مع واقعة الانقلاب التونسي الأخير، أصبح كل معنيّ بأحداث الربيع العربي ومساراته المعطلة أو المهدورة، أمام صدمةٍ ربما ليست متوقعة إلى هذا الحدّ. فقد كان هناك قدرٌ من التفاؤل المنطقي في مصير ربيع تونس، وما تطور إليه من تفاصيل لا يمكن التقليل من أهميتها على الإطلاق، وبخاصة تلك المرحلة التي كان فيها منصف المرزوقي رئيسًا لتونس. بل إن استلام المرزوقي للرئاسة كان حدثًا تاريخيًا جللًا بلا ريب، مهما شكّك في ذلك المشككون. وبقدر ما كان ذلك تطورًا إيجابيًا حاملًا لكثير من الدلالات، كان الانقلاب مخيّبًا للآمال.
أولًا، ليس ربيع تونس ومآله المحبط الأخير شأنًا تونسيًّا، حتى يتحسس كثيرون من (التدخل) فيه. فمنذ البداية كانت ساعة الربيع التونسي واقعة عربية، بل عالمية، نظرًا لما ترتب عليها من تغيّرات كبرى في المنطقة وفي علاقتها مع الدول الأخرى ومع أسواق السياسة والاقتصاد. بل إن تونس كانت دائمًا تمتلك المعنى الثقافي والمعرفي للمثقف العربي والناقد والمفكر. وكانت دائمًا محطّ اهتمام وحفاوة لدى نخب المثقفين، لما تشكله تونس من تراكم في تجارب التحديث ومأسسة الدولة، على الرغم مما مرت به هذه المأسسة من مخاضات عسيرة وصراعات بين أقطاب المجتمع التونسي، إضافة إلى الديناميكية الفلسفية التي تشتهر بها (منصّة تونس)، إذا جاز القول.
لهذا، فإن منصف المرزوقي جاء في هذا السياق التونسي المميز، الذي تحضر فيه علاقات حدث الربيع بمحيطه العربيّ. ولا نبالغ حين نقول، معتمدين على ما أمامنا من وقائع ماثلة للعيان، إن المرزوقي هو الرئيس العربي الأول القادم من حقل الفكر والثقافة مباشرة، وليس ادّعاءً ومباهاةً، كما كان يفعل بعض دمى السياسة العربية حين يتسلقون على كتف الثقافة والأدب كإجراءات مكمّلة للضرورة الدكتاتورية، لتظهر الصورة كوميديا فاقعة لكنها محزنة. وأن يكون رئيس عربي كاتبًا مفكرًا مثقفًا فهذه لا يمكن أن تمرّ على التجربة السياسية العربية مرور الكرام، أو ينبغي ألا تمرّ هكذا.
عددٌ من الرؤساء العرب وحاشيتهم من بعض المسؤولين، خاصة أصحاب النظريات القومية والعروبية، كانوا يشعرون بعقدة نقص تجاه صنّاع الأدب والفكرِ، وقد تمّ تعويض هذا النقص بما توهّموه من ممارسات بهلوانية للكتابة والتأليف والنشر. والمضحك أنه لم يفطن هؤلاء الرؤساء للكتابة والتشبّه بالمفكرين إلا وهم على عرش السلطة وفي أوج تسلّطهم ووحدانيّة حكمهم. ولا تخفى على أحد تلك المؤلفات التي كان يحبّرها لهم بعضٌ من مثقفي البلاط والعبودية، مقابل حفنة من الامتيازات.
ولكن كيف هو الحال مع منصف المرزوقي؟ إذا وضعنا مؤلفاته الطبية حسب تخصّصه جانبًا، فسوف نعثر على الأقلّ على عشرة كتب فكرية وسياسية، طرح فيها رؤيته للقضايا الثقافية والسياسية المرتبطة بواقع المثقف العربي وحال الديمقراطيات وحقوق الإنسان وسواها، وكلها مؤلفات وضعت قبل تسلّمه للرئاسة (وقائمة مؤلفاته استمرت وتوسعت فيما بعد طبعًا). وهي كتبٌ تؤكد على انشغال عميق وبنيويّ بمسائل كبرى، في عالم الفكر وفلسفة السياسة والحقوق والمواطنة، مستفيدًا من خوضه لغمار السجال السياسي والحزبيّ من جهة، ومن الجهة الثانية واضعًا ذلك في أطرٍ تاريخية وفلسفية تشير إلى مدى اطلاعه على تجارب الحكم والحقوق في مختلف دول العالم الحديث، هادفًا من ذلك إلى صياغة رؤية أو مشروعٍ سياسيّ مثقّفٍ متكامل الأركان.
لم يكن المرزوقي في رؤيته تلك منبهرًا مصدومًا بتجارب الغرب في الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهو غير منخدعٍ بكل ما يطفو على السطح، بل يذهب في تفكيك الظواهر وانتقادها واتخاذ موقف متوازن منها، ولم يكن -كما يشيع عنه أصحاب الانقلاب- تابعًا للغرب متعاونًا معه على بلاده! فهو يقرأ مفهوم الديمقراطية حسب سياقه الجيوسياسي، ناظرًا إليه في تبايناته وتعقيداته سواء في الغرب أو في المنطقة العربية ومنها تونس. بل إنه يوجّه أشدّ الانتقادات إلى نموذج الديمقراطية الغربي كما يراد أن يصدّر إلينا. أي أنه، بالرغم من انحيازه إلى خيار الديمقراطية بالكامل، لا يتعامل معه على أنه معطى ميتافيزيقيّ متعالٍ عن شروط البشر واختلاف ظروفهم وتجاربهم وتقاليدهم. وقد أتاحت له سنوات الرئاسة أن يمارس ذلك المفهوم الواقعي للديمقراطية بأنصع أشكالها، بل بطريقةٍ تشكل إحراجًا لمنظومات السياسة العربية الدكتاتورية. في حين لم نسمع كلمة الديمقراطية مرة واحدة من رئيس الانقلاب! بل لقد ذهب هذا الأخير بكل فجاجة إلى استعادة كل ما من شأنه الإساءة إلى تجربة المرزوقي وتشويهها واختلاق الاتهامات القاتلة، ولا سيما تهمة الخيانة! ولا يحتاج المرء إلى البحث والدراسة مطولًا ليدرك الفروق الجوهرية بين التجربتين، بل يكفيه إلقاء نظرة سريعة على سلوك هذا وسلوك ذاك، ليرى بوضوح أين يكمن الاستبداد وأين تكمن الديمقراطية.
كان من أشكال الأداء الديمقراطي للمرزوقي أنه أراد إشراك التوانسة جميعهم في السياسة، وهو أمرٌ ليس غريبًا على تاريخ تونس في كل حال، لكنه أراد التأكيد على ضرورة توسيع المشاركة لتشمل حتى المختلفين معه في الموقف الفكريّ والنظريّ. فهو أراد البرهنة على أن الرئيس هو رئيس الجميع، وليس رئيسًا لمن يتفقون معه فقط. فهو يدعو في كتاباته إلى أن الاستبداد هو مرضٌ أساسيّ في حياتنا، فكيف يستبعد شرائح واسعة من المجتمع عن ميدان السياسة والمشاركة؟
النظام السياسي العربي لا يتحمّل رئيسًا مثل منصف المرزوقي يكسرُ الصورة النمطية الكئيبة لمفهوم (الرئيس). لا يتحمّل رئيسًا لا يزجّ بالصحافيين الذين ينتقدونه في السجن، لا يتحمل رئيسًا يُدخل الأطفالَ كل أسبوع إلى قصر الرئاسة ليتعرفوا من خلال القصر على معالم تاريخ بلادهم. لا يتحمل رئيسًا يصطحب في زياراته الرسمية شبابًا ليؤكد للجميع على حضور الشباب في أعلى محافل النشاط السياسي الرئاسي. النظام السياسيّ العربيّ يشعر باضطراب التوازن مع مثل هذه التصرفات التي لم يفهمها ويقدر أهميتها حتى بعض شرائح من المواطنين، مع الأسف. ولا ندري إذا كان عدم رضى بعض (الجمهور) عما فعله الرئيس المرزوقي من كسر لكاريزما الرئاسة وسطوتها، ظاهرة تحتاج إلى دراسة سوسيولوجية لفهم مدى استجابة الجماهير للتحرر من تلك الكاريزما وما تمثله من علامة البطش والكآبة التي استعادها فيما بعد قيس الانقلابيّ! ألا يدعو للغرابة إصرار قيس على استرجاع كل مظاهر العسكرة والشكليات النمطية لشخص (الرئيس)، وكأنه شعر بأن شرعيته ستكون مهتزة في حال ظلت الصورة (المرزوقية) للرئاسة هي الصورة الممكن تكريسها؟
قدّم المرزوقي تجربة لا سابق لها في تجارب الحكم الجمهوري في المنطقة العربية. إنها تجربة مطلوبة، عربيًا وإسلاميًا، كونها التعبير الأمثل عن طموح المجتمعات لنظام رئاسيّ ديمقراطيّ حقًا يشبه حركة الناس وملامحهم في بيوتهم وأسواقهم وصمتهم وضجيجهم، من دون أن يكون ذلك تمثيلًا ممسرحًا. تجربة امتزج فيها دور المثقف المفكر مع دور السياسيّ المسؤول مع دور المواطن الطبيب… لكأن المرزوقي بذلك ترك أمثولةً في تعريف المثقف الرئيس تعريفًا حيويًا غير منبثق من نظريات زائفة ولا احتياجات أمنية أو بروتوكولية. وبكل تأكيد فإنّ هذا لم يكن تقليدًا سياسيًا عربيًّا، إذ لا يلتفت النظام العربي السياسي إلى البعد الفكري والمعرفي لدى شخص الرئيس! كأن هذه الصفة سبّة أو عارٌ أو هي من سقط المتاع.
حوّل المرزوقي (الرئاسة) إلى عمل تشاركيّ تفاعليّ حقيقي مع أكثر قطاعات المجتمع باعتباره مجتمع مواطنين لا مجتمع منفّذين لأوامر ومتلقّين لتعليمات قسرية. وكان يهدف إلى تحرير الكائن من شعور الإهانة الذي يسحقه ويشرخ له شخصيته، منطلقًا في هذا من أرضية علميّة واضحة ومعرفة تفصيلية بواقع البلاد التونسية، فهو على صلة جذريّة بالسياسة وأحوالها منذ شبابه الأول، ولم يأت إلى أعلى ذروة في النظام من شهوة السلطة أو من مشروع انقلابيّ، بل كان مجيئه حلًا لأزمة النظام السياسي العربيّ، كون هذا النظام يدور حول كاريزما السلطة والبطش وما ينتج عنها من قهرٍ وإذلال للمواطنِ. إن هذا القهر والإذلال عاناهما المرزوقي نفسه، حين وعى صعوبة أن يتخذ خيار المواطنية من أول تجاربه السياسية، حتى ممارسته لذلك رئيسًا.
لأول مرة يرى المواطنُ أن رئيسه مواطن مثله، من غير بهرجات إعلامية ولا زخرفات لزوم الدعاية الأمنية لشخص الرئيس، كما اعتدنا على ذلك في سورية مثلًا. حيث يتم تصنيع جولات وزيارات تتخذ طابعًا تمثيليًا مضحكًا لتتم البرهنة على (شعبية) الرئيس الأسد، وعلى أنه يأكل الشاورما ويزور الناس في بيوتهم ويجلس معهم على الأرض. هذه كلها صنائعُ كاذبة تثبتُ الخواء الأخلاقي الغارق فيه ذاك الرئيس ومكانته المستعارة.
لقد كان من الطبيعي جدّا وقوف المرزوقي مع حلم السوريين المشروع في تغيير حياتهم السياسية، ونيل حرياتهم، كان ذلك انسجامًا تامًّا مع (مشروعه) الفكريّ ومعاييره الأخلاقية التي قامت عليها تجربته الرئاسية، إذ لا يُنتظر منه إلا الوقوف ضد الاستبداد من أي جهة كان مصدره. وسوف يذكر كل ذي بصيرة متوازنة موقف المرزوقي من مأساة السوريين بكل احترام وامتنان.
لأوّل مرة، يصبح الرئيس مواطنًا، والمواطن رئيسًا، هذه هي خلاصة تجربة حكم المرزوقي. وهذا جزءٌ مما كان يسعى إليه السوريون، أن ينتخبوا رئيسًا انتخابًا فعليًّا، ليكون شبيههم وصورة عن حياتهم، لا صورة مزوّرة.
نعم.. مثقف عضوي بارز، وبنية أخلاقية متميًزة ونادرة تُرفع لها القبعة.. لكن هل يكفي ذلك ليكون سياسيا بارعا قادرا على مراقصة الأفاعي وتجنب الضباع التي يمور بها الحقل السياسي العربي؟