافي الغني الذي يجب جمعه ونشره وتوزيعه، لأنه مكتبة للثوار والسياسيين والمثقفين السوريين والعرب.
لقد كان رحيلك، يا أبا أيهم، خسارة لسورية، وخسارة لكل واحد منا.
صحيح… بقي إرثه الثقافي الغني…
ميشيل كيلو…. فارس احب سورية. واحبح السوريين.