هناك ملمح عالمي يجمع بين الاندياح الطالباني في أفغانستان عقب الانسحاب الأميركي، وبين هجوم النظام السوري على درعا البلد ومحاصرتها، هذا الملمح هو تراجع قيمة السياسة والفكر السياسي، لصالح قيمة واحدة هي القوة المجردة، أو هو، بكلام آخر، موت البرامج السياسية في العالم غير الديمقراطي.
تقادَم أو اندثر التصور الذي يربط بين القوة السياسية والفكرة السياسية، بمعنى أنه لم يعد ثمة مكانة أساسية للصواب السياسي أو للبرامج الحزبية، ولا للدعاوة والتحريض وما إلى ذلك، في حيازة القوة السياسية. لم تعد البرامج المناسبة وسيلة الحزب إلى تحصيل القوة الجماهيرية. انتفت اليوم، في العالم غير الديمقراطي، العلاقة بين صواب الطرح السياسي وملاءمته لحاجات المجتمع، وبين القوة الجماهيرية لصاحب الطرح، فلم يعد الصواب السياسي يستجر القوة الجماهيرية، كما ساد الاعتقاد طويلًا. الثقافة أيضًا غير مستثناة من هذا التحوّل. القوة لا تكترث كثيرًا بالتوافق مع الثقافة السائدة في المجتمع المستهدف. ليست الثقافة الإسلامية -مثلًا- هي التفسير الكافي لقوة الجماعات الإسلامية التي تسيطر على المشهد السياسي.
في السنوات التي سيطرت فيها طالبان على أفغانستان (1996 – 2001)، عرضت نموذجًا كارثيًا من الحكم، ارتكبت مجازر بحق مدنيين، منعت فنون الرسم والتصوير والموسيقى والسينما، حرمت النساء من الدراسة، ومن العمل، وصار على المرأة، كي تخرج إلى مكان عام، أن تلبس البرقع، وأن يرافقها ذكر قريب، تحت طائلة الجَلد أو الإعدام، وقامت طالبان بإبادة ثقافية شملت تماثيل يعود تاريخها إلى أكثر من 1500 سنة، ومارست تمييزًا سلبيًا ضدّ الأقليات العرقية والدينية.. إلخ، وها هي اليوم، مع ذلك، تتقدم كالنار في الهشيم، في مقابل قوات الحكومة المنتخبة التي تمثل، على فسادها، صلة أفضل بالعصر. على الأقل هناك نساء أفغانيات، في ظل الحكومة غير الطالبانية، وصلن إلى البرلمان، وتمكنّ، مثلًا، من الظفر بتسجيل اسم الأم على بطاقة الهوية، الأمر الذي ترفضه طالبان على أنه “مشروع غربي”.
الذي يفسّر هذا التقدم العاصف لحركة طالبان هو قوتها القتالية. السؤال إذن: من أين تنبع القوة القتالية؟ ولماذا ينهار الجيش الأفغاني بمعداته الحديثة وتنظيمه الحديث، والذي يقال إن أميركا أنفقت على إنشائه وتدريبه أكثر من 83 مليار دولار؟ (ربما لو أن أميركا أنفقت هذا المبلغ الهائل على البنية التحتية في أفغانستان وعلى التنمية الاقتصادية فيها، لكان ذلك أنفع في صدّ طالبان، بحسب أحد التعليقات الذكية على هذا الخبر).
قوة طالبان ليست مستمدة فقط من بنيتها التنظيمية، ومن توفرها على موارد وعلى علاقات دعم خارجية.. إلخ، بل مستمدة أساسًا من العصبية الدينية والقومية التي تشد أفراد التنظيم، أي إنها قوة مستمدة من كل شيء سوى الأفكار السياسية وملاءمتها للمجتمع الأفغاني. العصبية في عالم اليوم تحيل الأفكار إلى الهامش، لأن الأفكار لا تولد العصبيات التي تولدها الهويات الانتمائية، ولا سيما الدين والقومية. لذلك تموت الأفكار السياسية حين تحيا العصبيات.
الشيء الوحيد الذي كان يقف في وجه طالبان هو “القوة” الأميركية. أمام كلتا القوتين، لا تشغل قناعات الناس ووعيهم دورًا مؤثرًا. حين تخرج هذه القوة، تتقدم القوة الأخرى، وكأن موضوع القوتين (الشعب الأفغاني) بلا أي حضور أو وزن. لا نشر الوعي “الطالباني” الإسلامي وقف في وجه القوة الأميركية، ولا نشر الوعي الأميركي العلماني يقف في وجه تقدم طالبان.
وجدنا الحال نفسه في سورية. لم تتقدم أي جهة في الصراع بسبب أفكارها السياسية، على العكس من ذلك، القوى التي تقدّمت هي القوى التي تعبد القوة ولا تقيم وزنًا للفكر السياسي. لم يثبت نظام عائلة الأسد، لأنه يمثل قيمة سياسية ما، أو لأنه يلبّي تطلعات معينة للشعب السوري، بل لأنه قادر على البقاء بالقوة المستمدة، على الطريقة الطالبانية، من الاستثمار في العصبية، وتقاطع هذا الاستثمار مع مصالح حلفاء داعمين وقادرين على الدعم. كلام الكثيرين من مسايري النظام عن الحفاظ على الدولة مثلًا، هو مجرد غلاف لا يكاد يستر التبعية للقوة والالتحاق بالقوي، تمامًا كالحديث عن الحرية في جهة مسايري الإسلاميين الذين يواجهون قوات “الدولة”. لبّ الموضوع بعيد بالكامل عن الفكرة السياسية، وكامن في العصبية التي هي بالتعريف مضادة للفكر.
لن يقودك الفكر السياسي، مهما كان متقدمًا أو ملائمًا، إلى أن تحوز قوةً متماسكةً، فلحيازة مثل هذه القوة، تحتاج إلى أن تحرّض عصبية ما وتستثمر فيها. ومعلوم، في هذا الزمن، أن من ينفق قوة ناجمة عن عصبية انتمائية، مهما تكن، فإنه لا يشتري فكرًا ولا حرية ولا خيرًا للناس، بل يشتري سلطة تقمع الفكر وتصادر الحرية وتنكب حياة الناس.
النتيجة التي تتجلى دائمًا، لمن يتأمل في العالم غير الديمقراطي، هي أنه ليس الفكر السياسي المناسب هو ما يستجر القوة الجماهيرية، بل القوة القتالية، بالأحرى، هي ما تستجرّ فكرًا سياسيًا تلفيقيًا يناسبها.
على سبيل المثال، في ما يخص الوضع الحالي في درعا التي لا يستطيع نظام الأسد أن يرميها بتهمة انفصالية أو تهمة تطرف ديني، ويحاصرها ويحشد لاقتحامها من دون أن يكون في جعبته السياسية سوى القمع والتجويع والانتقامات، يمكن لأحد أن يقول إن من الطبيعي لقوات هذا النظام أن تهاجم درعا البلد، لأنه من غير الطبيعي أن تبقى مناطق من سورية خارجة عن سيطرة الدولة. صاحب هذا القول يمرر تبعيته “الفكرية” للقوة، تحت ستار كثيف توفره مفردة “الدولة”. لا يجد صاحب هذا القول ما يدعو إلى التأمل في ما أصبحت عليه هذه الدولة في علاقتها مع “الشعب”، أو ما يدفع إلى التفكير في أنّ الناس المحاصرين والمعرضين للهجوم لا يطالبون، في الواقع، إلا بدولة، على أن تحمل حدودًا ولو دُنيا من مفهوم الدولة، وليس دولة يقتصر مفهومها على القسر، وتنحط علاقتها بالمحكومين إلى حدود الاستعباد والانتقام.
في غياب العلاقات الديمقراطية؛ تصبح الكلمة العليا للقوّة، ولا تتوفر القوة سوى عند من يستثمر في عصبيات هي بطبيعتها غير سياسية ومنافية للديمقراطية. هكذا تدخل أطراف قوية “عصبياتية” إلى ميدان الصراع السياسي، وتسيطر عليه وتفسده، فتجعله صراعًا سياسيًا (صراع على السلطة) ولا سياسيًا (يتغذى من عصبيات أكثر مما يتغذى من تفضيلات سياسية للشرائح الاجتماعية)، في الوقت نفسه.