يبدو أننا في الطريق إلى المرحلة التي لطالما تنبّأنا بها، بعد نضج “الفوضى الخلاقة”، وهي تذهب نحو رسم نظام عربي/ إقليمي جديد، تسارعت وتيرة تشكيله في الأشهر الأخيرة، عبر خطوتين ما كانتا متوقعتين:
أولاهما تبادل الاعتراف بين إسرائيل ودول عربية خليجية، وقد قُدّمت للرأي العام العربي والدولي كخطوة يقوم بها أتباع الدين الإبراهيمي الواحد لإقرار السلام بين بلدانهم، التي لم يسبق لها أن خاضت حروبًا أو شنّت عمليات حربية بين بعضها، وسرعان ما تبيّن أن خطوتها تتجاوز ما يُقام من علاقات بين دول متعادية/ متحاربة، لكن تبادل الاعتراف وتأسيس علاقات جديدة بينها، لا يُلزمها، على الرغم من أهميتها لإنهاء حالة الحرب ومسبّباتها، بما قامت به دول الخليج وإسرائيل من تقارب في سائر المجالات ليس من مستلزمات السلام، بالنظر إلى المسافة الجغرافية الواسعة التي تفصل المتسالمين، وعدم وجود سوابق حربية بينها، فلا عجب أن أدهشت متابعيها “الفورية” التي تخطت عبرها، خلال أيام قليلة، جميع أنواع الصلات الودّية، التي تقوم عادة بين دول صديقة، في حين يخبرنا التاريخ عن دول كانت متعادية/ متحاربة، أنها حين قررت تبادل الاعتراف لم تتجاوز علاقاتها التبادل الدبلوماسي، إلى إقامة مجالات اقتصادية، وأنشطة ثقافية وإعلامية/ فنية مشتركة، وخطط تعاون عسكري بين جيوش البلدان المعنية، بقي بعدها الجانب التنفيذي سريًّا، وإن تبيّن أنها نصّت على إجراء تدريبات عسكرية تشارك مختلف صنوف القوات فيها، فضلًا عن الاتفاق على قيام مناطق حرّة، يستثمرها الطرفان في مرافئ المتوسط الإسرائيلية والخليج العربية، وعن حفلات التغني المتبادل بالسلام، بالعربية والعبرية، وبإنكار هوية فلسطين العربية، وقول بعض الألسنة المستسلمة إن فلسطين هي إسرائيل، ولم يسبق لها أن وُجدت. بيد أن بعض الرسميين قالوا إن ما تم هو خدمة لفلسطين، وضد إسرائيل، والدليل أنها تتوقف عن ممارسة حقها في استيطان وضمّ الأراضي الفلسطينية. وقد صمت هؤلاء، حين أعلن نتنياهو، بعد أيام قليلة لم يكن حبر الاتفاقات قد جف خلالها، أن برامج الاستيطان مستمرة، وأنه وافق على إعطاء ترخيص ببناء ثمانية آلاف وحدة استيطانية في أراضي الدولة الفلسطينية، التي قيل إن الاعتراف كان مقابل التزام إسرائيلي بوقف التمدد الاستيطاني السرطاني فيها.
هذه “الخطوة السلمية” غيّرت البيئة الإستراتيجية للمنطقة العربية برمّتها، وللصراع الإسرائيلي ضدّ العرب بصورة خاصة (لم أعتقد يومًا أن هناك صراعًا عربيًا ضد إسرائيل!)، ومثلت الخطوة الأولى نحو النظام العربي/ الإقليمي الجديد الذي قررت واشنطن إقامته، في إشارة إلى نجاح المرحلة الأولى من الفوضى الخلاقة التي أنيط بها تدمير المشرق، وحققته بامتياز، بيد حكامه بالدرجة الأولى، وخاصة الأسديين منهم في دمشق!
والخطوة الثاني هي ضمّ إسرائيل إلى القيادة المركزية الأميركية، في قرار يجمع إسرائيل ومن اعترفوا بها من العربان إلى القيادة المسؤولة عن ضمان سيطرة واشنطن الإستراتيجية على الشرق الأوسط، بما تحت تصرّفها من وسائط حربية، وتشكيل قوة مشتركة من جيوشها، لا أستبعد أن تندمج قريبًا في كيان موحد يشمل دولًا عربية غير خليجية، بهذه الصيغ أو تلك، على أن تقوده إسرائيل بصفتها الجهة الأكثر تقدمًا، على الصعيدين التقني والعسكري، وتضاف إليه قدرات مهمة نسبيًا تمتلكها دول الخليج، التي سبق لواشنطن أن دربتها وأهّلتها لمهمتها، كجزء من قوة عابرة للدول، قالت سيناريوهات وضعها مسؤولون وخبراء أميركيون إنها لن تتمحور حول الدول الراهنة، بما لها من حدود وسيادة ومصالح، بل ستؤسس مصالح مشتركة تخترق الدول القائمة، وتبدّل هويتها ووظائفها، في ما يتخطى حدودها، التي لن تلعب بعد ذلك الدور التقليدي المعروف لحدود الدول، وإنما ستتعين وظيفتها انطلاقًا من المشتركات الاقتصادية والسياسية والإعلامية، التي يتخلق بعدها العسكري بقرار واشنطن حول ضم إسرائيل إلى العرب، في إطار المنطقة المركزية، عبر قفزة أخرى مفاجئة، سيعاد بواسطتها إنتاج واقع سياسي/ عسكري، إستراتيجي سيحمي النظام الجديد، بقوة ردع أميركية/ إسرائيلية/ عربية موحدة قياديًا، متشابكة ميدانيًا، لن ننتظر طويلًا ريثما توحّد أصعدتها الأخرى، كما يقول لنا تسارع خطوات إقامتها، على الصعيدين الإسرائيلي/ الخليجي، والقيادة المركزية كقوة ردع واحتواء لكلّ من تسوّل له نفسه رفض النظام الجديد، أو تهديد مكوناته، أو تذكر أن هناك دولة عربية محتلة اسمها فلسطين.
هاتان الخطوتان سيكملهما ما يتطلبه النظام الجديد من مأسسة، ليكون بديلًا للنظام العربي الحالي، نظام الجامعة العربية، الذي أصابه الشلل وقوّض وظائفه، كما تحددت بعد قيامه في أعقاب الحرب العالمية الثانية واستقلال البلدان العربية، وليكون قوة ردع لإيران، توفّق، وأخشى أن أقول توحّد، لأول مرة بعد عام 1948 وقيام إسرائيل في قلب الوطن العربي، نظمه معها، لتوجه نحو إيران قوة تتجاوز كل ما يمكنها امتلاكه من قوة، وتضعها أمام أحد بديلين: الانضمام إلى النظام الجديد بشروط واشنطن وتلّ أبيب، مقابل المحافظة على نظامها ووضع قدراتها في خدمة الواقع العربي/ الإقليمي الجديد، أو مواجهة حرب تُخرجها من المشرق العربي، واليمن، وتطيح بملاليها.
سيُقنع بايدن إيران بالانضمام إلى الشرق الأوسط، ولا أظنني واهمًا أو مخطئًا، إن قلتُ إن هذه ستكون مهمة إدارته الرئيسة، بالتخويف بالقوة أو بالإقناع بالمصالح!