المحتويات

مقدمة تاريخية

سورية

سورية الثورة 

1- العلمانية

2- الديمقراطية

3- الليبرالية

 

 

 

مقدمة تاريخية

إذا كان النموذج الإمبراطوري للدولة، ذلك النظام غير الحدودي التوسعي، الذي يتيح للحاكم المساحة الأكبر من السلطات التي تصل إلى النطق باسم الله، وتبقي للشعوب مساحة ضيقة من الحقوق. انتهى هذا النظام نتيجة نشوب الحرب العالمية الأولى، وأدى إلى ظهور نظام آخر للدولة، وهو النموذج الحدودي الذي يحتاج إلى مرجعية وأطر فكرية تُبنى عليه، فكانت الدولة القومية التي أجبر فيها الحاكم على التنازل عن جزءٍ من سلطاته لمصلحة الأمة وليس لمصلحة الشعب، ليصبح الحاكم منتدبًا ومنَّفذًا لما يسمى مصلحة الأمة، ورتب هذا النموذج من الدولة مزيدًا من الواجبات على الشعوب، لا لمصلحة الحاكم بل لمصلحة الأمة، وجعلت الدولة القومية لسلطان العرق والدم مكانًا، واستمد الحاكم شرعيته من الدم والعرق بدلًا من أن يستمدها من الله والدين، لكن هذا النظام سقط في العالم سريعًا فلم تنجح النازية بنظرية العرق الآري، وسقطت الفاشية في إيطاليا، كذلك الأمر في البلاد الناطقة باللغة العربية، فقد خرجت القومية العربية من نكبة الـ 48 لتقع في نكسة الـ 67 وما زالت نكباتها ونكساتها مستمرة. لذا سرعان ما ظهرت المرجعية الوطنية في الدولة الحدودية وقد ثبت هذا النموذج منذ فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ حيث تنازل به الحاكم عن جزء من سلطاته، وهذه المرة لمصلحة الشعب الذي يسكن المنطقة الجغرافية المحدودة بحدود الدولة، وقد استمرت الدولة الوطنية بتطورها عبر مزيدٍ من الحرية للشعوب وسلطات أقلّ للحكام.

 

سورية

دخلت سورية إلى منظومة الدولة عنوة عبر سايكس بيكو، وفرض عليها الانتداب الفرنسي نوعية محددة من طرائق الحكم، وعمد الانتداب إلى فرض وجهة نظره في إنشاء مؤسسات الدولة وتقسيماتها، وحتى في مكونات هذه المؤسسات، عندما فرض طريقة محددة لإنشاء جيش الشرق الذي شكل بنية الجيش العربي السوري لاحقًا، وبقيت هذه البنية مؤثّرة في الجيش العربي السوري إلى يومنا الحاضر، وكذلك قوات الشرطة، حيث فرض الانتداب بنية محددة، ولم يكن الانتداب بعيدًا عن فرض القانون الواجب التطبيق، والمنظومة القضائية كاملة، من مؤسسات الدولة وبنيتها.

لم يُتَح لسورية الوقت لبلورة ما يلائم السوريين انطلاقًا من تركيبتهم الديموغرافية الطارئة، وحدودهم الجغرافية المفروضة عليهم، وعلاقاتهم الاجتماعية الممتدة إلى قرون. إذ وقعت النخب القومية بأفكارٍ عابرة للحدود وتجارب وحْدَوية فاشلة، ولم تكن النخب الإسلامية أفضل حالًا، فقد تكلمت هذه النخب عن الأمة الإسلامية ومصلحتها، قافزةً فوق الحدود جميعها، من دون أن يرتبوا أوراقهم الداخلية في حدودهم الجغرافية ودولتهم المستحدثة، وقد غاب أي طرح منطقي قابل للتطبيق من النخب الليبرالية، ولعل هذه هي التيارات السائدة على الساحة السورية مذ ولادة سورية الدولة.  أحدث هذا الأمر فراغًا استطاعت الديكتاتورية أن تملأه، وائدةً الحوارات الفكرية، والتنظير العلمي الدافع إلى تطور مفهوم الدولة، والمجتمع بصورة طبيعية.

 

سورية الثورة

انطلقت الثورة السورية، ولم تؤسس للشعب السوري، بمكوناته جميعها، مؤسّسات دولة يشعر بالانتماء إليها، إذ بقيت مؤسّسات الدولة جميعها، وبنيتها الفكرية، مغتصَبة من حزب البعث بنص المادة الثامنة من الدستور، وبقيت هذه المؤسسات ملكًا شخصيًا للمؤسسة الأمنية بنص قانون الطوارئ، وكمت أفواه المطالبين بالتغيير بنص القانون 49 عام 1980 حيث تستطيع الجهات الأمنية إلصاق تهمة الإخوان المسلمين، أو التعامل معهم بأي رافعٍ صوته، فيكون حكمه الإعدام.

ويخوض السوريين نضالهم ضد الديكتاتورية، والأجندات الدولية والإقليمية، تقتحمهم من كل جانب بما في هذه الأجندات جميعها من اللبس، ولعل أبرز مواضع اللبس خلط مكونات الدولة الحديثة بمنتج واحد، والضغط لفرض هذا المنتج على سورية والسوريين، من دون السماح لهم بالتعامل مع مكونات الدولة الحديثة بالصورة الموافقة لواقعهم، إذ يستطيع المراقب أن يجد لبسًا حاصلًا في التعبير عن كل من العلمانية والديموقراطية، ونجد حاجة إلى تحرير هذه المصطلحات للوقوف على نقط الخلاف بين الدين ومنظومة الدولة الحديثة من جهة، ونقط التوافق بين الدين ومفهوم الدولة الحديثة من جهة ثانية. ولا سيّما أن الدين موجودٌ بقوة في ثقافة الشعب السوري بمكوّناته جميعها، وإذا عددنا أن مكونات الدولة الحديثة هي ثلاثة ليست مجتمعة، وهي العلمانية، الديمقراطية والليبرالية؛ يجب علينا فهم العلاقة بين الدين والدولة بصورة أوضح.

 

1- العلمانية

هدفها الأول والأهم هو فصل الدين عن الدولة، بمعنى نزع الحصانة الإلهية عن أجهزة الدولة، ومن يتزعمها كائنًا من كان، فيصبح هذا الفهم للعلمانية متوافقًا مع الدين الإسلامي إلى درجة التطابق بدليل نصوص تشريعية كثيرة؛ إذ ورد في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون. فقال ((لو لم تفعلوا لصلح))، قال فخرج شيصًا. فمر بهم فقال ((ما لنخلكم؟)) قالوا: ((قلت كذا وكذا)). قال: ((أنتم أعلم بأمر دنياكم)).

فلا عصمة في أمور الدنيا للحاكم، ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كانت الصورة واضحة لصحابة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إذ أن الحباب بن المنذر بن الجموح في غزوة بدر قال: ((يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلًا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فننزله، ثم نغور ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أشرت بالرأي. فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس، فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه، ثم أمر بالقلب فغورت، وبنى حوضًا على القليب الذي نزل عليه، فملئ ماء، ثم قذفوا فيه الآنية))، والأمر واضح أنه ما لم يكن وحيًا لا خلاف في فهمه وهذا ظاهر في سؤال الحباب ((ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه)).

لا عصمة لشخص أو مؤسسة من مؤسسات الدولة، ولا ناطق باسم الدين في منظومة الدين الإسلامي المكون الرئيس لثقافة أغلبية الشعب السوري.  وقد يقول قائل إن العلمانية منظومة متكاملة، فأنا أفهم أنّ هذه المنظومة في إحدى صورها متمصلحة مع الدين غير معادية له، بدليل العلمانية الأنكلوسكسونية.

 

2- الديمقراطية  

وإذا عددنا هذا المكون مفردةً في منتج حضاري، فإن الديموقراطية تبقى آلية لاختيار الحاكم، وتطوير أداء أجهزة الدولة، والمنافسة في خدمة المجتمع، فإنه لا يمكن لمدّعٍ أن يجد أي نهي في الشرع الإسلامي عن هذه الآليّة، بل تعدّ هذه مما يصطلح عليه بعلم الآلة التي يتوجب على المسلمين الأخذ بالحديث المستجد منها، التي غلَبت منافعها على مثالبها، وتبقى الديمقراطية إحدى القيم، ما اتفق السوريون على أنها الوسيلة الأفضل للتعبير عن آرائهم ورغباتهم.

 

3- الليبرالية

تنص على أن الشعب هو صاحب السلطة المطلقة، وأن ما ترى أغلبية المجتمع أن لها مصلحة فيه؛ فيقنن ويصبح شرعًا يُعمل به، وأن ما يراه في غير مصلحة المجتمع، وتجمع الأغلبية على منعه؛ فيُجرّم فاعله بحكم القانون ويعاقب، فإنه يتناقض من حيث المبدأ مع المرجعية الإسلامية حيث قال الله عز وجل ((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ))[1]. ويحدد هذه القاعدة قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ما نهيتكم عنه، فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم. رواه البخاري ومسلم)).

 

فالمرجعية الإسلامية تحدد المحرمات الثابتة بنصوص غير قابلة للشك، محددات للمجتمع غير قابلة للتغيير بنصوص القوانين التي يمكن أن تصدر عن الهيئات التشريعية في الدولة الحديثة، وهنا يمكن أن نرى تناقضًا واضحًا بالمبادئ بين السياسيّين أصحاب المرجعية الإسلامية وبين السياسيّين الليبراليين، يتوقف هذا التناقض عند المبادئ، ولا ينسحب إلى الأفعال حيث يقر الشرع الإسلامي بحق التعبير عن الرأي، ولو كان مخالفًا لما يعدّه المسلمون من المحرمات القطعية أو العكس، يصرح بما لا يريد، ولو كان عند المسلمين من الحلال الطبيعي عندهم، وهذا ما تدل عليه النصوص ومنها حادثة الأعرابي الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعرب له عن رغبته الدخول في الإسلام، لكنه لا يريد ترك ممارسة الزنا، وعلى الرغم من رغبة الصحابة في عقاب هذا الأعرابي الجريء بالتعبير عن رأيه، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم -بمعنى المشرع- منعهم من ذلك، ولم يَنْهَ الرجل عن التعبير عن رأيه، وإذا كان هناك من يستشهد بذلك على أن الأعرابي رجع في نهاية الحوار عن رأيه، فإن حادثة الرجل ناتئ الجبين أو ناشز الجبهة غائر العينين، الذي لم يرجع عن رأيه في أن رسول الله يجب أن يتقي الله، وقد أخبر الشارع أنه سيكون من أبناء فكر هذا الرجل من يغالي ويتطرف، لكنه رفض أن يقتله، بمعنى أن المشرع الإسلامي لم يمنع أو يحرم التعبير عن الفكر، ولو كان مناقضًا لما ثَبُت حكمه، ويبقى الساسة من أصحاب المرجعية الإسلامية ملتزمين بالدفاع عن آرائهم بما لا يصل إلى العنف الجسدي، الذي نهى عنه المُشَّرع الإسلامي في الحوادث المشابهة جميعها، كما يبقى لأصحاب الرأي المخالف حق التعبير عن آرائهم مهما كانت، ولعل هذا يخلق فضاء العيش المشترك بين الطرفين، ويمنع بنصوص قطعية الوصول إلى العنف الجسدي.

للدولة الحديثة مفردات وآليات عمل متفقة بالغايات، من حيث إعطاء مزيد من الحريات للشعوب، وتقييد أكبر للسلطات، لكنها ليست محكمة، ولا ذات تفسير وحيد ووجه محدد، فمن العلمانية نماذج، والديمقراطية ليست ذات شكل وحيد، إضافة إلى أنها متطورة، وتتأقلم مع واقع البلاد والأمم. كما إن عدّ مصطلحات الدولة الحديثة وحدة واحدة لا تتجزأ تصور منقوص، يؤدّي إلى نتائج سلبية، قد تصل إلى حدّ الصدام مع ثقافة المجتمع السوري، قد يدفع إلى صراع مجتمعي لا ينتهي.

مكونات الشعب السوري متعدّدة طائفيًا ودينيًا وعرقيًا، إلاّ أن سورية ليست حالًا فريدة في الدول، وليس هناك دولة صافية عرقيًا أو ذات دين وحيد، بل من مقومات الدول تنوع شعوبها وأعراقها، حيث يزيد هذا من غناها الفكري، وينوّع مصادرها البشرية ذلك المصدر الأهم لبناء الدول.

لقد غاب الحوار الوطني والتفاعل الفكري عن سورية والسوريين مذ 1958، وانشغلت النخب بتفاصيل الأحداث منذ اندلاع الثوة السورية المباركة، وقد تحتاج هذه النخب بشرائحها الفكرية والعمرية جميعها إلى مزيد من التفاعل والحوارات لتحرير مصطلحات الدولة الحديثة الخيار الأفضل للسوريين، لكن بما ينسجم مع الحال السورية، فالتطرّف الديني مرفوض، وكذلك التطرّف العلماني مرفوض، والاعتقاد بوجود حلول جاهزة نستطيع نسخها من بلد ما، ونلصقها على الحال السورية مرفوض أيضًا.

الدكتور سعد وفائي: مجاز في الصيدلة، يعدّ رسالة الدكتوراه. عضو مؤسس للحزب الوطني للعدالة والدستور. يشغل منصب الأمين العام للحزب ورئيس المكتب السياسي. ناشط سياسي لمدة طويلة قبل الثورة السورية.

التوبة: 31 ([1])