المدخل:
من أخطر الانحرافات التي أصيبَ بها الإسلام عبر تاريخه، وصار لها تجليّات معاصرة وخطيرة على سمعة الإسلام كدين وعلى حياة المسلمين، ثقافةُ العسكرة وسلوكها! إذ حرفت الدينَ عن خط الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وهو السلوك الأصيل لكلّ رسالة سماوية، إلى ثقافة وسلوك العسكرة! وأسهمت شهوة التوسع الإمبراطوري أثناء “الفتوحات” في قلب صورة الإسلام والمسلمين، من الصورة السلمية التي مثّلها الدعاة والتجار في البلاد الأخرى، إلى الصورة العسكرية القاهرة للآخر على معتقدها، والغازية للبلاد الأخرى لتسبي نساءهم وتسترق رجالهم وتضرب الجزية عليهم!!
عسكرة السيرة النبوية وابتداع مصطلح الغزوات!
بعد غياب الرشد عن المجتمع الإسلامي، وذهاب السلطة باتجاه ملك عضوض بدأ مع الأمويين ولم ينتهِ حتى يومنا هذا؛ ابتكر سدنة الدين الموازي مصطلح “الغزوات”، وهو مصطلح أساء إلى الإسلام ورسوله، لأنه مصطلح عصاباتي ذو علاقة بثقافة الجاهلية وقبائلها، لا بالإسلام، خصوصًا أن النبيّ في حروبه كلّها قوتل، ولم يقاتل ابتداءً! وغُزِيَ ولم يغزُ، فحروبه كلّها كانت جهادَ دفعٍ لا طَلَب، ولم يذكر القرآن إطلاقًا جهاد الطلب الذي ابتدعوه! فكيف نسمّيها غزوات؟! وكذلك لم يُذكر مصطلح (غزوة) في القرآن، وهذا التغييب للمصطلح مهم جدًا في تغيير عقلية العرب، من ثقافة الغزو إلى ثقافة الدفاع المشروع عن النفس والعرض والأرض، الممدوحة في التشريعات الإلهية والوضعية! وذُكرت كلمة (غُزّى) مرة واحدة فقط في القرآن، في سياق تعرّض المسلمين للاعتداء العسكري من الآخر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُوا} آل عمران:156
هذه الآية تُستخدم كدليل على مشروعية الغزو، يُضاف إليها أحاديث كثيرة منسوبة إلى النبي الكريم! ولو أننا تدبّرنا المحور القرآني الذي جاءت في سياقه هذه الآية، لتبيّن لنا زيف ادعائهم وتدليسهم على المسلمين، لترويج ثقافة العسكرة والغزو! إذ إن الآية جاءت ضمن محور متكامل السياق في سورة (آل عمران)، تَحَدَّثَ عن الهزيمة يوم (أُحد) التي لم يسمّها غزوة بل “يوم”: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}، والبعد النفسي والأخلاقي والاجتماعي والإيماني لحال المؤمنين والمنافقين قبل المعركة وبعدها، فكانت درسًا مهمًّا لظروف وملابسات معركة أُحد، من خلال محور طويل في السورة، بدأ بالآية (133) واستمرّ في معاتبة ضعاف الإيمان وفضح المنافقين وبيان صبر المؤمنين وثباتهم حتى الآية (180) من السورة نفسها، ولا علاقة لها بالدعوة إلى الغزو والعسكرة مطلقًا، لكنهم ينزعونها من سياقها، لتخدم فكرة العسكرة والغزو. وبالتالي فإن الاستدلال بها لمشروعية الغزو والعسكرة استدلالٌ فاسد وباطل.
وهكذا صَوَّر الوعاظُ دعاة العسكرة رسالةَ النبي، وكأنها كلّها قتل وعسكرة! وهذا ليس صحيحًا! علمًا بأنّالمصطلح القرآني لـ (قاتِلوا وقاتِلوهم ويقاتلون والقتال) ذُكر في القرآن في (25) موضعًا، كلها جاءت لدفع الاعتداء لا للبدء بالقتال، وهو ما يُسمى بجهاد الدفع الذي تقرّه كل الشرائع السماوية والأرضية ([1]).
وعن عدد القتلى في الحروب التي خاضها النبي، يقول راغب السرجاني، في كتابه (هل اتسمت حروب النبي محمد بالدموية؟): بلغ العدد الإجمالي لقتلى الفريقين 1284 قتيلًا فقط!! ولكيلا يتعلل أحدٌ بأن أعداد الجيوش آنذاك كانت قليلة، ولذلك جاء عدد القتلى على هذا النحو، فإنني قمت بإحصاء عدد الجيوش المشتركة في المعارك، ثم قمت بحساب نسبة القتلى، بالنسبة إلى عدد الجيوش، فوجدت ما أذهلني!! إن نسبة الشهداء من المسلمين إلى الجيوش المسلمة تبلغ 1% فقط، بينما تبلغ نسبة القتلى من أعداء المسلمين بالنسبة إلى أعداد جيوشهم 2%!، وبذلك تكون النسبة المتوسطة لقتلى الفريقين هي 1.5% فقط ([2]).
لقد أسس أحدُ أهمّ مروّجي ثقافة العسكرة (ابن اسحق) دجال “الدجاجلة”، كما وصفه الإمام مالك ([3])، صورةَ النبي المقاتل، وصاحب المعجزات في سيرته المشهورة، طمعًا بعطاء الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، صاحب فكرة تدوين السيرة وعسكرتها!! فأطلق اسم غزوة على “عمرة القضاء” التي كانت تأدية للعُمرة ليس إلا! و”غزوة الحديبية” على مفاوضات صلح مع قريش لا حرب فيها البتة! كما أطلق على معاهدة صلح مع قوة عظمى آنذاك “غزوة تبوك”! حتى معركة الخندق التي غُزِيَ فيها المسلمون سمّاها غزوة!! وتناقلنا مصطلح الغزوات، وتغنينا به في مناهجنا الدراسية وعلى المنابر، على الرغم من أنه مصطلح لا يتناسب مطلقًا مع هدي السماء، ومخالف لوقائع التاريخ!! ولكي يشرعنوا الغزو، جعلوه عِلمًا من علوم الحديث، فقال الإمام الحاكم: “النوع الثامن والأربعون (من علوم الحديث) معرفة مغازي رسول الله، وسراياه، وبعوثه، وكتبه” ([4]).
ثم إن مصطلح “الغزو” مصطلح سيئ السمعة في معاجم اللغة العربية كلّها! فكيف ننسبه إلى الإسلام والرسول الكريم! فقد جاء في المعجم الوسيط مادة: غَزا: (فعل)، وغزا العدوَّ: هاجمه، سار إلى قتاله فيأرضه. وجاء في معجم لسان العرب: والغَزْوُ: السيرُ إِلى قِتالِ العَدُوِّ وانْتِهابه. ومعروف أن الغزو يكون لجلب مغانم مادية، والفتح للتوسع بالأرض. حتى لو كان المصطلح مقبولًا آنذاك -وهذا ليس صحيحًا كما تؤكد معاجم اللغة- فقد كانت تمتهنه القبائل بالجاهلية فيما بينها كحالة اعتداء، وإنَّ التطور الدلالي اللغوي للمصطلح اليوم صار تُهمة يجب تبرئة النبي والإسلام منها، لكون الغزو فعلًا استعماريًا أو عصاباتيًا، يُقرنُ بالاعتداء على الآخرين! ولأن الأنبياء عندهم الحُجة أولى من السيف، والإيمان يقوم على الحُجة لا على الإكراه. حتى عندما تكلّم القرآن الكريم عن حروب النبي كلها، لم يُسمّها بهذا الاسم (غزوات)، وكان يُطلق عليها يوم كذا أو لقاء كذا! فمثلًا عن معركة حُنين سمّاه (يوم) إذ قال: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا}. التوبة:25
لكن سدنة الدين الموازي زَيِّفوا صورة الرسول، لينتحلوا بدلًا منها صورة “جنرال” مقاتل! لا يكلّ ولا يملّ من المعارك! ووضعوا أحاديث مكذوبة على لسانه مثل (أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله)، (وجعل رزقي تحت ظل رمحي)، (وجئناكم بالذبح)، لتثبِّتَ صورةَ العسكرة، وتخفي سماحة الرسالة وعدلها. فكل هذه الأحاديث التي تدعو إلى قتال الآخر ستتهافت أمام السياق القرآني، لأنها مخالفة لآياته ومقاصده.
{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} الغاشية:21+22؛ {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} النحل:125. ولقد أحسنت صنعًا المؤسسة الدينية المصرية أخيرًا، حين أكدت أن مصطلح “الغزوات” مصطلح مسيء إلى الإسلام ورسوله، في بيان رسمي لها، إذ قالت: “إن الإسلام لا غزوات فيه، وهو مسمّى خاطئ”([5]).
العسكرة وآية السيف!!
اعتمد دعاة العسكرة، لنسف المنهج الدعوي السلمي! على (آية السيف)، فنسخوا بها قرابة (125) آية دعوية، وهي الآية التي تقول: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} التوبة:5.
هذه الآية تجعل القتال مفتوحًا ومستدامًا مع غير المسلمين على مرّ العصور، لكن لو أننا تأملنا الآية الرابعة التي تسبق آية السيف من السورة ذاتها، لثبت لنا عدم عموميتها: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}. وتجعل قتال المشركين محصورًا تاريخيًا بـأولئك الذين عاشوا زمن النبوة، ونكثوا عهدهم مع الرسول، ولا تُعطى حكمًا أبديًا! إنما زمكانيًا! وكذلك الآية السادسة التي تلي آية السيف مباشرة من سورة التوبة: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ}.
إذن؛ سياق الآيات لا يقول بحرب مفتوحة شاملة وأبدية مع غير المسلمين! إنما يقول بزمكانيتها، فلا تأخذ الامتداد الزمني حتى عصرنا!! وبالتالي هي تتحدث عن حالة تاريخانية، لا عن حرب مفتوحة على أهل الكتاب دون مبرر إلا لكونهم كتابيين، وهذا يتعارض مع عشرات الآيات القرآنية، تم شطبها بدعوة النسخ بآية السيف.
وهناك خلاف بين دعاة العسكرة ومناصريها أنفسهم، في تخصيص آية السيف بسورة التوبة، فمنهم من قال هي الآية الخامسة التي ذكرناها آنفًا. وآخرون قالوا: هي الآية (29) من السورة نفسها: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}. وفريق ثالث قال: بل هي الآية (36) من السورة ذاتها: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}.
ما سبق يؤكد لنا أنّ الدليل النصّي في العسكرة مختلف عليه فيما بينهم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، يقرؤونها قراءة “عِضينية” منزوعة من سياقها، مستندين إلى بِضعة أحاديث آحاد ضنية، أسست لفقه العسكرة! امتلأت بها كتب التراث، تجعل إعادة بعث الحركات المتطرفة في أي زمان ومكان ممكنًا وبسهولة.
العسكرة المعاصرة
لما ورث بلادَنا استعمارٌ غربي، عادت مفاهيم العسكرة من جديد، لمقاومة المستعمر والحصول على الاستقلال، والدفاع عن الوطن والنفس أمرٌ ممدوح ومطلوب، كما بيّنا آنفًا، لا تقف ضده شرائع السماء ولا قوانيين الأرض، لكن بعد تحقيق الاستقلال، آلت قيادة البلاد إلى أنظمة لم تكن إسلامية، بالمعنى الأيديولوجي، وفشلت في وضع الدولة على عتبات التنمية والتحضر، فلا حلَّ معها عند الإسلامويين إلا بثقافة العسكرة، فبدأت ثقافة التكفير والتخوين.
وحينما كان ردُّ تلك الأنظمة قاسيًا على الإسلامويين، اتخذت ثقافة التكفير والتخوين سلوكًا عسكريًا! فوقع احتراب دموي، وكان السلوك الاستبدادي المتوحش مبررًا للذين يريدون الذهاب باتجاه العسكرة من جديد، فسُفكت دماء الضحايا في سورية والعراق، والجزائر، ومصر، وغيرها! ودخلت البلاد في صراع دموي، ما نزال ندفع ثمنه حتى اليوم.
لقد أصبح الخطاب الإسلاموي لا يتحدث إلا عن قتال المخالفين، ويسوقُ المجتمعَ نحو العسكرة سوقًا، منطلقًا من اعتقاد خاطئ أنّ ما لم يتحقق بالسياسة من الممكن أن يتحقق بالعسكرة! وتم اختزال سيرة رسول الله بـ “غزواته وسراياه”، وارتكبنا خطأً استراتيجيًا في تربية المجتمع، حيث أصبحت خطب الجمعة حديثًا عن العسكرة، وأما شهر رمضان فتناسينا كل قيمه، ولم نعد نتذكر فيه إلا “غزوة بدر” وفتح مكة.
وأسهمت فكرةُ الحاكمية التي ابتدعها أبو الأعلى المودودي، وعَرَّبها سيد قطب وأدلجها، لينبثق منها سلوك عنفي ضد الآخر! لتأتي السلفية الجهادية، فتجعل من العسكرة العمود الفقري لأيديولوجيتها الراديكالية، فحولت الإسلام من فكرة توحيدية إنسانية، إلى أيديولوجيا متطرفة! قسمت العالم إلى فسطاطين! ودعت السلفية الجهادية إلى ثقافة القطيعة حتى مع المسلمين المختلفين مع منهجها، ولم تُقم وزنًا لثقافة المشاركة، وجعلت من المفهوم الخاطئ للولاء والبراء اعتقادًا لها!! واتخذت من العسكرة حلًا وحيدًا، فكفَّرت الجميع كمقدمة للاحتراب معهم!! وأعطت الخارج ذريعة التدخل واستعمار بلادنا من جديد، وأسهم الإعلام الغربي في استغلال انبعاث السلفية الجهادية، لتضخيم ظاهرة الإسلام فوبيا عالميًا، فأصبح الإسلام يوصم بالإرهاب! والمسلمون ينظر إليهم بعين الشك والريبة نتيجة “غزوات” القاعدة في أميركا وأوروبا والخليج.
ثم جاء دور (داعش) لتتابع ثقافة العسكرة والإرهاب في أوروبا، بعد أن نكّلت بالسوريين ذبحًا وتشريدًا، فقامت بنقل معركتها إلى قلب أوروبا، فوقعت “غزوة” باريس 2015، باقتحام مسرح (باتاكلان). ثم واصلت جهادها المزعوم في بلجيكا 2016، حيث وقع تفجيران في مطار بروكسل الدولي، والثالث في محطة مترو(مالبيك) ببروكسل.
الطغاة والمستبدون يستغلون ثقافة العسكرة لقتل الشعوب
ثقافة العسكرة التي تم تأطيرها في قرون الإسلام الأولى، كانت -بحسب رأينا- لأمرين: الأول حتى يكون هناك مبرر شرعي لغزو البلدان الأخرى لأسباب سياسية واقتصادية، وأما المسألة الدعوية، فلم تكن كثيرًا في حساب الأمراء والحكام! فقد كانوا يتضايقون من دخول شعوب البلدان المفتوحة بالإسلام، لأن إيمانهم يوقف إيرادات الجزية. والثاني للتخلص من المعارضة السياسية بدفعها إلى ثغور الجهاد! وذكر لنا التاريخ وقائع عدة تؤكد هذا الأمر.
ولكن ثقافة العسكرة وفتاوى إباحة مقاتلة الخصوم، ارتدت على شعوب المسلمة ذاتها، حيث ذكرت بعض كتب فقه الدين الموازي أنه يجوز للحاكم قَتْل ثلث الشعب! بل نصفه، لـتأديب وإصلاح النصف الآخر! إنْ تمرد على الحاكم! هذه الفتوى المنسوبة إلى الإمام مالك، وإنْ استخدمها بعض الخلفاء المسلمين وحكامهم عبر العصور السالفة ضد المعارضة السياسية في انتفاضات كثيرة تاريخيًا يطول شرحها هنا، عادت تلك الفتوى ليُحييها فقهاء الدين الموازي في الربيع العربي إرضاءً للحكام المستبدين في بعض بلداننا، كالفتاوى التي أطلقها مشايخ النظام السوري! ولكنها كانت واضحة الاستخدام والاستدلال في السودان!! حيث صرّح الفريق حميدتي نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي وقائد قوات الدعم السريع، في لقاء تلفزيوني بأن “الرئيس السابق البشير، خلال آخر اجتماع دار بينه وبين قادته العسكريين، أكد لهم: نحن مالكية، ولدينا فتوى تبيح قتل ثلث المواطنين المحتجين ليعيش البقية بعزة!! وأن المتشددين من المالكية يفتون بقتل 50% من المواطنين” ([6]).
هذه الفتوى ليست بالجديدة على واقعنا العربي، وإنما استُعملت خلال السنوات الفائتة، كمبرر لسفك الدماء، خاصة في ظل أعوام الغليان التي مرَّت بها المنطقة أخيرًا، عبر ثورات الربيع العربي التي أزاحت عروشًا وهزَّت غيرها، لتخرج هذه الفتوى سيئة السمعة، كلّما دعت حاجة أحدهم إلى أن يقتل بعضًا من شعبه. ويقول شيخ الأزهر الأسبق الإمام محمد الخضر حسين، في كتابه «موسوعة الأعمال الكاملة» إن بعض أهل العلم من غير المالكية ادَّعوا على مالك أنه اعتمد على المصالح المرسلة، ليُفتي بجواز قتل ثلث العامة لمصلحة الثلثين. ويضيف أن هذه الفتوى القديمة ظهرت في حياة أحد فقهاء الحنفية، وهو الشيخ علاء الدين الجمالي الذي بلغه أن السلطان سليم أمر بقتل جماعة خالفوا أمره في بيع الحرير، فطالبه بالرجوع عن هذا القرار، ولما سأله السلطان: أما يحلّ قتل ثلث العالم لنظام الباقي! فأجاب الشيخ علاء الدين: نعم، ولكن إذا أدى الحال إلى خلل عظيم. فعفا السلطان عن الجميع ([7]).
من المستفيد من عسكرة الإسلام!
لو بحثنا اليوم بعقلانية عن المستفيد من عسكرة الإسلام، فسيتبين لنا أنهم ثلاثة أصناف: الصنف الأول مسلمون متطرفون جُبِلوا في أخلاقهم على الغلظة والتشدد وكراهية الآخر، لا يمتلكون وعيًا ولا رشادًا، يريدون وضع الآخر أمام طريقين لا ثالث لهما، إما الإسلام وإما الحرب والقتل، مخالفين السنة الإلهية التي أكدها ربنا بالتعدد والاختلاف بقوله: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} هود: 118. وأما الصنف الثاني فيمثله اليمين المتطرف الغربي الذي يرى، في ثقافة العسكرة الإسلامية وسلوكها، مبررًا شرعيًا لوجوده ودعواته ضد المسلمين في الغرب، حتى يبقى الشرق والغرب في حالة صراع، الأديان تغذيها وتشعلها. وأما الصنف الثالث فيمثله الاستبداد الحاكم لدولنا، الذي يجعل من نصوص وفتاوى العسكرة مبررًا شرعيًا له للبطش بكل معارضة له، ولإبادة كل انتفاضة شعبية تريد الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، كما حدث في دول عدة بالربيع العربي، مستندًا في إجرامه وبطشه على فتاوى خرجت من رحم فقه العسكرة!!
أما الإسلام، فكل سلوكات العسكرة وخطابها المتطرف قد أساءت إليه، وجعلته في موضع الاتهام، وقد فشلت العسكرة في حربها مع الآخرين، ومنحتهم ذريعة اتهام الإسلام، والمسلمين بالعنف، والتطرف، والإرهاب.
أخيـرًا:لو أردنا أن نقوِّم ثقافة العسكرة التي انتهت في عصرنا إلى شكل إرهابي، ترفضه رسالات السماء ودعاة الإنسانية، فسنجدها استباحة لحق الحياة الذي منحه الخالق سبحانه وتعالى للبشر كلهم، وانفرادًا بالقرار الإسلامي من خلال فئةٍ تذرعت بمنطق الضرورة، من دون أن تعبأ بأرواح الأبرياء الذين سيذهبون ضحية هذه الفهم اللاإنساني، ولا يقيمون وزنًا لمآل فعلهم هذا، من إساءة إلى الإسلام والمسلمين، فضلًا عن الخراب والدمار الذي أصاب البلدان الإسلامية نتيجة هذه الثقافة المرعبة.
ومن يدعو إلى الجهاد العسكري اليوم لا بد أن يعلم أن الجهاد الحقيقي هو جهاد البحث العلمي، حتى تتحقق من خلاله التنمية ويكون التحضر، وعلى رأس قائمة جهاد اليوم إنشاء جيل على أسس تربوية علمية حديثة، بعد أن فشلت طرائق التربية المنزلية والمدرسية والمسجدية والحزبية! فولدت فشلًا وتخلفًا في جوانب الحياة كلها.
إنّ ثقافة العسكرة، ثم أدلجتها، أدّت إلى التطرف، والتطرّف نتج عنه الإرهاب، والإرهاب توحّش يوصل إلى التفجير والتدمير والعمليات الانتحارية، وكلها إساءات إلى الإسلام! وعندما رغب بعض الصحابة في العسكرة، لأسباب انتقامية ممن آذاهم، رفض القرآن رغبتهم، ونزلت الآية: {كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ} النساء:77.
[1] ـ راجع المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم. فؤاد عبد الباقي. مادة (قَتَلَ) دار الحديث. القاهرة.
[2] ـ راغب السرجاني “هل اتسمت حروب النبي محمد بالدموية” https://bit.ly/2UeUZd1
[3] ـ ابن اسحق: وصفه الإمام مالك بدجال الدجاجلة. وجاء هذا الوصف في الجرح والتعديل. الرازي. ج:١. ص:20. وتهذيب الكمال في أسماء الرجال. المزي: ج: 8. ص: 548. ـ ابن القيم الجوزية: إغاثة اللهفان. (2/691).
[4] ـ معرفة علوم الحديث، الحاكم النيسابوري، الناشر: دار ابن حزم: 1424 – 2003. تحقيق: أحمد بن فارس السلوم. ص:238.
[5] ـ البيان كما نشرته وسائل الإعلام المصرية مطلع شباط/ فبراير. https://bit.ly/36xF8sU
[6] ـ أصل الفتوى منسوب إلى الإمام مالك (جواز قتل ثلث الأمة لإصلاح الثلثين) ولكنه بريء منها، فقد نسبها الجويني إليه، في كتاب البرهان (2/169)، وأبطلها الإمام الغزالي في كتابه “المنخول” ص:45. كما أبطلها المالكية وأنكروها في شرح الموطأ للقاضي ابن العربي (3/932). والإمام القرافي في نفائس الأصول (9/4092). والشيخ الشنقيطي في المصالح المرسلة. ص:10. ومذكرة أصول الفقه (1/203). وهذه الفتوى مخالفة لمقاصد القرآن وآياته.
[7] ـ أحمد متاريك «اقتلوا المتظاهرين»: فتوى مالك التي يحبها الطغاة. مقال على موقع إضاءات. https://bit.ly/3sjmfUy