أثارت أزمة فيروس كورونا مسألة الحريات الإنسانية من جديد، وراوحت الآراء بين قائل بأن العملية برمّتها هي مؤامرة تستهدف الحجر على الناس من قبل السلطات الحاكمة، لإعادة إخضاعهم لسلطة الدولة والاستمرار في حكمهم، وبأن مسألة الحريات مجرد وهم في نهاية المطاف، وقائل بأن الأمر لا يعدو كونه مجرد إجراءات احترازية ضرورية، ومن واجب الدول والحكومات اتخاذها للحد من انتشار الوباء والسيطرة عليه.
يقع الرأي الأول في خانة التفكير المؤامراتي، وهو تفكير أيديولوجي فوقي يفتقد القدرة على تحمل المسؤولية، ولا يلحظ فرقًا بين الأنظمة الحاكمة، ويضعها في سلة واحدة، ويتهمها بالتآمر على شعوبها، في حين يذهب الرأي الثاني إلى اعتبار ما قامت به الحكومات، على اختلافها، مجرد إجراءات احترازية وضرورية لمواجهة وباء لا يفرّق بين شخص وآخر ولا بين مواطن من هذه الدولة أو تلك، لكن هذا الرأي يقلل من ميل السلطة، أي سلطة، إلى التمادي في تسلطها، إن لم يدافع الشعب عن حقوقه وحرياته، بالطرق التي يكفلها القانون.
على العموم، لا يترك حاملو الفكر العقائدي، الذي هو استبدادي بحكم الضرورة والمآل، فرصةً إلا ينتهزونها للدعاية للاستبداد والحديث عن قَدريته، وبأن الفروق بين الأنظمة الحاكمة ضئيلة وغير أساسية. صحيح أن الدولة جهاز إكراه، لكن ثمة طيف واسع من درجات الإكراه، تراوح بين حظر حرية التعبير عن الرأي في أنظمة الاستبداد، وإفساح المجال لحرية الرأي وسن القوانين التي تحميها وتصونها، من ضمن سلة الحقوق الفردية التي أقرتها شرعة حقوق الإنسان.
ومع ذلك، يمكن القول إن أزمة فيروس كورونا كانت كاشفة ومحذّرة على العديد من المستويات، وأنها كشفت ترهّل الأنظمة السياسية الديمقراطية وعدم جاهزيتها للتعامل بفاعلية مع الأزمات الطارئة. ولا يعني ذلك أن الأنظمة المستبدة أفضل حالًا، حتى لو كانت “وطنية”، كالصين، لكنها بدت أكثر قدرة على ضبط المجتمع، نظرًا لهوسها الأمني واستخدامها وسائل عنفية لا تكترث لحقوق الإنسان، في حين تتقيّد إجراءات الحكومات الديمقراطية بكثير من الضوابط القانونية، وتعتمد على وعي الناس بالمرتبة الأولى، فضلًا على أجواء المكاشفة والشفافية التي توفرها حرية وسائل الإعلام على اختلافها.
لكن هذا التصنيف ليس قطعيًا، وهو يتوقف أيضًا على درجة وعي الناس أنفسهم، وباستقلالية نسبية عن طبيعة الأنظمة التي تحكمهم، ورأينا كيف تفاوتت إجراءات الحجر والعقوبات المرتبطة بها، بين دولة ديمقراطية وأخرى، فكانت أكثر مرونة في السويد وبريطانيا، مقارنةً بفرنسا وإيطاليا، على سبيل المثال لا الحصر. الفرق الجوهري هنا هو أن الالتزام بإجراءات الحجر المشروط في الأنظمة الديمقراطية يرتبط بوعي الناس وقدرتهم على الاحتجاج، لا بتطبيق القوانين الصارمة فحسب، وقد رأينا كيف تصاعدت الاحتجاجات أخيرًا في بلدان أوروبا، وفي الولايات المتحدة، وفي لبنان أيضًا، إنها مسألة الحرية والحقوق التي ناضلت الشعوب من أجلها طويلًا ودفعت ثمنها غاليًا، وهي غير مستعدة للتنازل عنها ببساطة. في المقابل، ينتظر مواطنو الدول التي تحكمها أنظمة دكتاتورية أن تُفرج الحكومات عنهم، فهي التي تقدر ذلك، سواء نجحت في تقديرها أم لم تنجح.
وعلى مستوى السياسات الخارجية المرتبطة بمسألة كورونا، وجهت العديد من الدول الغربية، ومنها الولايات المتحدة، الاتهامات إلى الصين، وحملتها المسؤولية عن إخفاء معلومات تتعلق بطريقة نشوء هذا الفيروس، والتأخر في نقل المعلومات ومشاركتها، ما ينذر بنشوء أزمة سياسية حادة بعد مرور هذه الجائحة، قد لا تقتصر على تطبيق عقوبات غربية على الصين، إذا ثبتت الاتهامات الموجهة ضدها.
الأمر شبه المؤكد أيضًا هو إعادة النظر في طبيعة العلاقة الدولية، والعمل على إعادة ترتيبها بما يمهّد لتعاون أفضل في المستقبل للتصدي للأزمات والكوارث على اختلافها، ويشمل ذلك التنسيقَ في ما يتعلق بالأنشطة العلمية التي قد يبلغ أثرها دولًا ومناطق مختلفة، وعدم السماح للصراعات المحلية والإقليمية بأن تُحدث اضطرابًا على المستوى الدولي. في هذا الخصوص، لا نتفق مع الرأي القائل بأن من نتائج أزمة كورونا إعادة النظر في العولمة، والميل إلى التقوقع الوطني وتفكك الكيانات الكبيرة، كالاتحاد الأوروبي، فقد ترسخت هذه التطورات كإنجازات بشرية مهمة ومحطات ثابتة على طريق تطور العلاقات بين الدول وتنظيمها.
لكن أي جهد باتجاه رفع مستوى وتنظيم العلاقات الدولية يحتاج إلى قادة تاريخيين، على مستوى التحديات التي فرضتها هذه الجائحة، يأخذون على عاتقهم تحديث المؤسسات الدولية وإعادة هيكلتها، بحيث تكون قادرة على التدخل بفاعلية في مختلف الأزمات المستجدة، ومن أهم هذه المؤسسات هيئة الأمم المتحدة وفروعها، التي تضاءل دورها إلى حد بعيد، بسبب الطريقة التي تُدار بها الأزمات الدولية من قبل مجلس الأمن، الذي تسيطر عليه خمس دول، من خلال استخدامها لحق “الفيتو”، وتعطيلها لكثير من فرص التعاون، كما حدث في المسألة السورية، حيث عطلت روسيا أكثر من عشر قرارات دولية، من خلال استخدامها لهذا الحق.
في ضوء ما سبق؛ يمكن توقع حدوث بعض الانفراج في المسألة السورية، لجهة تسريع الانتقال السياسي الذي طال انتظاره، من خلال مفاوضات تجريها الدول الفاعلة وذات النفوذ في سورية، حتى لا تتحول الاحتكاكات بينها إلى صدامات غير محسوبة. ويشكل ذلك خطوة لا بد منها على طريق استنهاض القوى الوطنية السورية للتأسيس للدولة الديمقراطية المنشودة.