كانت مواقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب حيال المسألة السورية، ومن الدور الإيراني في سورية، قبل استلامه منصبه، متباينة ومتأرجحة، وأحيانًا متناقضة، لكن بعد استلام منصبه صارت أكثر وضوحًا وجدّية ويحسب لها الروس والإيرانيون والنظام السوري ألف حساب. فهل يكون الحال نفسه مع الرئيس جو بادين؟
نتيجة سياسة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما تجاه الأزمة السورية، وسلبيته، أو بأفضل الأحوال حياديته، وعدم اكتراثه بالكارثة السورية، ورفضه تزويد المعارضة السورية بأسلحة فعّالة توقف طيران النظام السوري ومدافعه، وعدم محاولته الضغط على حلفاء النظام ليوقف حربه ويقبل بحل سياسي وفق بيانات أممية عديدة صدرت خلال السنوات العشر الأخيرة، وتؤكد على حتمية الانتقال السياسي في سورية، نتيجة كل هذه السياسات، أمل المعارضون السوريون أن لا يكون الرئيس التالي، دونالد ترامب، كسابقه أوباما، وأن يكون صاحب سياسة مختلفة يمكن أن تتقاطع مع مصالحهم وما تريده ثورتهم.
هذا الأمل، أو التفاؤل، بدأ بالاختفاء حتى قبل أن يستلم الرئيس ترامب منصبه، واتّضح أنه صاحب رؤية سلبية تجاه تطلعات أصحاب الثورة في سورية، فخلال حملته الانتخابية قال “إن تنظيم الدولة الإسلامية يُشكّل خطرًا علينا أكثر بكثير مما يشكل الأسد”؛ وقال بعد ذلك في مناظرة رئاسية “أنا لا أحب الأسد على الإطلاق، ولكن الأسد يقتل داعش وروسيا تقتل داعش وإيران تقتل داعش”، الأمر الذي عتى لاحقًا أن الضغوط ليست على الأسد ولا على نظامه.
وفي إحدى المناسبات المبكرة، وخلال الحملة الانتخابية، أعلن ترامب أن “على دول الخليج أن تستخدم أموالها لحيازة مساحة واسعة من الأرض في سورية لتقيم عليها منطقة آمنة للناس”، حيث تبرأ من مسؤولية الولايات المتحدة عن إقامة هذه المنطقة الآمنة التي لطالما طالبت بها المعارضة السورية، وهذه التصريحات وغيرها أسعدت النظام السوري.
لكن مواقف ترامب حيال المسألة السورية لم تكن واحدة، وكانت متباينة، وفي بعض الأحيان متناقضة، وكانت تتأرجح بين الأسوأ والأفضل، بالنسبة للمعارضة السورية، ففي إحدى المناسبات قال “لقد بدأت معاناة السوريين عندما لم يلتزم أوباما بتعهده، ولم يقم بمهامه التي كان ينبغي عليه تنفيذها عندما وضع خطًا أحمر للأسد، وليس هناك شك في أننا يجب أن نقوم بشيء حيال ذلك”، ثم بعيد استلامه لمنصبه مباشرة أعلن أنه يعتزم إقامة منطقة آمنة في سورية، لحماية المدنيين ولوقف تدفق اللجوء إلى خارج سورية.
هذه التصريحات، هي التي كانت الأكثر جدّية وخطورة بالنسبة لروسيا وللنظام السوري، جعلت حسابات الطرفين تتغير، ذلك أن الرئيس ترامب حمل في جعبته تحركات خشي الجميع أن تكون متهورة كتصريحاته والعديد من مواقفه.
خلال انتخابات ترامب أوقف الأميركيون أي حراك فيما يتعلق بالشأن السوري، واستلمت روسيا الملف السوري مستغلة الفراغ بين رئيس أميركي وآخر، وعملت على تغيير الجغرافيا العسكرية في سورية، واستخدمت عنفًا مُفرطًا لإنزال خسائر في المعارضة السورية، وأخلت بتوازن القوى بشكل كبير لصالح النظام، ثم أخيرًا قررت أن تقود الحل السياسي بشكل منفرد، فعقدت اتفاقًا مع تركيا وإيران لرعاية وقف لإطلاق النار بدأ تنفيذه في أول يوم من هذا العام.
نتيجة ما اعتُقد بأنه عدم اكتراث أميركي بالملف السوري، سارعت روسيا لعقد مؤتمر أستانة في العاصمة الكازاخية، لتثبيت بنود وقف إطلاق النار، جمعت فيه النظام والمعارضة بشكل غير مباشر، وحيّدت المعارضة السياسية، وقدّمت المعارضة العسكرية، التي كانت ترفض الاعتراف بها أساسًا، وحاولت بكل ما لديها من وسائل أن يتبنى الأميركيون هذا المؤتمر، لكنهم رفضوا.
إدارة الرئيس ترامب التي طرحت موضوع إقامة المناطق الآمنة في سورية حسمت تردد الرئيس السابق باراك أوباما الذي ظل يتذرع باحتمال “فيتو روسي صيني”، حيث لم ترغب واشنطن في تكرار تجربة العراق بعدم العودة إلى مجلس الأمن الدولي، وتأتي دعوته هذه بعد مؤتمر أستانة.
خلال انتخابات بايدن، فعل الأميركيون نفس الشيء، وأوقفوا كل نشاط أو حراك يتعلق بالقضية السورية، وحاولت روسيا الحصول على مباركة أميركية لتوسيع صلاحياتها في الملف السوري، ولم تُفلح بالحصول على ذلك، وكل ما حصلت عليه هو أن الولايات المتحدة تأخذ علمًا بالمساعي الروسية ولا ترى مانعًا أن تستمر إلى حين. لكن بعد انتهاء الانتخابات وفوز بايدن بالرئاسة، عاد الأميركيون بالتدريج للإعلان عن أن القضية السورية تهمهم، وأنهم لن يدعموا النظام، وسيستمرون في نهج العقوبات المفروضة عليه، كما سيستمرون بدعم المعارضة التي تهدف لتغيير النظام.
المساعي الروسية تصطدم بعداء متصاعد من قبل الولايات المتحدة تجاه إيران، ومصادقة مجلس الشيوخ الأميركي على قرار لتمديد قانون العقوبات “داماتو” ضد إيران لمدة 10 أعوام أخرى، برغم أنه كان يُمدّد كل مرة في السابق 5 أعوام فقط، ثم وضع مواجهة إيران ضمن أولويات ترامب ثم بايدن، وعزم الأول واللاحق على تفكيك البرنامج النووي الإيراني.
لاشك أن مواجهة إيران تُمثّل أولوية عند بايدن كما ترامب، ومن ثم فإن التوتر في العلاقات الأميركية – الإيرانية سيستمر في عهد الرئيس الجديد، بما قد يدفعه لتكوين حلف إقليمي يضم تركيا ومصر وإسرائيل والسعودية؛ لاحتواء إيران، ومن ثم قد تتوتر العلاقات التركية – الإيرانية الهشة القائمة حاليًا، وهو ما نراه يتحقق الآن على أرض السياسة الدولية والإقليمية في الشرق الأوسط، وكل هذا سيُضعف الموقف الروسي كثيرًا، وربما يجعل روسيا أضعف طرف في المعادلة السورية بعد حين، ذلك أن القوة الروسية تنبع اليوم من تحييد كل الأطراف، الأوربية والأميركية والعربية، فضلًا عن تحييدها تركيا والسعودية، ووجود القواعد العسكرية الروسية سيبقى هشًّا دون أن يكون هناك تحالفات استراتيجية أوسع من مجرد قواعد عسكرية تضم بضع آلاف من الجنود الروس.
من البوادر الأولية، تبدو الإدارة الأميركية الجديدة مصمّمة على إخراج إيران وميليشياتها من المعادلة الشرق أوسطية، حالها كحال إإدارة ترامب، وتحقيق نوع من التفاهم مع روسيا حول هذا الأمر.
لاشك، سيكون التدخل الأميركي السياسي قويًا، وربما في مرحلة لاحقة العسكري، وقد أدرك الروس أن الأولوية بالنسبة للأميركيين هي حماية مصالح الأمن القومي الأميركي ودعم الحلفاء في المنطقة ومواجهة إيران، في ظل إدارتي ترامب وبايدن، ومن المرجح أن يواصلوا تحجيم دور إيران وتخريب علاقتهم بها، فالعلاقة الروسية – الإيرانية اليوم في أسوأ أحوالها، ومن المتوقع محاولة استقطاب فصائل المعارضة المسلحة الإسلامية لتكون قوة في مواجهة مشروع المجلس العسكري الذي يفكر به الأميركيون، وليكون لديهم أوراق قوة عسكرية تابعة للمعارضة السورية يدخلوا عبرها إلى المجلس العسكري الذي يمكن أن تتبناه الولايات المتحدة في حال كان الظرف مناسبًا لإحداثه والرغبة بذلك قائمة عند الأميركيين، حيث من الواضح أن بايدن يسعى لأن تستعيد الولايات المتحدة دورها كقوة ضاربة في الشرق الأوسط، ومن غير المستبعد أن يطلب بزيادة التدخل العسكري المباشر أيضًا إن اضطر إلى ذلك.