يأمل كلّ السوريين أن تنتهي دوامة القتل والتهجير التي أنهكتهم. السيناريوهات المطروحة هي التوصل إلى هيئة حكم انتقالية وانتخابات ودستور بإشراف أممي، غير أن الأمور ما زالت متعثرة، ولم تتمكن الأمم المتحدة من الضغط على نظام الأسد، بسبب الدعم الروسي، وعدم جدية الولايات المتحدة وأوروبا في التعامل مع الملف السوري. مثل هذا الانسداد فتَح الباب لحلول ترقيعيه ومناورات في المصطلحات لا تعالج جوهر المشكلة، حيث يطفو على السطح، بين الحين والآخر، مصطلحات من قبيل: إعادة الاعمار، لجنة التحقيق بالكيمياوي، إدخال المساعدات، لجنة التحقيق بجرائم الحرب في سورية، وأخيرًا ظهر ما يسمّى بـ “العدالة التعويضية” أو “العدالة التصالحية”، والمصطلح الأخير “تراجع” عنه غير بيدرسون، تحت ضغط الانتقادات التي وجهها إليه عدد كبير من السوريين.
نريد في هذا المقال أن نبيّن من الذي لا يريد أن يصالح؟ ومن الذي لن يقدّم أي تنازل للتوصل إلى حلول للوضع السوري المأسوي؟ من الذي يعتقد أن الصلح الحقيقي سيُنهيه إلى الأبد؟ (الشعار المحبب إلى قلب حافظ الأسد) هل هو النظام الأسدي أم السوريون المطالِبون بحريتهم وحقوقهم؟
طوال خمسين سنة من حكم آل الأسد لسورية، لم نسمع يومًا أنهم صالحوا أو تسامحوا أو تفاهموا مع أي طرف سوري اختلفوا معه. المبادئ التي حكمت فترة حكمهم هي أنهم يجب أن يحكموا إلى يوم القيامة (الأبد)، وأن كل ما هو على الأرص السورية وتحتها، من بشر وحجر، هو ملك لأيمانهم. إنها غريزة البقاء للأقوى والأكثر إجرامًا وقتلًا. غير أن الغرائز -بحسب علماء البيولوجيا- لا تفكّر، إنما تسير على رتم واحد حتى موت الحيوان. حاول أرسطو تمييز الإنسان عن باقي الحيوانات بالعقل والنطق، الإنسان مختلف لأنه يفكر ويتدبر حياته، ولذلك يمكن أن نختصره بحيوان سياسي.
النظام الأسدي غريزي. حتى عندما يفكّر فإنه يفكر بطريقة غريزية، كأن يرتكب جرائم ليس بحاجة إلى ارتكابها، إنما يرتكبها لكي يخيف السوريين. ينهب أموالًا ومقدرات أكثر بآلاف المرات من حاجته، لأن إفقار السوريين يسهّل سيطرته عليهم. في بداية الثمانينيات دمّر مدينة حماة، ولم يكن مضطرًا إلى ذلك، سجن سوريين 10 سنوات، لأن المحقق كان مستعجلًا لكي يُحضر بعض الحاجات لزوجته. بعد الثورة ضرب السوريين بالكيمياوي، وهو غير مضطر إلى ذلك، قتل آلاف المعتقلين تحت التعذيب، لأنهم شاركوا في تظاهرة. يريد أن يقدّم نفسه للسوريين على أنه لا يفكر ولا يريد أن يفكر، وأنه مكتف بغريزة الأبد، والبقاء للأكثر إجرامًا.
يعتقد النظام الأسدي أن التفكير ضعفٌ، وقد تنازل عن الصورة الغريزية التي كوّنها عن نفسه في عشرات السنوات. لا يريد أن يطمع السوريون به، ولذلك لن يعترف بهم ولا بمصالحهم ولا حتى بوجودهم كبشر، ولن يصالح. الطريق الوحيد المفتوح أمام السوريين هو الاستسلام وبدون أي شروط ولا كرامة. كل شيء مباح ومسموح، إذا كان آل الأسد يريدونه!
التصالح يتضمن الاعتراف بالآخر. غير أن السوريين ليسوا موجودين أصلًا، بالنسبة لآل الأسد، لأنه انتصر عليهم في الثمانينيات وبعد الثورة.. قتل مئات الألوف وهجّر الملايين منهم ودمّر مدنهم.. قتلهم بدم بارد في سجونه، وهو قادر على قتل مئات الألوف بكل بساطة؛ فلماذا يعترف بهم أو يصالحهم أو يتفاهم معهم، أو حتى يفكر فيهم، وهو الذي لا يريد أن يفكر في السياسة!!
الذين عاشوا، أو يعيشون الآن، في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، يعرفون كيف تسير الأمور. تأتي الطائرة وتقصف أي بناء، كيفما اتفق، بحسب زاوية سير الطائرة، الطيار لا يعرف بالضبط ماذا يقصف، المهم أن يقتل أكبر عدد من الناس ويدمّر أكبر عدد من الأبنية. الطيّار يقتل لإخافة السوريين وتخفيض مستوى توقعاتهم وجعلهم يشعرون بالندم على تفكيرهم! السوريون المفضلون عند النظام هم كائنات غريزية تقبل بكل ما يقدّم لها، وتهرب من كل ما يسبب لها الخطر.
بالمقابل، يفكر النظام بكل الاحتمالات الدولية الممكنة، ويتكيف مع كل رؤساء أميركا وحكومات إسرائيل ومزاجية بوتين. يفتح خطوطًا مع أسوخ يساريي العالم وأكثر اليمينيين تطرفًا. يتحالف مع الإخوان المسلمين في فلسطين، ولكنه يقتل إخوان سورية بكل ما أوتي من قوة، يتحالف مع حزب العمال الكردستاني الكردي، وبالمقابل يملأ سجونه بالسوريين الكرد، ويسلّم أوجلان إلى تركيا. يتحالف مع روسيا حتى العظم، ولكنه يُغيّب في السجون كل من يذهب إلى موسكو بدون إذنه. في الثمانينيات تحالف مع الاتحاد السوفيتي ولكنه سجن شيوعيي سورية خمسة عشر عامًا. يحارب بسلاح سوفيتي، ولكنه يوقع اتفاقات مع كيسنجر. في لبنان تحالف مع الجميع، ولكنه قتل الجميع. يرفع شعار العلمانية، ولكنه مستمر في الحكم بفضل الميليشيات الطائفية. لم يظهر أي جدية في استرجاع الجولان، فأثار شهية إسرائيل بضمه عام 1984، وكانت على استعداد أن تعيد الجولان في إطار تسوية سياسية شاملة. النظام الأسدي لم يكن يريد يومًا تسوية شاملة، المزاودة بالجولان وفلسطين وسيلته المفضلة في حكم السوريين، فلماذا يخسرهما؟
قَبِل في عام 1967 بوقف إطلاق النار مع إسرائيل، وأعلن الانسحاب من القنيطرة قبل ثلاث ساعات من سقوطها، بحسب مجلة التايم. وفاوض كيسنجر 1973 وقبل بوساطته لوقف الحرب، وفي كانون الثاني/ يناير 1976 أقنع الرئيس الأميركي جيرالد فورد بأن يتدخل الجيش السوري في لبنان. وفي 1991 فاوض اليمين الإسرائيلي وزعيمه إسحاق شامير في مدريد، في إطار مؤتمر السلام آنذاك. في 1999 وقع اتفاقًا مع تركيا طرد بموجبة عبد الله أوجلان من سورية، وقَبِل بأن تدخل القوات التركية داخل سورية 5 كم من دون إذن السوريين.
آل الأسد يفاوضون ويصالحون ويتفاهمون مع كل الأطراف إلا السوريين (إضافة إلى اللبنانيين والفلسطينيين)، فهم موضوع قتل ونهب. شعارهم أنا لا أفكر إذًا أنا موجود، لأن السوريين بالنسبة إليهم هم “السلب” بحسب هيجل؛ وهم “الجحيم” بحسب سارتر؛ وهم هابيل بالنسبة إلى قابيل.