المشروع الإيراني التوسّعي في المنطقة إنما هو في جوهره مشروع يجسّد الرغبة في تجاوز دور قوة إقليمية أساسية في منطقتنا، وأخذ موقع قوى إقليمية كبرى بوزن قوّة دولية مؤثرة في النظام العالمي الجديد المنتظر، وهو نظام من المتوقع أن يقوم على تعددية الأقطاب، خاصة بعد بروز مؤشرات عدة تؤكد وجود توجه أميركي للتخلي عن الدور القيادي الذي تقاسمته الولايات المتحدة، منذ مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية 1939-1945، مع روسيا (الاتحاد السوفيتي سابقًا).
ومع انتهاء الحرب الباردة، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، اعتقد كثيرون بأن التاريخ قد وصل إلى نهايته، وأن الريادة الأميركية -بأوسع معانيها- ستشمل جميع بقاع العالم. ولكن سرعان ما تبيّن أن الأمور أعقد من ذلك، فهناك ثقافات متجذرة، وهناك مصالح متباينة، هذا إلى جانب أن التكنولوجيا الحديثة قد فتحت الآفاق أمام مختلف المجتمعات وأتاحت إمكانية امتلاك أسباب التقدم، بشرط توفر الإرادة والرغبة من قبل إدارة رشيدة تعرف قدراتها، وتحدد أهدافها، وتوفر الوسائل المطلوبة لبلوغ تلك الأهداف.
وقد استطاعت دول عديدة، ولا سيّما في جنوب وجنوب شرقي آسيا، تحقيق قفزات نوعية في ميادين التطور التكنولوجي والتقدم الاقتصادي والبحث العلمي، ويُشار هنا إلى الصين والهند بصورة خاصة، إضافة إلى اليابان وكوريا الجنوبية وماليزيا وأندوسيا وسنغافورة، وهناك جهودٌ حثيثة تُبذل في هذا الاتجاه في أميركا اللاتينية، خاصة في البرازايل.
أما في منطقة الشرق الأوسط، وشمال أفريقيا، فإن إيران هي من بين الدول التي تسعى جاهدة لبلوغ موقع القطب الإقليمي المؤثر على مستوى المنطقة والعالم، وهي بتوجهها هذا في حالة تنافسية، مع كل من تركيا وإسرائيل؛ وهذه القوى الثلاث تستفيد من واقع غياب المشروع العربي المتماسك، على الرغم من توفر الموارد المالية والبشرية، وهي الموارد التي تبددت بسبب الخلافات البينية، سواء ضمن كل دولة أم بين مختلف الدول العربية، الأمر الذي يدفع بعضَها إلى الاستقواء بهذه القوة الدولية أو الإقليمية، أم بتلك.
وبالعودة إلى المشروع الإيراني، نرى أن النظام الحالي مصرّ على بلوغ دور القطب الشرق أوسطي المؤثر مستقبلًا، ولتحقيق ذلك يعمل على امتلاك جملة عناصر، في مقدمتها التوسع الجغرافي، والتكنولوجيا النووية والصاروخية، والقوة الاقتصادية، هذا إلى جانب السعي المتواصل للحصول على التكنولوجيا الصناعية بمختلف الوسائل. وما نسمعه عن مشروع خط الغاز الإسلامي الذي يبشّر به هذا النظام ما هو إلا حلقة من حلقات المشروع الإيراني الأكبر.
فإيران تريد الوصول عن طريق البرّ، عبر العراق وسورية، إلى شواطئ المتوسط، لتكون قوة منافسة في ميدان تصدير الغاز. أما السوق المستهدفة فهي سوق الدول الأوروبية المستعدة لتبادل المصالح مع الإيرانيين، والتخفيف من مخاطر التحكمّ الروسي في مصدر مهمّ من مصادر طاقتها، والمعني به هنا هو الغاز بطبيعة الحال.
ومن الواضح أن الروس يتابعون هذا التوجّه الإيراني، ويستعدّون له، على الرغم من تقاطع المصالح القائم حاليًا بينهم وبين الإيرانيين في سورية. فمسألة تصدير الغاز إلى أوروبا لا تشكّل بالنسبة إلى الروس مسألة اقتصادية فحسب، بل تشكل قوة سياسية في الوقت عينه، تلزم الدول الأوروبية، وألمانيا تحديدًا، بضرورة تفهم المصالح والتوجهات الروسية في أوروبا الشرقية، ودول آسيا الوسطى. كما تستعد روسيا لاحتمالات نتائج التنقيب عن الغاز، في الساحلين السوري واللبناني، وإمكانية توجيه استخدام هذا الغاز من قبل الجهة المهيمنة على من يحكم في كل من سورية ولبنان.
ولعلّ هذا ما يفسّر -إلى حدّ ما- أسبابَ الهجوم العنيف الذي شنّه “حزب الله”، حديثًا، على السفارة الأميركية ودورها التخريبي، وفق توصيفه في لبنان، وذلك بالتوافق مع الأنباء التي تحدثت عن توافق بين دول المنطقة والولايات المتحدة، لاستجرار الغاز المصري عبر الأردن وسورية إلى لبنان، إلى جانب تزويد لبنان بالكهرباء الأردنية عبر سورية، وهي التي ستنتج بالغاز المصري.
وقد تسرّبت أنباء هذا التوافق، قبل زيارة العاهل الأردني إلى واشنطن وبعدها، حيث عرض على الرئيس الأميركي جو بايدن احتياجات الأردن الاقتصادية، ورغبتها في فتح معبر نصيب مع سورية. ويبدو أن مشروع نقل الغاز والكهرباء إلى لبنان، من مصر والأردن، كان من بين نقاط التفاهم التي تم الوصول إليها، وهذا معناه حصول الأردن على استثناء لتجاوز قانون قيصر الأميركي الخاص بحظر التعامل الاقتصادي مع حكم بشار الأسد. ولم يكن لهذا التوافق أن يتمّ، لولا التفاهم مع الروس الذين لهم حساباتهم الخاصة، على الرغم من اشتراكهم مع الإيرانيين في جهود دعم الحكم المشار إليه.
ومن المعطيات التي تلفت الانتباه في هذا المجال، التنافسُ الروسي الإيراني في منطقة شرق الفرات المهمة، على صعيد تحقيق التواصل البري بين إيران وسورية عبر العراق، وهي المنطقة التي توجد فيها حقول النفط والغاز الأهم في سورية؛ فكل طرف يسعى لبناء الميليشيات المحلية المقربة منه، وذلك بهدف السيطرة على الأرض، وبلوغ الأهداف التي تنسجم مع توجهات إستراتيجيته.
ومن الواضح أن هناك تفاهمًا روسيًّا – إسرائيليًّا – أميركيًّا، حول منع إيران من المزيد من التغلغل في الجغرافيا السورية، على الرغم من سياسة غض النظر عن التدخل الإيراني المباشر وعبر ميليشيات “حزب الله” والميليشيات العراقية والأفغانية، في السنوات الأولى من الثورة السورية، وذلك للمحافظة على حكم بشار الذي كان، وربما ما زال، يشكل بالنسبة إلى إسرائيل العدو الملتزم الضعيف المطلوب.
ولكن ماذا عن توجهات الزمرة الحاكمة في سورية نفسها؟ هل ستسير في المشروع الإيراني إلى نهايته؟ أم أنها سترى أن مصلحتها، على المدى البعيد، تتمثل في التحرر من تبعات هذا المشروع الذي يتناقض مع توجهات غالبية السوريين، حتى أولئك الذين يُصنّفون اليوم ضمن خانة الموالين؟
ما يُستشف من جملة القرائن الخاصة بالتحرّكات والتدخلات الإيرانية في القطعات العسكرية والأجهزة الأمنية المحسوبة على آل الأسد، إلى جانب واقع فتح المجال أمام الإيرانيين للتمدد ضمن المجتمع السوري، من خلال التجنيس وامتلاك العقارات و”التبشير المذهبي”، هو أن بشار الأسد والمقربين منه سيستمرون في تحالفهم مع الإيرانيين، إلى جانب استمرارهم في المحافظة على علاقات نفعية براغماتية مع الروس. ولكنهم إذا اضطروا إلى الوقوف مع أحد الحليفين دون الآخر، فسيكون الخيار الإيراني هو الأهم بالنسبة إليهم، ولو أدى ذلك إلى تقسيم البلد؛ لأن بشار الأسد يدرك تمامًا بأنه، بعد أن فعل ما فعله بالسوريين وسورية، لن يتمكن -من دون دعم إيراني شمولي- من مواجهة غالبية السوريين الرافضين حكمه المستبد الفاسد المفسد.
وبناءً على ذلك، ستكون نتيجة القبول الدولي ببقاء حكم بشار استمرارية عدم الاستقرار، في كلّ من العراق وسورية ولبنان، وهي الدول التي استثمر فيها النظام الإيراني كثيرًا حتى وصل إلى مرحلة التحكم في المفاصل الأساسية في تلك الدول والمجتمعات.
وعلى الأغلب لن يقتصر التهديد الإيراني على هذه المنطقة وحدها، بل سيمتد إلى آسيا الوسطى وشبه الجزيرة العربية، خاصة إذا امتلكت إيران مزيدًا من التكنولوجيا العسكرية، ومنها النووية. فالمشروع التوسعي يمثل الإستراتيجية المحورية التي يستمد منها النظام الإيراني قوته في الداخل الإيراني، بل إن استمرار وجوده في الحكم يتوقف على هذه الإستراتيجية.
مصلحة الروس البعيدة المدى تكمن في كسب ودّ السوريين كلّ السوريين، وهذا الأمر لن يتحقق، إذا ما استمروا في فرض حكم بشار عليهم. ولكن إذا تم التوافق، بينهم وبين الجانب الأميركي، حول رفع الغطاء عن هذا الحكم، وتمكين السوريين من اختيار مستقبلهم بأنفسهم، من خلال انتخابات حرة نزيهة بإشراف دولي، فإن ذلك سيعزز الاستقرار لا في سورية وحدها، وإنما في لبنان والعراق والمنطقة بأسرها، وسيفتح الأبواب أمام معالجة مختلف قضايا المنطقة، حتى الشائكة المزمنة؛ وهذا ما سيُسهم في توحيد الجهود الإقليمية والدولية لمواجهة تحديات الفقر والتطرف والمتغيرات المناخية، وكل ذلك سيكون في مصلحة الجميع.